الطيب صالح - عطف في غير محله

* طغى حب المعرفة لدي على الكره، واستيقظ عندي الحس الروائي فاصبحت أنظر إلى "مستر سين" كأنه شخص في رواية. أراقبه يصول ويجول، ويحر ويبرد – كان حقيقة يرغي ويزبد – وأتعجب، وأقول لنفسي:
"ما الذي جعل هذا الرجل هكذا؟ ما الذي حدث له في حياته فجعله بهذه التعاسة ؟"
ويا للغرابة، أصبحت أحس تجاهه إحساساً لا يبعد عن الرثاء.
مرة طلب منه المدير العام، دون سابق إنذار، أن يحضر فوراً ليعرض قضية في المجلس التنفيذي. هكذا كان أحمد مختار أمبو، يعامل مساعديه الأوروبيين والأمريكان خاصة، بشدة تقرب من الشراسة، من قبيل الدفاع عن النفس، فقد لاقى منهم ما لاقى.
طلب مني "مستر سين" أن أصحبه ،فقد كانت القضية تتصل بعملي.
دخلت معه المصعد، وكان بادي الاضطراب، محمر الوجه صدره يعلو ويهبط، يحمل حقيبتين منتفختين بالأوراق، واحدة باليمين وواحدة باليسار.
وكان علينا أن نسير على الأقدام مسافة من حيث نحن إلى مكان الاجتماع في المبنى الرئيس.
عطفت لحاله، وقلت له:
"تسمح أحمل عنك إحدى الحقيبتين؟"
نظر إلي متعجباً، وتردد قليلاً ثم أعطاني الحقيبة.
مشى يهرول، وأنا أسارع الخطى لألحق به، وأسمع صوت شهيقه وزفيره. كان قد جاوز الستين. دخلنا مبنى "فونتنوا" وعبرنا فناءه الواسع وقاعاته المتعددة ودهاليزه الطويلة، حتى وصلنا إلى قاعة المجلس التنفيذي.
أعشت الأضواء عيناي وهلة، ثم جولت نظري في الحاضرين.
رأيت وجوهاً أعرفها. منهم الرجل الكريم عبد العزيز حسين عضو المجلس عن دولة الكويت. ابتسمت له وابتسم لي بطريقته الودودة دائماً.
كان المدير العام، أحمد مختار أمبو متصدراً المائدة المستديرة، متحفزاً مستأسداً، ممسكاً بمجامع المكان.
نظر إلينا ونحن ندخل. كنت أقابله لماماً في المناسبات، ولا يكاد يعرفني.فيما بعد سافرنا معاً وحججنا معاً وأعجبت به وصرنا صديقين، وأصبحت أدعو صراحة لإعادة انتخابه، وهو
أمر لم يحببني إلى قلوب المعسكر المناوئ وهو معسكر الغالبين.
رشق المدير العام "مستر سين" بنظرة تخلو من أي ود، ولم يمهله حتى يستقر في مقعده، بل قال له فوراً "هيا".
أحسست بعطف شديد نحو صاحبي.
هذا موقف ليس سهلاً. المجلس التنفيذي هو أعلى سلطة في المنظمة. يصنع القرارات ويرسم السياسات، يأتمر المدير العام والسكرتارية بأمره. ماذا يفعل " مستر سين" المسكين، وقد جاء يهرول حتى انقطع نفسه.
تعلقت به الأبصار وساد الصمت. وضع الحقائب على الأرض بجواره.لم يفتحها ولم يأخذ منها أي ورقة يستعين بها. أخذ يتحدث ارتجالاً.
كان صوته هادئا محايداً.تحدث نحو ربع ساعة، فعرض الموضوع عرضاً بيناً مقنعاً. وحين فرغ من حديثه، أقر المجلس التوصية المقدمة دون أي اعتراض.
عدنا أدراجنا نمشي على مهل، وإن كان "مستر سين" حتى في الظروف العادية، يمشي على عجل، كأنه يطلب شيئاً أو يهرب من شيء، نظرت إليه برهة, ربعة القامة أقرب إلى القصر متجمعاً على ذاته آخذاً نفسه بالشدة. يرى الأمر جللاً ولا يميز أنه ما من أمر يستحق كل هذا العناء يخاف الشيخوخة، وأوضح ذلك من مبالغته بالعناية بثيابه ومظهره. يرعبه الموت، لابد حين يجيئه الموت فلن يكون مستعداً له. استبقاه "أمبو" بعد سن الستين لحاجة في نفس يعقوب.
عرضت أن أحمل عنه إحدى الحقيبتين، كما فعلت من قبل. رفض وألححت فرفض بإصرار أدهشني.
سبحان الله. كأنه لا يأمنني على أوراقه. فكيف استأمنني عليها ونحن رائحان؟
قلت لعل تلك التجربة الإنسانية الفريدة التي ربطت بيننا وهله- رجلان يهرولان كل منهما يحمل حقيبة مملوءة بأوراق لا قيمة لها في موازين الحياة والموت – قلت لعلها تمتد، فأنظر إلى "مستر سين" نظرة جديدة.
أبداً. عاد صاحبي إلى سيرته الأولى. أول ما دخلنا مبني "ميوليس" حيث هو مساعد للمدير العام، اهتز وربا، وسرى في عينيه البريق، وفي وجهه الدماء.
لم يتركني استمرئ إحساس العطف الذي أحسست به تجاهه، وهو يركض كأنه تلميذ تأخر عن المدرسة.
متى أتعلم ألا أشفق على أناس هم في واقع الأمر أقدر مني وأكثر حيلة على تقلبات العيش؟
وكنت أريد أن أساله: لماذا حمل كل تلك الأوراق وهو لم يستفد منها شيئاً؟

الطيب صالح
15/09/2007
أعلى