د. علي حسين يوسف - أقانيم الشعر من حزن الحكاية إلى الضحك في المرآة.. قراءة في الحالة الشعرية عند جبار الكواز

حين تتسع الرؤيا الشعرية لتشمل الوجـود بأسـره فـإنّ الشعر وقتئذ يرى ويسمع ويجوس الأمكنة بأريحية الكائن الخالد الذي لا يضل كينونته ولا ينفصل عن الحضور الأبدي فالحقيقة شيء عائم لا طعم له ما لم تستوعبها التجربة الشعرية النابعة من الحضور في الأشياء, فالتماهي خيـر بذاتـه رغم انمحاء الفرادة مثلما التعالق حسن رغم غيبوبة التوحد لكن هذا كلـه يسوغ في التجربة الشعرية التي تخلق ذواتنا فيها مع كل قراءة .
مع التجربة الشعرية للشاعر العراقي جبّـار الكـوّاز ثمـة إذعـان يسـوقنا وتبصر يتحصل لنا حين نقف أمام أناشيد التضـرع التي تبتهل للحكايـات كي تؤدي ما يختلج داخل النفوس وحين نمعن التخيل في فردوس التجـوال بين الأمكنة الودودة ونتصفح الوجوه التي تبعث فينـا المشاعر المتضاربة وحين نضحك في المرآة لنصـوغ مـن الطـيـن حكايـا لمدينة الحلـة وحـين تضيق الغابة وتتسع الظلال حينها فقط وبكل خفة ورهافة يمكن أن نجزم أن بعض الشعر بخيـر وأننـا أمـام شـاعر حـقـاً بيد أن الكـوّاز مـن خـلال مجاميعه الأربعة التي صدرت مؤخرا (أحزان صائغ الطين, ومـا أضـيق الغابـة مـا أوسع الظلال, وورقة الحلـة , ومن الضاحك فـي المرآة) لا يتقصـد الشـعر ولا يتعسف القـول ولا يماطل أو يعاظل مـن أجـل التقـاط المفردات واصطياد الصـور بـل أن إهـاب النشـوة يغمره فتتوهج حينهـا الكلمات لتنساب باسمة على الورق ولتتخلـق أقنومـات شـتى ثريـة كلهـا بالإيحاءات المكان بوصفه نبعا سيالاً لصور اللحظات القارة في الذاكرة يتجلى لنا مثل مرايا متقابلة في المجاميع كلها لكنه ينعكس كشـاخص حاضـر فـي (ورقـة الحلة) التي تبدأ مسافتها من باب عشـتار وتنتهي عنـد فصـل الأفـول ف(فـي البرية صارحها الخنزير الأعور قال لها تموز قد مات) ثم يمر الكواز على أسد باب الذي يخشاه البـرق وتتجنبـه الأمطـار وسـاعة البلدية النائمـة منـذ ثلاثين سنة والجنائن المعلقة التي جف الماء فيها واحترف الفلاحون سرقة الضحكة والأزهار والسوق الكبير الآسنة ضـفافه ومشهد الشمس وبـاب الحسين الذي تصير الرايات فيه عند التاسوعاء حمامات يقطرن دما وبـاب المشهد والمقام والنبي أيوب وسيد حيدر الحلـي وصـالح الكواز الـذي( مـا وشوش الكوز إلا من تألمه يشكو إلى الماء ما لاقى من النار) وهكذا تنثـال الأمكنة وتترى معالمها حتى تضج مـن لـغـب حـيـن تحـين قيامتهـا الشعرية فالأمكنة عند الكواز ليست صامتة ولا فارغة بل هي علامات سيمائية كل مكان منها يختزن عدة مفهومية في غاية الثراء , فحين يقف الشاعر عنـد أسد بابل مثلا يحكي لنا قصته معه فيقول
🙁
اسمع من تحته اجرة تبكي ورقيما يغني فمتى يقوم الميتون أدور حوله فلا أرى غير عوسج مشلول
وجنادب صرعی
وكثبان وصدى
وعظام وقصور
متى يقوم الصائمون
ليفطروا بالدم ؟) (ص17)
وهنا يتحول النص مـن اشـارة مكانية إلى احالـة معرفية رمزية تختزل تاريخا باكمله والمكان بعد ذلك يتشظى الى أمكنة فرعية فالمكـان العام هو (الحلـة) أمـا الأمكنة الفرعية فهي تلك التي تملأ الورق والذاكرة , هذا التشجير المكـاني يتماهي تماما مع التشجير النصي الذي ارتاه الكواز وهنا يمكن أن نقول أن النص - على طوله – يصح أن يكون وثيقة تأرشف (الحلـة) بكل تفاصيلها لذا نجد الأمكنة وبجانبها هوياتها بلغة الشعر, فصفي الدين الحلي بوصـفه مثابة مكانية تدل عليه :
(بيض مدامعنا
خضر ممالحنا
سود مسارجنا
حمر سواقينا) (ص36)
وكذا الحال حين يقف الشاعر عند الجامعين, يقول :
(من ألبسها ثوبين ؟
ومن حاك عباءتها الرثة ؟
ما زال النهر يصلي وهو يراها في أرذل العمر
ذاك زمان مضى
حين تباهت بالشعراء) (ص43)
وقد أحسن الشاعر جبار الكواز في صناعة نصـه المطـول (ورقة الحلـة)
الذي ختمه في فصل الأفول حيث :
(مات جرمط مسلولا وسهيل غريقا) (ص137)
وبعد أن ينفض القارئ يده من ورقة الحلة يمكن أن يستنتج أن المكان كـان هنا بيئة صالحة للتنوع وربما للتناقض أيضـا فبين سعي الشاعر إلى أن تكون (نصوصه) ممكنة محتملة وبين خياله الذي لا يطيق وهج ألامها نجد الأمكنة مثل نبع ماء ينتشي بالقصيد وإذا كان المكان أقنوما ينسل دبيبـه فـي عـروق الكائنات كمـا لحظنـاه فـي ورقة الحلـة فـإن للحكـايـة الشعرية - بوصفها أقنومـا ـ آخـر حلـولا غمـر الأحرف كلها بفيضه في مجموعته (من الضاحك في المرآة) ؛ والحكايـة هنا تبدو مثل : أسلاك شائكة أو الألوان أمس ألواننا غدا أو حينما في الحلة أو وثيقة خارج السياق أو مثل السيد أبـرة وإلى ذئـب مـا ورسالة الطيـر وأقنوم الماء وأقنوم النار وأقنوم الهواء وسانية الضوء والفاعل المنصـوب وتدعونا شراهة المتع الشعرية أن نقف عند (قفص مردوخ) ؛ مردوخ ذلـك الـذي كـان كبيـر الآلـهـة ومـولى السماء والأرض الأعظـم ، ذا الصـفات الخارقة عند البابليين, فالنص المذكور مكتوب بطريقة ملحمية يفصل بين سطوره الخط المائل ليشي بأن هناك تماثلا بين الشاعر ومردوخ بدلالة أنه يذكرنا بين الفينة والأخـرى بعلامـة رابطـة بـين الشخصيتين, ولـم لا وكلاهما بابليان :
لقلبي وهو يخاتل خلف مرايا العشب / ويقيس سعادته بمأتم تتداعى كجـدار الوهم / قلت مدعيا : أنا سعيد بقفصي / نصابا في الخمسين / أمشي على سراط مخاوفي مثـل محـكـوم هـارب مـن لـيـل الظـن / لا يفهمنـي أحـد
.(ص114)
وقد تساق الحكاية في صورة شذرية مركزة كما نجد ذلك في مجموعته (ما أضيق الغابة! ما أوسع الظلال!) فقد كان للحكاية حضور كبير تخطى حاجز الاسهاب إلى التكثيف والتلميح, فالتلميح يمثل سمة عامة في المجموعة المذكورة . يقول الكواز :
لا يغادر نادل البرق
الغيوم
إلا عندما يغني المطر (ص5)
أما التكثيف فيشكل في المجموعة المذكورة منطلقا لتداعيات مكانيـة غنيـة
بمضامينها :
لقد غرسوا
في ساحة المدينة
أشجارا بلاستيكية
إيذانا
بافتتاح حملة الحصاد (ص 49)
و أقنوم آخر هنا نكون وجه لوجه أمام التاريخ , فقد كان التاريخ ، هاجسا لم يبارحه لحظة في أعماله كلها, فقد مرت بنا (ورقة الحلة) ومرت بنا (من الضاحك في المرآة) ورأينـا كيـف أن التاريخ كـان امتدادا طبيعيا لبابلية الكواز أما في مجموعته (أحزان صائغ الطين) فنقـف للمرة الأولى عند قفص مردوخ وأنور شاؤول وعند البصرة والحلة وعنـد سنمار الذي صادفنا سابقا في (من الضاحك في المرأة), والتاريخ هنـا قـد يكون عتبة نصية ومدعاة للقول الشعري فقط ولا يشترط أن نجـد البصرة أو الحلة بتفاصيلهما بين سطور النصوص فالواقع أكثـر تشـعبـا مـن الشـعر إنما الشعر يحاول لملمة المأسي والمسرات في بضع كلمات أيقنت أن المسافة بيننا خطوة شك .(ص48و58)
والكواز في ذلك كلـه غيـر معنـي بالانفصال عن الواقع أو الاندماج فيـه فالنص عنده يمثـل وحـدة شاملة للمتناقضات جميعـا لـذا نراه يحـدثنا عن سنمار تارة ؛ سنمار الذي :
لم يكن ظلا حين أقابله / فلا شيء هنالك لا شيء هنا / بالأمس في زلتـين رأيته تخفق الطير في عيونه والآس بقيا غابة فوق أصابعه .(ص71)
وقبلها كان قد حدثنا عن السيد إبرة : الرجل الواقف فوق الأبرة سموه الإبرة
واختلط الأمر لديه
ماذا يعلن حين يشاكسه الخياط ؟ كيف يصور محنته حين يضيعه الرواف في كومة أثواب رثة ؟ (ص26)
فالعقلاني وغير العقلاني ينصهر في بوتقة الضحك فـي المـرأة لـذا لـم يعـد الواقع مشخصا بعيدا كي ينفصل عنه أو يندمج فيه رغم أن فارقا قـد يلـوح في أفق بعض النصوص كما لاح للشنفرى من ذي قبل حين خاطب سكان الفلاوات , ونجد ذلك في قول الكواز :أقنوم الماء وأقنوم النار وأقنوم الهواء وسانية الضوء والفاعل المنصـوب وأيام آدم الفاني وسنمار وما تبقى لعطيل حتى تتمظهر جليا في الضاحك في المرأة , هذه كلها عنوانات الحكايات التي اشتملت عليها هذه المجموعة التي بنيت بطريقـة فـذة حيـث التشكيل الخـاص والتحكم في الصفحات والأسطر
فالحكاية في (من الضاحك في المرآة) طريق بعثرته الريبة ماله من نشور
فكل سواد يمر بياض / فمن علم الليل أن النجوم ظلام قبور ؟ لكن هذا التساؤل قد لا يطول, فلا تهدأ النفس حتى تكتشف بأن : الدخان لابد في صحيفة الألوان فلم يكن السواد بياضـا / فالسماء أمطـرت وقارها جثثا (ص11) .
والكواز حينما يسرد حكاياته يتماهي تماما حتى يبدو حضوره غيابا وتبـدو الحكايات عنده مثل أطياف شفيفة, وهذه وحده يكفي لأن يكون دليلا على صدقه الفني فمرة يحدثنا :
كان يا ما كان
بحار وسواق وأنهار وآبار وأهوار وبحيرات ودموع ومرة أخرى يحكي لنا عن الفاعل المنصوب والمفعول به المرفوع
فيقول الكوّاز:
الحرف حرفان ؛ قامع ومقموع.
وقد فركت فحمتي من خشية وعصرت يقطينتي كي تلدني بلا ذنوب وتوجتها بالعسر حين أيقنت أن المسافة بيننا خطوة شك .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى