أ. د. لطفي مَنْصور - مِنَ الشِّعْرِ الصُّوفِيِّ الْمُجَرَّدِ مِنْ صُوفِيَّتِهِ: (النّادِراتُ الْعَيْنِيَّةُ في الْبَوادِرِ الْغَيْبِيَّةِ)

قَصِيدَةٌ تَضُمُّ خَمْسَمِائَةً وَأَرْبَعَةً وَثَلاثِينَ بَيْتًا، عَلى بَحْرِالطَّوِيل، نَظَمَها الشَّيْخُ الصُّوفِيُّ قُطْبُ الدِّينِ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجِيلِي (ت ٨٣٢ هج، تُنْظَرُ تَرْجَمَتُهُ الْوافِيَةُ في مُعْجَمِ الْمُؤَلِّفينَ لِعُمر كحالة ٥: ٣١٣)
النّادِراتُ جَمْعُ النّادِرَةِ وَهِيَ طُرْفَةٌ أوْ نْكْتَةٌ أوْ قَوْلٌ قَلَّتْ أَمْثالُهُ، وَالْعَيْنِيُّةُ لِأَنَّها عَلى حَرْفِ الْعِيْنِ ، الْبَوادِرُ ما بَدَرَ عَنِ الشّاعِرِ مِنَ الْأَقْوالِ الْمُغَيَّبَةِ التي لا يَفْهَمُها الْقارئُ الْعاديُّ، وَتَحتاجُ إلى شَرْحٍ صُوفِيٍّ لُأَنَّها رُموزٌ. طُبِعَتِ القصيدَةُ في دار الْأَمينِ ، الْقاهِرَة (١٩٩٩م).
اِخْتَرْتُ مِنْها عَشْرَةَ أَبياتٍ هيَ الْأولَى لُأُعْطِيَ الْقارِئَ نَظْرَةً تُعَرِّفُهُ بِالشِّعْرِ الصُّوفي.
وَلا بُدَّ مِنْ كَلِمَةٍ أقُولُها في الصُّوفِيَّةِ الْمُتَطَرِّفَةِ الّذِينَ كانُوا سَبَبًا في تَخَلُّفِ الْأُمَّةِالإسْلامِيَّةِ وَلا يَزالُونَ، فَإنِّي لا أُومِنُ بِشَطَحاتِهِم، وَلا أُومِنُ بِمَقاماتِهُم، وَلا وَجْدِهِمْ وَرَقْصِهَمْ وَخُزَعْبَلاتِهِمْ. يَكْفِيهِم ما قالَ فِيهِم عَبْدُ الرَّحْمَنُ بنُ الْجَوْزي في كِتابِهِ تَلْبُيسُ إبْلِيسَ، أَنَّهًُم واعُونَ في سُكْرِهِمُ الصُّوفيِّ، فَلَوْ كان بِجانِبِهِمْ بِئْرٌ لَمْ يَقَعُوا فِيها.
كِما أنِّي أَسيرُ في شَرْحِ شِعْرِ غَزَلِهِمِ الصُّوفِيِّ وِفْقَ الْمَذْهَبِ الظّاهِرِيِّ، وَلا يَجُوزُ التَّغَزُّلُ بِالْحَضْرَةِ الْإلَهِيَّةِ أِوِ الرَّمْزُ إلَيْها بِسَلْمَى وَلَيْلَى وَهِنْدٍ.
مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فّإنِّي أُقَدِّرُ الْقيمَةَ الْفَنِّيَّةَ وَالْجَمالِيّّةَ لِلشِّعْرِ الصُّوفيِّ، إذا أَخَذْنا بِظاهِرِهِ فقط، فَهُوَ لا يَقِلُّ جَوْدَةً عَنْ أَيِّ شِعْرٍ آخَرَ.
يَقُولُ الشّاعِرُ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجِيلِي:
- فُؤادٌ بِهِ شَمْسُ الْمَحَبَّةِ طالِعٌ
وَلَيسَ لِنَجْمِ الْعَذْلِ فِيهِ مِواقِعُ
(الشَّمْسُ مَجازِيُّ التَّأْنِيثِ، نِقُول: طَلِعَتِ الشَّمْسُ، وَطَلَعَ الشَّمْسُ، شَمْسُ الْمَحّبِّةِ: قُوّّةُ الْمَحَبَّةِ وَوُضُوحُها.هذا الْحُبُّ لا يَلومُ أَحَدٌ شاعِرَهُ لِطَهارَتِهِ.
- صَحا النّاسُ مِنْ سُكْرِ الْغَرامِ وَما صَحا
وَأَفْرَقَ كُلٌّ وَهُوَ في الْحانِ جامِعُ
(أَفْرَقَ: تَفَرَّقَ الْقَوْمُ بَعْدَ صَحْوَةٍ مِنَ السُّكْرِ، أمّا الْحَبيبُ فَبَقِيَ في الْحانَةِ مَعَ النَّدامَى. أَفْرَقَ وَجَمَعَ مُصْطَلَحانِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ لَهُما عَلاقَةُ بِالْآيَةِ: إيّاكَ تَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ، الْكَريمَةِ منْ سُورَةِ الفاتِحَةِ، الحانُ: الْحانَةُ)
- حُمَيّا هَواهُ عَيْنُ قَهْوَةِ غَيْرِهِ
مُدامٌ دَوامًا تَقْتَنِيها الْأَضالِعُ
(الْقَهْوَةُ: الْخَمْرُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّها تُقْهِي شارِبَها عَنِ الطَّعام. قالَ أبُو نُواسٍ: مِنَ الطَّوِيل
أَدِرْها وَخُذْها قَهْوَةً بابِلِيَّةً
لَها بَيْنَ بُصْرَى وَالْعِراقِ كُرومُ
وانظُرْ كِتابَ تَنْوِيرِ البَصائِر وَكتاب الجَليس في تحريمِ الْخّنْدَرِيس بِتَحْقيقِنا وَدِراسَتِنا وَضَبْطُنا: مادَّةُ:قَهْوَة، الْحُمَيّا: الشِّدَّةُ، المُدامُ: الَّتي عُتِّقَتْ في الدِّنانِ ، تَقْتَنيها: تَقْبَلُها)
- هَوًى وَصَباباتٍ وَنارَ مَحَبَّةٍ
وَتُرْبَةَ صَبْرٍ قَدْ سَقَتْها الْمَدامِعُ
(نَصَبَ هَوًى مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ لِلْفِعْلِ تِقْتَنِي في البيْتِ السّابِقِ . الضَّمِير في سَقَتْها يَعُودُ إلى تُرْبِة. وَهِيَ رِمْزٌ لِلصُّوفُيِّينَ الّذِينَ يُكْثِرُونَ الْبُكاءَ)
- وَأَوْلَعَ قَلْبي مِنْ زَرُودٍ بِمائِهِ
وَيا لَهْفِي كَمْ ماتَ ثَمَّةَ والِعُ
(أَوْلَعَ: تَعَلَّقَ بَعْدَ إغْراءٍ، زَرودٌ: مَكانٌ في مَكَّةَ، لَهْفِي:حُزْنِي وَحَسْرَتي)
- وَلي طَمَعٌ بَيْنَ الأَجارِعِ عَهْدُهُ
قَدِيمٌ وَكَمْ خابَتْ هُناكَ الْمَطامِعُ
(الطَّمَعُ: زِيارَةُ الْحَبِيبِ، الْأَجارِعُ جَمْعُ الجَرْعاءِ وَهِيَ الْأَرْضُ الرَّمْلِيَّةُ الَّتي لا تُنْبِتُ شَيْئًا. قالَ ذُو الرُّمَّةِ: مِنَ الطَّويل
أَلا يا اسلَمِي يا دارَ مَيٍّ عَلى الْبِلَى
وَلا زالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعائِكِ الْقَطْرُ
دَعا لِصاحِبَتِهِ مَيَّةَ بِالسُّقْيا)
- أَيا زَمَنَ الرَّنْدِ الَّذِي بَيْنَ لَعْلَعٍ
تَقَضَّى لَنا هَلْ أَنْتَ يا عَصْرُ راجِعُ
(الرَّنْدُ شَجَرٌ طَيِّبُ الرّائِحَةِ يُذَكِّرُ بِريحُ الْحَبيبِ، لَعْلَعٌ اسمُ مَكانٍ ، تَقَضّى: فاتَ وَانْتَهَى، السُّؤالُ إنْكاري)
- لَقَدْ كانَ لي في ظِلِّ جاهِكَ مَرْتَعٌ
هَنِيءٌ وَلي بِالرَّقْمَتَيْنِ مَرابِعٌ
(الْمَرْتَعُ: لِقاءٌ مَعَ الْأَحِبَّةِ. الرَّقْمَتانِ: مَكانانِ يَجْتَمِعُ فيهِما الْماءُ. قالَ زُهَيْرٌ: مِنَ الطَّويلِ
وَدارٌ لَها بِالرَّقْمَتَيْنِ كَأَنَّها
مَراجِعُ وَشْمٍ في نَواشِرِ مِعْصَمِ)
-أَجُرُّ ذُيُولَ اللَّهْوِ فيساحَةِ اللِّقا
وَأَجْنِي ثِمارَ الْقُرْبِ وَهْيَ أَيانِعُ
(اللَّهَ عَلى رِقَّةِ هذا الْبَيْتِ!!! الذُّيول ما لامًسَ الْأَرْضَ مِنَ الثِّيابِ، يَمْشِي الْخُيَلاءَ لِلِقاءِ أحِبَّتِهِ)
وَبَعْدُ،
هَذا هُوَ الشِّعْرُ الصُّوفِيُّ عَلى حَقيَتِهِ: حُبٌّ وَرِقَّةٌ وَجَمالٌ، أَحَبُّوا كَما يُحِبُّ النّاسُ. ظاهِرُهُمْ يَقولُ هذا بِوُضُوحٍ ، وَلَوْلا الْخَوْفُ مِنَ الْإطالَةِ لَشَرَحْتُ أَبياتًا أُخْرِى، وَالنّتيجَةُ واحِدَةٌ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى