صالح لبريني - إدريس الخوري: أيقونة القصة المغربية

استهلالٌ:

افتقدت الثقافة المغربية ليلة الثلاثاء 14 فبراير 2022، الكاتب والقاص والإعلامي إدريس الخوري (1939- 2022) مما يعتبر خسارة كبرى لكافة المثقفين والمبدعين المغاربة والعرب، نظرا لمكانته الإبداعية في مجال القصة وما أضفاه عليها من جماليات فنية، بل يعدّ إلى جانب محمد زفزاف ومحمد شكري من أبرز رواد الكتابة الواقعية فيها. وقد خلّف للمكتبة العربية متونا قصصية تنماز بالجِدّة والأصالة.

(1) بادريس البدوي الطبع والبديهة:

بادريس هكذا يناديه خلّانه وأعداؤه، كاتب مشاغب في الكتابة والحياة، تمرّس في دروب الحياة إنسانا مقاوما وشبيها بكتيبة جيش، يحارب على كافة الجبهات، سلاحه الإصرار والإرادة القوية والعزيمة التي لا تخمد، مندفع في آرائه إلى حدود الجنون، ومواقفه التي تغضب الصديق قبل العدو، ولا يتوانى عن الصدح بوجهة نظره دون أن يرتاب أو يخاف لومة أحد، يقولها دون أن يلتفت لأحد ، هو كالنهر الجامح،صافي السريرة، لا أسرار له، سوى البوح بما يؤمن به حتّى ولو بلغ به الأمر إلى القطيعة، كاتب متمرّد ذو مزاج حادّ، نذر وجوده للكتابة، لا يبتغي منها منصبا ولاكرسيّا ولا جاها، قدره أن يكون منسجما مع معتقداته في الإبداع وتصوراته التي تمثل خلفية تؤثث رؤيته للحياة والكتابة. لكن الذي لايعرف بادريس عن قرب سيرميه بشتى النعوت والأوصاف، متكبّر، متعنّت، عنيد، متقلب مزاجيّ، والحقيقة أنه إنسان طيّب خلوق، محبّ للحياة وشغوف بعيشها في رحابتها، وسعتها التي لاتحدّ، كريم في عزلته التي اختارها بعيدا عن صداع الرأس وتقليب المواجع، وهو الإنسان المبدع الذي عايش الأحداث والوقائع والمنعطفات اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، وتلظى بلهيبها وحرائقها وحدائقها، غير أن الرّجل ظل وفيّا لروحه المرحة، وصوته الأجش الذي يحمل في حبائله أصوات البادية المترعة بالنوايا الحسنة والطيبة المدبوغة بتربة الأرض المغربية، كما التزم طريقة مختلفة في العيش مقارنة مع أقرانه، طريقة بوهيمية تثير الكثير من الاستفهامات والأسئلة المتعلقة بشخصه، هذه الوقائع والصفات التقطتها بعد أن سنحت لي سياقات ثقافية التقيت به وجالست بادريس وتحديدا بمناسبة الاحتفاء بتجربته ببني ملال، فلمست فيه أخلاق الإنسان البدوي وأنفته وعزّته، حديثه مشوب بباروديا عجيبة أي بالسخرية السوداء، صاحب نكتة تجعلك طريقة روايتها غارقا في هستيريا غريبة، لأن قائلها يعرف كيف يعجنها ويضع توابل السرد والحكي ثم يقذفها في وجهك حامية لكنها تكون بردا وسلاما على سامعيها، ومما زاد من تقرّبي إليه هو نصائحه العميقة التي منحني إياها، إذ أوصاني بألا أبالي بكلام «كبار» الكتاب، فهم في الغالب ما يكذبون ، قال لي : شق طريقك بمفردك، لا تحتذي أحدا، ودع صوتك ينبع من داخلك، ثم اكتب ما تعتقد أنه كتابة أو إبداعا، وبضحكة مجلجلة يصفعني بسخرية إنني أكذب عليك مادامت الكتابة كذابة إن صحّ سجع الكّهان، كلمات مازال صداها قابعا في الذاكرة.

(2) بادريس رائد القصةالواقعية:

لا يمكن للمتتبع لمسار الإبداع القصصي أن يتجاوز تجربة إدريس الخوري القصصية، فهو يعدّ من التجارب الإبداعية المهمة في تاريخ القصة المغربية، بل يشكّل إلى جانب المحمّدين، زفزاف وشكري، ثلاثيا سرديا بامتياز، ثلاثي أسس لكتابة قصصية تنحت خطابها من الواقع، لكن لكل تجربة بصمتها وتوجهها في كتابة الواقع، فشكري ظل لصيق كتابة سيرية منفتحة على المجتمع في الوقت الذي انشغل زفزاف والخوري بتصوير الواقع وما يعتمل في المجتمع من تغيرات سواء على مستوى القيم والإنسان. فطبعت كتابتهم مسار القصة المغربية. ولابد من الإشارة إلى أن الخوري شقّ طريقا بطريقة في الأسلوب جعلته يختلف عن قرينيه، ففي متونه القصصية نلمح سمة التلميح والإيحاء وتستبطن العمق في الرؤية وزاوية النظر، تكشف عن أن الكاتب يمتلك ثقافة معرفية وبصرية متجذّرة تنهل من روافد ثقافية متنوعة من الحكاية والفنون التشكيلية وفن التصوير والشعر والفلسفة والفكر الوجوي، مما خصّب خطابه القصصي ومنحه القدرة على استغوار المخبوء والمهمش والمنسي في الثقافة المغربية، بعبارة أخرى إدريس الخوري كاتب متعدّد ومختلف، تعدّده يكمن في تشبعه بالعمل الصحفي الذي أبدع وأعطى وقدّم نفسا مغايرا إلى جانب عبد الجبار السحيمي، وانفتاحه على الفنون التشكيلية التي زادته قدرة واستطاعة على تشريح ثقافة الصورة واللوحة، كل هذا كان له تأثير على كتابة القصة التي ظلّ مخلصا لها رغم امتلاكه القدرة على كتابة الرواية، لكن صاحب «حزن في الرأس والقلب» و»ظلال» و»مدينة التراب» و»بدايات» و»الأيام والليالي» وغيرها من الأعمال ارتأى الإخلاص إلى معشوقته التي أفنى حياته من أجلها دون أن يبدلها تبديلا.
وما يميز كتابته الانغماس في الواقعية الممزوجة بمتخيل ثقافي يستقي وجوده من التراث والموروث الشعبي والفني، إذ ظلّ رائيا ومنصتا ومتدبرا تموجات الواقع المغربي، راصدا إياه عبْر لغة سردية نجد فيها الكثير من التكثيف والجمال الفني، ولا عجب في هذا مادام كاتبنا متشبّعا بثقافة موسوعية تخوّل له إبداع ما لم يكن في السرد القصصي. ومحاكاة الواقع لا تدل على الاستنساخ الحرفي له، ولكن المقصو د المحاكاة ذات البعد الفني والجمالي، الذي يضفي أبعادا دلالية على الخطاب، من خلال، عمليتي التحوير والتثوير، تحوير الواقع ليصبح واقعا متخيّلا بطعم مختلف عما هو كائن يفضي إلى ممكن قصصي مدبوغ بالجمال والفن، وتثوير لبنية النص القصصي ليغدو أكثر طراوة في السرد وعمقا في الرؤية.
إن رحيل بادريس خسارة كبرى للثقافة المغربية بشكل عام وللقصة المغربية بشكل خاص، لأن الرجل علم من أعلامها ورائد من روادها، ومثقف من مثقفيها أسدى لها الشيء الكثير مما خلّفه من مظان في القصة والنقد الفني والمقالة الصحفية، ولعلّ هذا ما بوّأه مكانة متميزة في المجال الثقافي المغربي والعربي، هي خسارة لرجل من طينة استثنائية منحتنا مبدعا فريدا في العطاء والإبداع.

(3) القصة في حالة حداد:

سألقي التحية عليك، في انتظار قدومك القادم من جهة الآتي، مكلّلا بوردة الحياة، توزّع ضحكاتك هنا وهناك، في طنجة شكري ، وكازا زفزاف، ومْسَلْمِينْ الرباط، ترسم لوحاتك اللغوية بأريحية الواقع، وخيال منتصف الحلم، وتترك العالَم يسقط في شِراك الحروب والصراعات، لتخلد في مقامك الأبدي نقيا طاهرا وطائرا يزورنا كلما أحسسنا بغربة الوجود. وقمرا يضيء سماءنا الملبّدة بغيوم قاحلة. واعلم أن خلّانك وأصدقاءك سيذكرونك كلّما هزّهم يأس الواقع ومرارته، بؤس العالَم وجنونه، سيحتمون ب»مدينة التراب» في تلك «الأيام والليالي» منتظرين خروج «يوسف من بطن أمه» ومتحلقين حول «كاس حياتي» تحت «ظلال» «فضاء» «حزن في الرأس و القلب» لتكون «البدايات» طريقا نحو معانقة عوالمك القصصية الممتعة.
بادريس
القصة حزينة هذه الليلة، السارد في حالة ذهول ، الشخصيات في حداد مباغت قوّض فرح الأحداث ومساراتها، الحبكة ضاعت بسقوط خبر رحيلك، اللغة عاطلة عن المجاز والواقع والخيال، القصة في حالة حداد أبدي.
كتبت فعشت ورحلت، كتبت كتابة منبثقة من صلب جراحات الوطن، وعشت حيوات ألهمتك الكثير من الوقائع والأحداث لتصوغها بأسلوبك الفريد ونظرتك الثاقبة، ورحلت شامخا، سامقا ومتفردا في كل شيء.
ستظل كتابتك خالدة وسارية الأثر والتأثير في قارئ حقيقي و محتمل.
شكرا لك بادريس منحتنا الحياة ونمنحك محبتنا وخلودك في ذاكرة الإبداع المغربي.


صالح لبريني
18/02/2022

أعلى