كل تغيير في أداة يقتضي بالضرورة تغيراً في نشاطها، وليس بالضرورة أن يكون ذلك بالطريقة التي نتخيلها. الكتب الإلكترونية والمكتبات الافتراضية وأجهزة (الآي باد) تسمح لنا بالقراءة بطُرق لم يكن لنا أن نقرأ بها من قبل، يمكننا الآن حمل مكتبات كاملة في جيوبنا، ويمكننا الوصول لمجلدات محتجبة في أبعد المكتبات من غرف نومنا. رغم ذلك يشكو القراء المتمرسون أن الأدوات الحديثة لا تتمتع بالمزايا الحسّية للكتاب المطبوع، كاللمسة الشهوانية، والرائحة المؤنسة، و الفروق التراتبية بين الكتاب ذو الغلاف الورقي والكتاب ذو الغلاف المقوى، كما تفتقد السمات الأرستقراطية للكتب المجلدة بالجلد والصفحات الأخيرة المعرقة كالرخام.
لابد أن شكاوى مماثلة سبق سماعها من قراء الألواح السومريين عند ظهور اللفافات الورقية، ومن قُراء اللفافات الورقية الرومانيين عند ظهور الرُقوق الجلدية. لقد ارتاع الاشتراكي جورج أورويل لصدور كتب الجيب عن دار (بنجوين). قال أورويل في العام 1935 "بصفتي كاتباً أُعلنهم ملعونين، قد تكون النتيجة فيضاناً من الطبعات المعادة الرخيصة التي ستشل مكتبات الاستعارة، ويمكنك مراجعة منتوج الروايات الجديدة".
للوسائط الإلكترونية مشكلاتها ككل التقنيات بطبيعة الحال، فهي تتطلب عناية فائقة بالتقنية ذاتها (كل تلك التحديثات، وكل تلك التحسينات الجديدة)، وتقدم للقراء الوهم غير الصحيّ أن باستطاعتهم امتلاك أي كتاب في العالم تقريباً (بما أن أي كتاب يمكن استحضاره بلمسة إصبع)، كما لا تُقر فضائل الصعوبات الفكرية، كالقراءة المتأنية، والتفكُّر في صفحة ما، وتذكُّر مقاطع ومقارنتها ذهنياً بمقاطع أخرى، والحفظ عن ظهر قلب سواءً للتعلُّم أو للمتعة، وتلخيص نص أو التعليق عليه (لسرعتها الفائقة وانعدام القدرة على التمييز).
وحتى سمات حرية القارئ فقد ضمّتها التقنية الحديثة. القراءة كنزوة تأسرنا، فتح الكتاب على صفحة ما وإغلاقه عند صفحة أخرى، التنقل من فصل إلى آخر يسبقه أو يليه، تخطي فقرات تبدو مملة أو مبهمة أو غير ذات صلة بالموضوع، كل تلك السمات صارت مزايا لاواعية للآلة. مُر النص الإلكتروني أن "يجد" أو "يذهب إلى" وسيطيعك ككلب مدرب جيداً، وككلب مدرب جيداً كذلك، فإن التقنية الإلكترونية تحفز القراء على تفويض أساسيات صنعتهم ببعض من الغطرسة في قول النبيل فييه دي ليل آدم: "الحياة؟ لدينا من يقوم بذلك عنّا".
تخطٍّي الفقرات والصفحات وحتى تخطي كتب بأكملها مزية أرفض التخلي عنها: لا أريد آلة (أو كلب) تقوم بذلك بدلاً مني. منذ ما يزيد على قرن مضى اعترف القِس (سيدني سميث): "لم أقرأ أبدا كتابا إلا بعد أن أكتب عنه عرضا نقديا في البداية، لكي لا أكون متحيزا للكتاب"وكعادة سميث (أحد الكتاب الأكثر فكاهة في اللغة الإنجليزية) فهو ليس مسلياً فقط، بل هو مُحق كذلك. فإن نقد كتاب بما يتجاوز حبه أو عدم حبه يتطلب منا بالفطرة أن نستبطن موضوعاً نفترض تناول هذا الكتاب له. ولأجل أن يكون هذا الاستبطان مفيداً لقارئ آخر، لا يجب أن يكون تكراراً ببغائياً للكتاب المقصود، ولكن يجب أن يكون محاولة تأملية، وسعي لاقتراح مجموعة من البداهات والمعارف المتصلة بالموضوع. كقارئ للنقد لا أهتم كثيراً بقراءة ملخص شخص آخر لكتاب ما رغم أن ذلك قد يكون كاشفاً أيضاً، كما لخص شكسبير الإلياذة بقوله: موضوع النقاش كله ديوث وعاهرة".
التخطي فن يقوم به القراء بطرق مختلفة، على سبيل المثال:
• القراءة الخاطفة: قد تقدم لمحة سريعة من (دفتر ملاحظات ليوباردي ) فكرة معقولة عن النمط والمحتويات، وهذا يكفي بالتأكيد لتكوين رأي. كذلك قراءة باولو وفرانشيسكا لكتاب (لانسلوت) ، معاينة سريعة عرف كلٍ منهما عن طريقها أن فكرة القصة الرومانسية علاقة حب تتطلب التصرف. ربما لذلك شَعَر دانتي بهذا الأسى تجاههم كما يجب للقارئ المتعمق.
• القراءة غير المكتملة: قد لا يكون الفصل الأول والأخير من رواية (الخطيبان) كافيان لمعرفة تفاصيل الحبكة، ولكنهما كافيان بالتأكيد للدفع بنا لحبها أو نبذها. تبجج بورخيس أنه حاضَر عن رواية (يقظة فينيغان) دون قراءتها ما يزيد على فصلين أو ثلاثة.
• القراءة المتعاطفة: الكتاب التي تشكل جزءاً من ثقافتنا كالإنجيل ورأس المال وألف ليلة وليلة ودون كيخوتة صارت تخصنا لأنها تخص الآخرين كذلك، لذلك يمكننا أن نقول مخلصين "فاوست كتاب مهم" دون أن نضطر لمطالعته قبلها. وتلك بالمناسبة هي الطريقة التي يحكم بها دانتي على مؤلفات هوميروس التي لم يقرأها مطلقاً.
• القراءة الاجتماعية: بحسب المجموعة التي تحتضن أو تهزأ بكتاب معين، ويمكننا الانحياز إلى أحد الطرفين بينما لم يسبق لنا قراءته. يمكننا إدانة رواية (شفرة دافنشي) لدان براون والثناء على رواية (موت فيرجيل) لهيرمان بروخ، وذلك دون مطالعة أيٍ منهما، لأننا على دراية أن روبيرتو كالاسكو يزدردي الأول ويُقر الثاني. يمكن تسمية هذه الطريقة كذلك: القراءة الموالية.
• القراءة المُضللّة: عادة ما يغرينا كتاب بالتضليل ما لما له من مكانة، فنقول كذباً إننا سبق وقرأناه. يشبه ذلك اللعبة الأكاديمية "إذلال" التي جرت في رواية دايفيد لودج "تبادل المواقع "، وتتألف هذه اللعبة من اعتراف بكتاب شهير لم يسبق لنا قراءته، نحن لا نود أن نبدو غير مثقفين، ولا نجرؤ على القول أننا لم نقرأ (هاملت) أبداً، ولكن يمكننا القبول بالاعتراف أن (رسالة في اللاهوت والسياسة) لسبينوزا لا يوجد عادة على الطاولة المجاورة لسرير نومنا.
• القراءة السياسية: نتيجة لما تستثيره كتب بعينها من سخط مثل (آيات شيطانية) لسلمان رشدي، و(تقشير البصلة) لجونتر جراس، فإن القراء يتخذون موقفاً سابقاً للقراءة، أي أنهم يكوّنون رأياً على أساس نقمة شخص آخر على كتاب يبدو أن أحداً لم يسبق له قراءته. ومن بين كل أنواع "التخطي" فإن هذا النوع -الذي يمكن الاصطلاح على تسميته: القراءة المبنية على الإشاعات- هو ذلك النوع الذي يمكن أن يثبت خطأه تماماً لأولئك الذين يتوصلون أخيراً للكتاب ويجلسون لقراءته.
هل يمكننا استعادة مزايا القراءة التي يبدو أننا فقدناها إلى حد ما؟ لا شك أن ذلك بإمكاننا: باستبطان الأوامر التي نصدرها للحاسوب، وبالاختيار الواعي عند قراءة صفحات مطبوعة أو القراءة على الشاشة، وبأن نسأل ذواتنا (بأن نعيد صياغة ما قاله ديدرو) "ولكن من سيكون السيد؟ أداة القراءة أم القارئ؟"، وكذلك بأن نتذكر أننا لا نزال بعيداً عن الفصل الأخير، وأن قرّاء جدد بعد سنوات عديدة من الآن سيتطلعون إلى أدواتنا الإلكترونية ويتساءلون عمّا كنا نفعله بتلك الآلات عتيقة الطراز.
والحقيقة الجوهرية فيما يخص القراءة أن الأدوات وحدها تتغير وأن فعل صياغة أعمق عواطفنا وأكثر مخاوفنا سرية في كلمات، واستعادة خبراتنا، واستحضار الراوي الذي يحادثنا رغم غيابه، ظل راسخاً منذ أيام القارئ السومريّ الأول، حتى أن خطاب في أوائل القرن الثامن عشر قبل الميلاد يكرر ما يقوله كل قارئ اليوم عند تلقي بريد إلكتروني من صديق مُحب. "لقد جلب لي بولاتال خطابك، وأنا سعيد جداً، وقد شعرت كما لو كنا قد التقينا سوياً وتعانقنا"، ذلك الفعل السحري اليومي الذي يسمح لنا باللقاء والعناق عبر الزمان والمكان لا يزال يميزنا كبشر.
لابد أن شكاوى مماثلة سبق سماعها من قراء الألواح السومريين عند ظهور اللفافات الورقية، ومن قُراء اللفافات الورقية الرومانيين عند ظهور الرُقوق الجلدية. لقد ارتاع الاشتراكي جورج أورويل لصدور كتب الجيب عن دار (بنجوين). قال أورويل في العام 1935 "بصفتي كاتباً أُعلنهم ملعونين، قد تكون النتيجة فيضاناً من الطبعات المعادة الرخيصة التي ستشل مكتبات الاستعارة، ويمكنك مراجعة منتوج الروايات الجديدة".
للوسائط الإلكترونية مشكلاتها ككل التقنيات بطبيعة الحال، فهي تتطلب عناية فائقة بالتقنية ذاتها (كل تلك التحديثات، وكل تلك التحسينات الجديدة)، وتقدم للقراء الوهم غير الصحيّ أن باستطاعتهم امتلاك أي كتاب في العالم تقريباً (بما أن أي كتاب يمكن استحضاره بلمسة إصبع)، كما لا تُقر فضائل الصعوبات الفكرية، كالقراءة المتأنية، والتفكُّر في صفحة ما، وتذكُّر مقاطع ومقارنتها ذهنياً بمقاطع أخرى، والحفظ عن ظهر قلب سواءً للتعلُّم أو للمتعة، وتلخيص نص أو التعليق عليه (لسرعتها الفائقة وانعدام القدرة على التمييز).
وحتى سمات حرية القارئ فقد ضمّتها التقنية الحديثة. القراءة كنزوة تأسرنا، فتح الكتاب على صفحة ما وإغلاقه عند صفحة أخرى، التنقل من فصل إلى آخر يسبقه أو يليه، تخطي فقرات تبدو مملة أو مبهمة أو غير ذات صلة بالموضوع، كل تلك السمات صارت مزايا لاواعية للآلة. مُر النص الإلكتروني أن "يجد" أو "يذهب إلى" وسيطيعك ككلب مدرب جيداً، وككلب مدرب جيداً كذلك، فإن التقنية الإلكترونية تحفز القراء على تفويض أساسيات صنعتهم ببعض من الغطرسة في قول النبيل فييه دي ليل آدم: "الحياة؟ لدينا من يقوم بذلك عنّا".
تخطٍّي الفقرات والصفحات وحتى تخطي كتب بأكملها مزية أرفض التخلي عنها: لا أريد آلة (أو كلب) تقوم بذلك بدلاً مني. منذ ما يزيد على قرن مضى اعترف القِس (سيدني سميث): "لم أقرأ أبدا كتابا إلا بعد أن أكتب عنه عرضا نقديا في البداية، لكي لا أكون متحيزا للكتاب"وكعادة سميث (أحد الكتاب الأكثر فكاهة في اللغة الإنجليزية) فهو ليس مسلياً فقط، بل هو مُحق كذلك. فإن نقد كتاب بما يتجاوز حبه أو عدم حبه يتطلب منا بالفطرة أن نستبطن موضوعاً نفترض تناول هذا الكتاب له. ولأجل أن يكون هذا الاستبطان مفيداً لقارئ آخر، لا يجب أن يكون تكراراً ببغائياً للكتاب المقصود، ولكن يجب أن يكون محاولة تأملية، وسعي لاقتراح مجموعة من البداهات والمعارف المتصلة بالموضوع. كقارئ للنقد لا أهتم كثيراً بقراءة ملخص شخص آخر لكتاب ما رغم أن ذلك قد يكون كاشفاً أيضاً، كما لخص شكسبير الإلياذة بقوله: موضوع النقاش كله ديوث وعاهرة".
التخطي فن يقوم به القراء بطرق مختلفة، على سبيل المثال:
• القراءة الخاطفة: قد تقدم لمحة سريعة من (دفتر ملاحظات ليوباردي ) فكرة معقولة عن النمط والمحتويات، وهذا يكفي بالتأكيد لتكوين رأي. كذلك قراءة باولو وفرانشيسكا لكتاب (لانسلوت) ، معاينة سريعة عرف كلٍ منهما عن طريقها أن فكرة القصة الرومانسية علاقة حب تتطلب التصرف. ربما لذلك شَعَر دانتي بهذا الأسى تجاههم كما يجب للقارئ المتعمق.
• القراءة غير المكتملة: قد لا يكون الفصل الأول والأخير من رواية (الخطيبان) كافيان لمعرفة تفاصيل الحبكة، ولكنهما كافيان بالتأكيد للدفع بنا لحبها أو نبذها. تبجج بورخيس أنه حاضَر عن رواية (يقظة فينيغان) دون قراءتها ما يزيد على فصلين أو ثلاثة.
• القراءة المتعاطفة: الكتاب التي تشكل جزءاً من ثقافتنا كالإنجيل ورأس المال وألف ليلة وليلة ودون كيخوتة صارت تخصنا لأنها تخص الآخرين كذلك، لذلك يمكننا أن نقول مخلصين "فاوست كتاب مهم" دون أن نضطر لمطالعته قبلها. وتلك بالمناسبة هي الطريقة التي يحكم بها دانتي على مؤلفات هوميروس التي لم يقرأها مطلقاً.
• القراءة الاجتماعية: بحسب المجموعة التي تحتضن أو تهزأ بكتاب معين، ويمكننا الانحياز إلى أحد الطرفين بينما لم يسبق لنا قراءته. يمكننا إدانة رواية (شفرة دافنشي) لدان براون والثناء على رواية (موت فيرجيل) لهيرمان بروخ، وذلك دون مطالعة أيٍ منهما، لأننا على دراية أن روبيرتو كالاسكو يزدردي الأول ويُقر الثاني. يمكن تسمية هذه الطريقة كذلك: القراءة الموالية.
• القراءة المُضللّة: عادة ما يغرينا كتاب بالتضليل ما لما له من مكانة، فنقول كذباً إننا سبق وقرأناه. يشبه ذلك اللعبة الأكاديمية "إذلال" التي جرت في رواية دايفيد لودج "تبادل المواقع "، وتتألف هذه اللعبة من اعتراف بكتاب شهير لم يسبق لنا قراءته، نحن لا نود أن نبدو غير مثقفين، ولا نجرؤ على القول أننا لم نقرأ (هاملت) أبداً، ولكن يمكننا القبول بالاعتراف أن (رسالة في اللاهوت والسياسة) لسبينوزا لا يوجد عادة على الطاولة المجاورة لسرير نومنا.
• القراءة السياسية: نتيجة لما تستثيره كتب بعينها من سخط مثل (آيات شيطانية) لسلمان رشدي، و(تقشير البصلة) لجونتر جراس، فإن القراء يتخذون موقفاً سابقاً للقراءة، أي أنهم يكوّنون رأياً على أساس نقمة شخص آخر على كتاب يبدو أن أحداً لم يسبق له قراءته. ومن بين كل أنواع "التخطي" فإن هذا النوع -الذي يمكن الاصطلاح على تسميته: القراءة المبنية على الإشاعات- هو ذلك النوع الذي يمكن أن يثبت خطأه تماماً لأولئك الذين يتوصلون أخيراً للكتاب ويجلسون لقراءته.
هل يمكننا استعادة مزايا القراءة التي يبدو أننا فقدناها إلى حد ما؟ لا شك أن ذلك بإمكاننا: باستبطان الأوامر التي نصدرها للحاسوب، وبالاختيار الواعي عند قراءة صفحات مطبوعة أو القراءة على الشاشة، وبأن نسأل ذواتنا (بأن نعيد صياغة ما قاله ديدرو) "ولكن من سيكون السيد؟ أداة القراءة أم القارئ؟"، وكذلك بأن نتذكر أننا لا نزال بعيداً عن الفصل الأخير، وأن قرّاء جدد بعد سنوات عديدة من الآن سيتطلعون إلى أدواتنا الإلكترونية ويتساءلون عمّا كنا نفعله بتلك الآلات عتيقة الطراز.
والحقيقة الجوهرية فيما يخص القراءة أن الأدوات وحدها تتغير وأن فعل صياغة أعمق عواطفنا وأكثر مخاوفنا سرية في كلمات، واستعادة خبراتنا، واستحضار الراوي الذي يحادثنا رغم غيابه، ظل راسخاً منذ أيام القارئ السومريّ الأول، حتى أن خطاب في أوائل القرن الثامن عشر قبل الميلاد يكرر ما يقوله كل قارئ اليوم عند تلقي بريد إلكتروني من صديق مُحب. "لقد جلب لي بولاتال خطابك، وأنا سعيد جداً، وقد شعرت كما لو كنا قد التقينا سوياً وتعانقنا"، ذلك الفعل السحري اليومي الذي يسمح لنا باللقاء والعناق عبر الزمان والمكان لا يزال يميزنا كبشر.