المتأمل للمشهد الثقافي الثري على مستوى الإبداع ببلادنا، يلاحظ الغياب النسبي لهذا المثقف عن المشهد السياسي وما تمور به الحياة العامة من إشكالات وانشغالات، وهو الذي كان منذ الاستقلال الى الأمس القريب حامل مشعل التغيير، وأداة أساسية لتقليب رواسب الواقع وزرع شتلات الحداثة والتنوير، وإعادة بناء المفاهيم وطرح البدائل.
ولنا أن نتساءل عن سبب هذا الغياب الإرادي أو الاضطراري، وعلاقته بأزمة الثقة التي تشهدها العلاقة بين السياسة باعتبارها فن تدبير الممكن، والثقافة باعتبارها بذرة تغيير الكائن، بالإضافة الى أزمة التعليم والقراءة بشكل عام وبتعبير أدق: لمن سيتوجه هذا المثقف في ظل تدني المستوى التعليمي والمعرفي للقارئ المفترض الذي لا يستسيغ إلا الجاهز والسريع، بدءا من الهامبورغر إلى ..الفايسبوك ؟ ومن سيستوعب خطاب المثقف في الوقت الراهن الذي ينبني على إعمال ملكة النقد والتحليل، ويقبل "بأوفر دوز" من الحرية التي تعتبر شرط لزوم للإبداع؟ و ما هو دور السياسات العامة في إخراج الثقافة من ضيق النخبوية إلى رحابة الفضاء العام؟
لا يمكن إذن تحميل مسؤولية هذا الغياب للمثقف وحده. فأزمته لا يمكن فهمها إلا ضمن منظومة عامة اجتماعية، ثقافية قيمية تنظر إلى الثقافة كترف بورجوازي يأتي بعد ضمان" طرف الخبز"، في حين أنها في المجتمعات التي تحترم تاريخها وحضارتها، تعتبر المحرض الأول على هذا "الطرف ديال الخبز"، بل ترفع سقف المطالب عاليا باعتبار الثقافة تصبو دائما إلى الأمثل والأفضل. إلا أنه مع ذلك يبقى مسؤولا رئيسيا عن تراجع الوعي باعتباره ضمير المجتمع الحي، الذي يتأبط الأسئلة باحثا عن الحلول مادام يملك سلاح المعرفة الذي لا يتوفر للمواطن البسيط، وبالنظر الى وعيه الشقي الذي لا يمكن إلا أن ينحاز الى قضايا مواطنيه، لا أن ينزوي الى الخلف تاركا لقوى النكوص مهمة تدمير بنى الحداثة، ورمزية الثقافة في رد فعل على تردي الخطاب والفعل السياسيين.
تواري المثقف الملتزم الى الهامش، بغض النظر عن صوابه من خطأه، دفع الى بروز أشباه المثقفين الذين يكرسون القائم بل يساهمون في تمييعه أكثر، ويوسعون بالتالي الهوة بين الثقافة ومحيطها الذي لا تصله منها إلا إيقاعات "الجرّات" وقفزات "الهيب هوب" مع احترامنا لجميع الفنون.
سياسة التسليع والتنميط وسيادة ثقافة الاستهلاك التي تشجعها المؤسسات الرسمية، لا يمكن إلا أن تنتج جحافل من ضحايا الهدر المدرسي ممن تلفظهم المؤسسات التعليمية بعد مرحلة "البروفي" سابقا، بعد أن تكون آلة الإدمان قد أخذت منهم مأخذا، وثقافة الشارع بعنفها وضحالة تكفلت بالباقي في أفق اقتصادي مسدود وغياب برامج تأهيلية بديلة ومنتجة إلا من رحم ربك والتحق بالجامعات التي لم تعد بدروها تخرج إلا طلبة يتقنون فن "بضاعتنا ردت إلينا" يختزلون الغاية من التعليم في اجتياز الامتحانات والحصول على الشهادات، لإعادة إنتاج السائد والمكرور في جو يغيب عنه الحس النقدي والإبداعي الذي كان يميز نخبنا المثقفة وقتها، والتي استطاعت في تلك الفترة أن تشكل ديناميت التغيير على عدة واجهات، رغم اختلاف توجهاتهم وخصوصا مثقفي الأحزاب السياسية الذين شكلوا خزانا ثريا من الأفكار والتصورات ذات النفس التقدمي في مواجهة مثقفي المخزن أنذاك الذين دافعوا عن تأبيد البنيات العميقة للدولة، وأدوارها التقليدية.
المسؤولية مركبة يتحملها المثقف الذي خرج من جبة السياسي، والسياسي الذي انشغل بتدبير خلافاته وائتلافاته، والمسؤول الحكومي الذي يحدد الأولويات القطاعية.
فمتى تستيقظ الخلايا النائمة من مثقفينا لإعلان ثورة ثقافية مضادة تعيد للثقافة ألقها، وللمثقف سلطته الرمزية في رسم التحولات الفارقة في حياة المجتمعات، بعيدا عن شد السياسة وجذب الأنا العارفة؟
حفيظة الفارسي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 03 - 09 - 2015
ولنا أن نتساءل عن سبب هذا الغياب الإرادي أو الاضطراري، وعلاقته بأزمة الثقة التي تشهدها العلاقة بين السياسة باعتبارها فن تدبير الممكن، والثقافة باعتبارها بذرة تغيير الكائن، بالإضافة الى أزمة التعليم والقراءة بشكل عام وبتعبير أدق: لمن سيتوجه هذا المثقف في ظل تدني المستوى التعليمي والمعرفي للقارئ المفترض الذي لا يستسيغ إلا الجاهز والسريع، بدءا من الهامبورغر إلى ..الفايسبوك ؟ ومن سيستوعب خطاب المثقف في الوقت الراهن الذي ينبني على إعمال ملكة النقد والتحليل، ويقبل "بأوفر دوز" من الحرية التي تعتبر شرط لزوم للإبداع؟ و ما هو دور السياسات العامة في إخراج الثقافة من ضيق النخبوية إلى رحابة الفضاء العام؟
لا يمكن إذن تحميل مسؤولية هذا الغياب للمثقف وحده. فأزمته لا يمكن فهمها إلا ضمن منظومة عامة اجتماعية، ثقافية قيمية تنظر إلى الثقافة كترف بورجوازي يأتي بعد ضمان" طرف الخبز"، في حين أنها في المجتمعات التي تحترم تاريخها وحضارتها، تعتبر المحرض الأول على هذا "الطرف ديال الخبز"، بل ترفع سقف المطالب عاليا باعتبار الثقافة تصبو دائما إلى الأمثل والأفضل. إلا أنه مع ذلك يبقى مسؤولا رئيسيا عن تراجع الوعي باعتباره ضمير المجتمع الحي، الذي يتأبط الأسئلة باحثا عن الحلول مادام يملك سلاح المعرفة الذي لا يتوفر للمواطن البسيط، وبالنظر الى وعيه الشقي الذي لا يمكن إلا أن ينحاز الى قضايا مواطنيه، لا أن ينزوي الى الخلف تاركا لقوى النكوص مهمة تدمير بنى الحداثة، ورمزية الثقافة في رد فعل على تردي الخطاب والفعل السياسيين.
تواري المثقف الملتزم الى الهامش، بغض النظر عن صوابه من خطأه، دفع الى بروز أشباه المثقفين الذين يكرسون القائم بل يساهمون في تمييعه أكثر، ويوسعون بالتالي الهوة بين الثقافة ومحيطها الذي لا تصله منها إلا إيقاعات "الجرّات" وقفزات "الهيب هوب" مع احترامنا لجميع الفنون.
سياسة التسليع والتنميط وسيادة ثقافة الاستهلاك التي تشجعها المؤسسات الرسمية، لا يمكن إلا أن تنتج جحافل من ضحايا الهدر المدرسي ممن تلفظهم المؤسسات التعليمية بعد مرحلة "البروفي" سابقا، بعد أن تكون آلة الإدمان قد أخذت منهم مأخذا، وثقافة الشارع بعنفها وضحالة تكفلت بالباقي في أفق اقتصادي مسدود وغياب برامج تأهيلية بديلة ومنتجة إلا من رحم ربك والتحق بالجامعات التي لم تعد بدروها تخرج إلا طلبة يتقنون فن "بضاعتنا ردت إلينا" يختزلون الغاية من التعليم في اجتياز الامتحانات والحصول على الشهادات، لإعادة إنتاج السائد والمكرور في جو يغيب عنه الحس النقدي والإبداعي الذي كان يميز نخبنا المثقفة وقتها، والتي استطاعت في تلك الفترة أن تشكل ديناميت التغيير على عدة واجهات، رغم اختلاف توجهاتهم وخصوصا مثقفي الأحزاب السياسية الذين شكلوا خزانا ثريا من الأفكار والتصورات ذات النفس التقدمي في مواجهة مثقفي المخزن أنذاك الذين دافعوا عن تأبيد البنيات العميقة للدولة، وأدوارها التقليدية.
المسؤولية مركبة يتحملها المثقف الذي خرج من جبة السياسي، والسياسي الذي انشغل بتدبير خلافاته وائتلافاته، والمسؤول الحكومي الذي يحدد الأولويات القطاعية.
فمتى تستيقظ الخلايا النائمة من مثقفينا لإعلان ثورة ثقافية مضادة تعيد للثقافة ألقها، وللمثقف سلطته الرمزية في رسم التحولات الفارقة في حياة المجتمعات، بعيدا عن شد السياسة وجذب الأنا العارفة؟
حفيظة الفارسي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 03 - 09 - 2015