العنوان: المخلّص
جاء العنوان خبرا على شكل اسم فاعل معرف، حتى يأخذ المخلص بعدا كونيا..
الاستهلال:
" هذا ملاك. قالها الكاهن الأكبر أمام القرية كلها وهو يرفعني بكلتا يديه أمام الناس أثناء الاحتفال بمولدي. كان احتفالا ضخما. تحلقت حولي النساء مهللين، كما تجمع الرجال، وقد علت على وجوههم سيمات الاستبشار" من خلال هذه المقدمة، أدخلنا القاص خالد العجماوي مباشرة في صلب حدث فاتازي، موفرا على نفسه الإسهاب الذي لا تتحمله القصة القصيرة، مغريا بذلك القارئ، معلنا عن منعرج جديد وتحول في القرية، بعد ظهور البطل الرئيسي محور الحكي، والماسك بزمام السرد -الأنا ضمير المتكلم- رافعا الالتباس عن العنوان، راسما ملامح البيئة والجمهور موحيا بصراع وبعقدة.
الرمز:
كما قام الكاتب بانتخاب عدد من الرموز بقصد الإيحاء، حتى يشحن ذهن القارئ بالصور، كي يمنحه فرصة التفاعل الجدلي بعد التأمل في أفعال شخوص القصة القصيرة ونعني بذلك جمهور القرية المتكون من الكاهن الأكبر رمز السلطة الدينية المتحكم الرئيسي هنا في توجيه الرأي العام والخاص لأهالي القرية، المتحكم في نوعية الخطاب الذي تستوجبه المرحلة التاريخية كما صورها السارد في زمن الحكي، فالكاهن الأكبر من خلال قوله وفعله وتجمهر الكل حوله، بدا لنا متقنا لفن الخطابة وتحريك مشاعر الجمهور بالعزف على وتر تفعيل الحلم لديهم الذي ينبئ بقرب الخلاص على يد الطفل المختلف صاحب الإبهام، وقد تيسر للكاهن الأكبر ذلك عن طريق استقطابهم جميعا، وذلك بزرع "بريق الأمل في المستقبل" في أعينهم ليحصد "سيمات الاستبشار لديهم" ليبدو حاذقا لفن الاتصال، وعارفا بسايكولوجية الجمهور مفعلا خطابا جامعا يطمئن به مجتمع القرية بجنسيه -نساء ورجالا- غارسا بذرة القيادة لدى السارد البطل المحوري، منذ لحظة الاحتفال بمولد السارد وحركة رفعه من قبل الكاهن الأكبر، نافخا بذلك في الشخوص الروح من خلال تصويره للحركة وللانفعال، هذا وقد ركز زوم عدسته على الاختلاف المتمثل في ولادة السارد بإبهام، وفي هذا رمز ودلالة على كمال السارد وتميزه، فبواسطة الابهام تيسرت له عملية مسك القلم و مقبض السيف فهذا الأخير لن ينفلت من يده في المستقبل أبدا.. مما سيحسن عملية الآداء لديه مقارنة بأهل القرية، التي "كانت أصابعهم الأربعة تلتف على القلم كخنجر"
نلاحظ حسب السياق أن مجيئ السارد إلى هذه الحياة كمخلص كان مرتقبا منذ ثلاث سنين، فبمجرد إعلان الكاهن الأكبر عن النبإ، منح جمهور القرية -الناقص سهل الانقياد- جرعة من التفاؤل، لذلك سارع هذا الأخير ونقصد جمهور القرية بالتوجه إلى السماء، خاضعا متضرعا حامدا شاكرا معلقا على المولود الحديث آمالا كبيرة، إذ بفضل كفه مكتمل البناء، الذي يحتوي على خمسة أصابع سيتقن كل فعل على حسب زعمهم ومعتقدهم الذي زكاه الكاهن الأكبر وباركه، وقد كرر الأب على مسامع ابنه الطفل كل ليلة الجملة التالية: "على أطراف أصابعك تتعلق آمال القرية وأمجادها" ليرسخ لدى ابنه فكرة أنه المخلص، داعما إياها بترداد "أنت مبارك من الرب" ليبث لديه الحماس، هذا الموقف آزره الأحبار، الشيء الذي قوى لدى الطفل إيمانه بذاته إلى غاية أن استعادت القرية بالفعل مجدها وهيبتها على يديه. هذه النتيجة تذكرنا بصلاح الدين الأيوبي وما غرسته أمه فيه من حماس، حتى استطاع استرجاع بيت المقدس، بعد أن احتلها الصليبيون.
فالطفل بطل القصة منذ نعومة أظفاره وبلوغه سن الخامسة أوكلت له مهمة كتابة تاريخ القرية بما في معنى كتابة التاريخ من دلالة تشير إلى خضوع المؤرخ لضغوطات الآمر غير الموضوعية، كما نسخ كتاب الصلوات ملبيا بذلك أمر الكاهن الأكبر المتحكم في الكل.. فعملية النسخ هي الأخرى أيقونة دلالية تشير إلى الامتثال ونقل حرفا بحرف من دون إعمال عقل..
ومن خلال رصد السارد لسلوك وانفعال الكل، نرى القاص منح قارئه فرصة الوقوف والتأمل عند كل وصف لهضم سايكولوجية الجمهور.. التي تذكرنا بكتاب سيكولوجية الجماهير لغوستاف لو بون Gustave le Bon.، كما قام بتحيين الشغف والإثارة عبر فضول القارئ من خلال حبكة، راعى فيها القاص فن القص والتشويق، عبر تقسيم موضوعه تقسيما موضوعيا، احترم فيه تدرج القص الكلاسيكي من الاستهلال إلى الخاتمة، مراعيا ربط السبب بالنتيجة، حتى يكسب ثقة القارئ، لحمله على تصديقه خالقا أزمة مركبة، أنتجت صراعا داخليا ناجما عن عجز البطل في غرس أرضه، فانطفات بذلك جذوة الرغبة لديه كما لدى حريمه، ما انجر عنه زعزعة احترامهن له لفشله في تحقيق المهمة الأقدس على حسب رأي الكاهن.. حتى صار يخيل إليه أنه يرى شفقة في نظرات بعض حريمه، ويسمع همهماتهن كما تهيأ له أنه لمح "في لحاظهن التهكم" فبعد أن ألف الزهو والافتخار باانتصارته، نراه منكسرا محطما مفعلا المونولوج، لسبر أغوار البطل المتكلم وطاقة الحواس طارحا سؤالا فلسفيا وجوديا، يصور عبثية القدر وسخريته ممن صنعت أصابعه مجد قربة فألانت الحديد والخشب، غير أنه عجز في أن تلن له مهمته الأخيرة، وفي هذا يقول: " نظرت إلى أصابعي التي صنعت المجد للقرية. أدق الحديد في قوة بعد أن كان في النار فيلين لي، فلماذا لم تلن لي مهمتي الاخيرة؟
كما نراه وظف تفنية القفز "تأخرت في المجيء قرابة الثلاث سنوات،
وعمري خمس سنوات، أكملت عامي الثامن عشر،" معتمدا التلخيص بغرض التكثيف مركزا نظره لرمق ما يفيد احتدام الصراع، مستنطقا الزمن، ليرصد تطور سلوكيات نوعين من الجمهور: أحدهما يمثل جمهور أصحاب القرار بشقيه الكاهن، واللملاك المنقذ والثاني يمثله بقية اأهالي القرية، فالشق الأول واع بدوره وبرغباته، عارف بفنون القيادة وبسيكولوجية الحاكم والجمهور العريض، -ذلك الجمهور العاجز عن التفكير بمفرده،- الذي هو في حاجة دائمة لزعيم روحي وزعيم سياسي حتى يتخفى وراءه كؤ يقوده إلى بر الأمان، حتى وإن باعه وهم السعادة تحت أي عنوان، شريطة أن لا يزعجه بأفكار راديكالية مباغتة ترجه، فتسلبه راحته وتخيفه..جمهور سريع التأثر لا يستقر على حال، يلتف حول أي زعيم مختلف قوي له نفوذ يهابه إلى درجة الخوف والتأليه.. ليساهم الجمهور العريض في نحت شخصية الدكتاتور الذي يسلمه رقبته ليعبث بها باستسلامه المبالغ فيه نتيجة الخوف من بطشه..
وحيث أن هذا الجمهور غير مضمون فهو جاهز لتغيير رأيه والابتعاد عن قائده بمجرد الشعور بضعفه باحثا عن زعيم جديد قوي غيره.. وكأن رغبة التغيير لديه مقترنة بضعف الحاكم، لا بظلمه وبجبروته، فمن خلال هذا الوعي نرى القائد والملاك المخلص البطل المحوري سوف ينتقل على عين المكان حيث ظهور الطفل بإبهام ليتحول من إنسان من ملاك إلى مجرم لا يختلف عن الشيطان في غدره، غير أنه سيبرر فعلته بادعائه سيدعي انه هوى على يد الشيطان بخنجره كما تمسك العامة القلم فهو هنا لم يستخدم االإبهام فبالتالي هوى من عرش الملاك المخلص إلى هوة الشيطان والجريمة مخافة أن يفقد مكانته الرمزية..
سهيلة حماد..تونس في ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٢
*******
النص:
هذا ملاكٌ مبارك. قالها الكاهن الأكبر أمام القرية كلها وهو يرفعني بكلتا يديه أمام الناس أثناء الاحتفال بمولدي. كان احتفالا ضخما. تحلقت حولي النساء مهللين، كما تجمع الرجال وقد علت على وجوههم سيمات الاستبشار. نظر جميعهم إلى كف يدي الصغير وقد التمع في عيونهم بريق الأمل في المستقبل الزاهر. تأملوا أصابعي في زهو. ثم نظروا إلى السماء في تذلل الشاكرين. تأخرت في المجيء قرابة الثلاث سنوات، ولكن ها أنا قد وصلت في الأخير، حاملا في كفي أسباب المجد. كان أبي لا يكاد ينام على فراشه كل ليلة إلا بعد أن يلتقط كفي الصغير بين أصابعه، ثم يعد بصوت عال: واحد.اثنان. ثلاثة. أربعة. خمسة! أرأيت؟! أنت مبارك من الرب. أنت الملاك المخلص!
أمسكت بالقلم وعمري خمس سنوات. كانت أصابعهم الأربعة تلتف عليه كخنجر، أما أناملي الخمسة فكانت تحتويه. قال الكاهن إن الحروف عندي دقيقة ومنمقة. كأنها تكاد تنطق بين أصابعي. أمرني فنسخت كتاب تاريخ القرية، كما نسخت كتاب الصلوات.
- على أطراف أصابعك تتعلق آمال القرية وأمجادها.
رددها أبي على مسامعي كل ليلة، وقد اصطبغت بالأحبار. تركت حياة الراحة والمكون. أصابع النجار الأربعة تخلق أشكالا قد تصلح للحياة، ولكن أصابعي الخمسة تجعلها تنبض بالروعة والإتقان. لامست أصابعي الخشب والحديد فألتناهما في أشكال ناطقة بالجمال والدقة. كانت المطرقة تطاوعني في ثبات. كما أن كفي يقدر على وضع الأحجار على كتفي العاري في مهارة.
صار عمري خمسة عشر. رمقني الكاهن في زهو، كما نظر إليّ في تردد. هل حانت لحظة الامتحان؟
أمسكت بمقبض سيفي فشعرت به قطعة مني، كما حملت درعي على ذراعي فأصبحت فارس القرية المهيب.
حانت لحظة النصر الموعودة. السيف لا ينفلت، وقد تعالت صيحات الظفر بعد كل معركة. لقد استعادت القرية هيبتها. أو بالأحرى نشأت لها هيبة على يدي.
أكملت عامي الثامن عشر، ورأى الكاهن أن المهمة الأقدس قد حانت. أشار إليهن وقد اصطففن أمامي كحبات اللؤلؤ، وأشار إليّ أن اختر أي من الصدفات تريد. نظرت إليهن فوجدتهن يرمقنني كأنني مَلَك؛ وشفاههن تكاد تنطق بالغنج. واحدة فقط لم تكن تنظر إلي؛ ولذلك اخترتها.
كنت عنيفا في ليلتنا الأولى. كأنني أعاقبها لأنها لم تبد افتتانها بإبهامي. مضت ليالينا وقد زدت عنفا وضراوة. تعودت الانتصار، كما ألفت الزهو والافتخار. ولكن لماذا لا يلوح أي نصر في الأفق؟ مرت شهور ولم تظهر في أحشائها بشارة. قال الكاهن إنه علي أن أختار مجددا، فمهمتي الأقدس لاتزال تنتظر إنجازي. اخترت أخرى، وغزوتها وقد قررت الانتصار هذه المرة. ولكن بدت وكأنها قاحلة. أو كأنها بذور في أراض بور، أو كأنه لابذور! اخترت أخرى، وأخرى.
شعرت بغصة في نفسي لم أكن لأعتادها في سنيني الماضية.
أمسكت الفئوس واستزرعت أراضينا، وحملت سيفي وانتصرت في معاركنا، ثم لما أردت أن أستزرع أرضي عجزت، كما أني في معركتي الخاصة هزمت!
انطفأت جذوة رغبتي، حتى هن؛ صرت كأنني أسمع بينهن بعض الهمهمات، ووجدت في بعضهن نظرات الإشفاق، وبعضهن كأنني لمحت في لحاظهن التهكم!
نظرت إلى أصابعي التي صنعت المجد. أدق الحديد في قوة بعد أن كان في النار فيلين لي، فلماذا لم تلن لي مهمتي الأخيرة!
اخترقت أذناي صوت صرخات ممزوجة بالزغاريد. وجدت نسوة يصرخن في فرح مجنون:
- طفل بإبهام!
ظهرت يداي مجددا ولكن عند غيري! وجدتهن يركضن كالمجانين قاصدات بيت الكاهن الكبير. بمجرد أن يراه الكاهن ويرفعه بكلتا يديه سيعلنه ملاك القرية الجديد.
وجدتني أقصد ذلك البيت المجاور. سمعت صوت الوليد. رمقت يديه. أصابع أربعة وإبهام.
رفعت خنجري، ثم هويت على يد الشيطان.
د. خالد عجماوي.
جاء العنوان خبرا على شكل اسم فاعل معرف، حتى يأخذ المخلص بعدا كونيا..
الاستهلال:
" هذا ملاك. قالها الكاهن الأكبر أمام القرية كلها وهو يرفعني بكلتا يديه أمام الناس أثناء الاحتفال بمولدي. كان احتفالا ضخما. تحلقت حولي النساء مهللين، كما تجمع الرجال، وقد علت على وجوههم سيمات الاستبشار" من خلال هذه المقدمة، أدخلنا القاص خالد العجماوي مباشرة في صلب حدث فاتازي، موفرا على نفسه الإسهاب الذي لا تتحمله القصة القصيرة، مغريا بذلك القارئ، معلنا عن منعرج جديد وتحول في القرية، بعد ظهور البطل الرئيسي محور الحكي، والماسك بزمام السرد -الأنا ضمير المتكلم- رافعا الالتباس عن العنوان، راسما ملامح البيئة والجمهور موحيا بصراع وبعقدة.
الرمز:
كما قام الكاتب بانتخاب عدد من الرموز بقصد الإيحاء، حتى يشحن ذهن القارئ بالصور، كي يمنحه فرصة التفاعل الجدلي بعد التأمل في أفعال شخوص القصة القصيرة ونعني بذلك جمهور القرية المتكون من الكاهن الأكبر رمز السلطة الدينية المتحكم الرئيسي هنا في توجيه الرأي العام والخاص لأهالي القرية، المتحكم في نوعية الخطاب الذي تستوجبه المرحلة التاريخية كما صورها السارد في زمن الحكي، فالكاهن الأكبر من خلال قوله وفعله وتجمهر الكل حوله، بدا لنا متقنا لفن الخطابة وتحريك مشاعر الجمهور بالعزف على وتر تفعيل الحلم لديهم الذي ينبئ بقرب الخلاص على يد الطفل المختلف صاحب الإبهام، وقد تيسر للكاهن الأكبر ذلك عن طريق استقطابهم جميعا، وذلك بزرع "بريق الأمل في المستقبل" في أعينهم ليحصد "سيمات الاستبشار لديهم" ليبدو حاذقا لفن الاتصال، وعارفا بسايكولوجية الجمهور مفعلا خطابا جامعا يطمئن به مجتمع القرية بجنسيه -نساء ورجالا- غارسا بذرة القيادة لدى السارد البطل المحوري، منذ لحظة الاحتفال بمولد السارد وحركة رفعه من قبل الكاهن الأكبر، نافخا بذلك في الشخوص الروح من خلال تصويره للحركة وللانفعال، هذا وقد ركز زوم عدسته على الاختلاف المتمثل في ولادة السارد بإبهام، وفي هذا رمز ودلالة على كمال السارد وتميزه، فبواسطة الابهام تيسرت له عملية مسك القلم و مقبض السيف فهذا الأخير لن ينفلت من يده في المستقبل أبدا.. مما سيحسن عملية الآداء لديه مقارنة بأهل القرية، التي "كانت أصابعهم الأربعة تلتف على القلم كخنجر"
نلاحظ حسب السياق أن مجيئ السارد إلى هذه الحياة كمخلص كان مرتقبا منذ ثلاث سنين، فبمجرد إعلان الكاهن الأكبر عن النبإ، منح جمهور القرية -الناقص سهل الانقياد- جرعة من التفاؤل، لذلك سارع هذا الأخير ونقصد جمهور القرية بالتوجه إلى السماء، خاضعا متضرعا حامدا شاكرا معلقا على المولود الحديث آمالا كبيرة، إذ بفضل كفه مكتمل البناء، الذي يحتوي على خمسة أصابع سيتقن كل فعل على حسب زعمهم ومعتقدهم الذي زكاه الكاهن الأكبر وباركه، وقد كرر الأب على مسامع ابنه الطفل كل ليلة الجملة التالية: "على أطراف أصابعك تتعلق آمال القرية وأمجادها" ليرسخ لدى ابنه فكرة أنه المخلص، داعما إياها بترداد "أنت مبارك من الرب" ليبث لديه الحماس، هذا الموقف آزره الأحبار، الشيء الذي قوى لدى الطفل إيمانه بذاته إلى غاية أن استعادت القرية بالفعل مجدها وهيبتها على يديه. هذه النتيجة تذكرنا بصلاح الدين الأيوبي وما غرسته أمه فيه من حماس، حتى استطاع استرجاع بيت المقدس، بعد أن احتلها الصليبيون.
فالطفل بطل القصة منذ نعومة أظفاره وبلوغه سن الخامسة أوكلت له مهمة كتابة تاريخ القرية بما في معنى كتابة التاريخ من دلالة تشير إلى خضوع المؤرخ لضغوطات الآمر غير الموضوعية، كما نسخ كتاب الصلوات ملبيا بذلك أمر الكاهن الأكبر المتحكم في الكل.. فعملية النسخ هي الأخرى أيقونة دلالية تشير إلى الامتثال ونقل حرفا بحرف من دون إعمال عقل..
ومن خلال رصد السارد لسلوك وانفعال الكل، نرى القاص منح قارئه فرصة الوقوف والتأمل عند كل وصف لهضم سايكولوجية الجمهور.. التي تذكرنا بكتاب سيكولوجية الجماهير لغوستاف لو بون Gustave le Bon.، كما قام بتحيين الشغف والإثارة عبر فضول القارئ من خلال حبكة، راعى فيها القاص فن القص والتشويق، عبر تقسيم موضوعه تقسيما موضوعيا، احترم فيه تدرج القص الكلاسيكي من الاستهلال إلى الخاتمة، مراعيا ربط السبب بالنتيجة، حتى يكسب ثقة القارئ، لحمله على تصديقه خالقا أزمة مركبة، أنتجت صراعا داخليا ناجما عن عجز البطل في غرس أرضه، فانطفات بذلك جذوة الرغبة لديه كما لدى حريمه، ما انجر عنه زعزعة احترامهن له لفشله في تحقيق المهمة الأقدس على حسب رأي الكاهن.. حتى صار يخيل إليه أنه يرى شفقة في نظرات بعض حريمه، ويسمع همهماتهن كما تهيأ له أنه لمح "في لحاظهن التهكم" فبعد أن ألف الزهو والافتخار باانتصارته، نراه منكسرا محطما مفعلا المونولوج، لسبر أغوار البطل المتكلم وطاقة الحواس طارحا سؤالا فلسفيا وجوديا، يصور عبثية القدر وسخريته ممن صنعت أصابعه مجد قربة فألانت الحديد والخشب، غير أنه عجز في أن تلن له مهمته الأخيرة، وفي هذا يقول: " نظرت إلى أصابعي التي صنعت المجد للقرية. أدق الحديد في قوة بعد أن كان في النار فيلين لي، فلماذا لم تلن لي مهمتي الاخيرة؟
كما نراه وظف تفنية القفز "تأخرت في المجيء قرابة الثلاث سنوات،
وعمري خمس سنوات، أكملت عامي الثامن عشر،" معتمدا التلخيص بغرض التكثيف مركزا نظره لرمق ما يفيد احتدام الصراع، مستنطقا الزمن، ليرصد تطور سلوكيات نوعين من الجمهور: أحدهما يمثل جمهور أصحاب القرار بشقيه الكاهن، واللملاك المنقذ والثاني يمثله بقية اأهالي القرية، فالشق الأول واع بدوره وبرغباته، عارف بفنون القيادة وبسيكولوجية الحاكم والجمهور العريض، -ذلك الجمهور العاجز عن التفكير بمفرده،- الذي هو في حاجة دائمة لزعيم روحي وزعيم سياسي حتى يتخفى وراءه كؤ يقوده إلى بر الأمان، حتى وإن باعه وهم السعادة تحت أي عنوان، شريطة أن لا يزعجه بأفكار راديكالية مباغتة ترجه، فتسلبه راحته وتخيفه..جمهور سريع التأثر لا يستقر على حال، يلتف حول أي زعيم مختلف قوي له نفوذ يهابه إلى درجة الخوف والتأليه.. ليساهم الجمهور العريض في نحت شخصية الدكتاتور الذي يسلمه رقبته ليعبث بها باستسلامه المبالغ فيه نتيجة الخوف من بطشه..
وحيث أن هذا الجمهور غير مضمون فهو جاهز لتغيير رأيه والابتعاد عن قائده بمجرد الشعور بضعفه باحثا عن زعيم جديد قوي غيره.. وكأن رغبة التغيير لديه مقترنة بضعف الحاكم، لا بظلمه وبجبروته، فمن خلال هذا الوعي نرى القائد والملاك المخلص البطل المحوري سوف ينتقل على عين المكان حيث ظهور الطفل بإبهام ليتحول من إنسان من ملاك إلى مجرم لا يختلف عن الشيطان في غدره، غير أنه سيبرر فعلته بادعائه سيدعي انه هوى على يد الشيطان بخنجره كما تمسك العامة القلم فهو هنا لم يستخدم االإبهام فبالتالي هوى من عرش الملاك المخلص إلى هوة الشيطان والجريمة مخافة أن يفقد مكانته الرمزية..
سهيلة حماد..تونس في ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٢
*******
النص:
هذا ملاكٌ مبارك. قالها الكاهن الأكبر أمام القرية كلها وهو يرفعني بكلتا يديه أمام الناس أثناء الاحتفال بمولدي. كان احتفالا ضخما. تحلقت حولي النساء مهللين، كما تجمع الرجال وقد علت على وجوههم سيمات الاستبشار. نظر جميعهم إلى كف يدي الصغير وقد التمع في عيونهم بريق الأمل في المستقبل الزاهر. تأملوا أصابعي في زهو. ثم نظروا إلى السماء في تذلل الشاكرين. تأخرت في المجيء قرابة الثلاث سنوات، ولكن ها أنا قد وصلت في الأخير، حاملا في كفي أسباب المجد. كان أبي لا يكاد ينام على فراشه كل ليلة إلا بعد أن يلتقط كفي الصغير بين أصابعه، ثم يعد بصوت عال: واحد.اثنان. ثلاثة. أربعة. خمسة! أرأيت؟! أنت مبارك من الرب. أنت الملاك المخلص!
أمسكت بالقلم وعمري خمس سنوات. كانت أصابعهم الأربعة تلتف عليه كخنجر، أما أناملي الخمسة فكانت تحتويه. قال الكاهن إن الحروف عندي دقيقة ومنمقة. كأنها تكاد تنطق بين أصابعي. أمرني فنسخت كتاب تاريخ القرية، كما نسخت كتاب الصلوات.
- على أطراف أصابعك تتعلق آمال القرية وأمجادها.
رددها أبي على مسامعي كل ليلة، وقد اصطبغت بالأحبار. تركت حياة الراحة والمكون. أصابع النجار الأربعة تخلق أشكالا قد تصلح للحياة، ولكن أصابعي الخمسة تجعلها تنبض بالروعة والإتقان. لامست أصابعي الخشب والحديد فألتناهما في أشكال ناطقة بالجمال والدقة. كانت المطرقة تطاوعني في ثبات. كما أن كفي يقدر على وضع الأحجار على كتفي العاري في مهارة.
صار عمري خمسة عشر. رمقني الكاهن في زهو، كما نظر إليّ في تردد. هل حانت لحظة الامتحان؟
أمسكت بمقبض سيفي فشعرت به قطعة مني، كما حملت درعي على ذراعي فأصبحت فارس القرية المهيب.
حانت لحظة النصر الموعودة. السيف لا ينفلت، وقد تعالت صيحات الظفر بعد كل معركة. لقد استعادت القرية هيبتها. أو بالأحرى نشأت لها هيبة على يدي.
أكملت عامي الثامن عشر، ورأى الكاهن أن المهمة الأقدس قد حانت. أشار إليهن وقد اصطففن أمامي كحبات اللؤلؤ، وأشار إليّ أن اختر أي من الصدفات تريد. نظرت إليهن فوجدتهن يرمقنني كأنني مَلَك؛ وشفاههن تكاد تنطق بالغنج. واحدة فقط لم تكن تنظر إلي؛ ولذلك اخترتها.
كنت عنيفا في ليلتنا الأولى. كأنني أعاقبها لأنها لم تبد افتتانها بإبهامي. مضت ليالينا وقد زدت عنفا وضراوة. تعودت الانتصار، كما ألفت الزهو والافتخار. ولكن لماذا لا يلوح أي نصر في الأفق؟ مرت شهور ولم تظهر في أحشائها بشارة. قال الكاهن إنه علي أن أختار مجددا، فمهمتي الأقدس لاتزال تنتظر إنجازي. اخترت أخرى، وغزوتها وقد قررت الانتصار هذه المرة. ولكن بدت وكأنها قاحلة. أو كأنها بذور في أراض بور، أو كأنه لابذور! اخترت أخرى، وأخرى.
شعرت بغصة في نفسي لم أكن لأعتادها في سنيني الماضية.
أمسكت الفئوس واستزرعت أراضينا، وحملت سيفي وانتصرت في معاركنا، ثم لما أردت أن أستزرع أرضي عجزت، كما أني في معركتي الخاصة هزمت!
انطفأت جذوة رغبتي، حتى هن؛ صرت كأنني أسمع بينهن بعض الهمهمات، ووجدت في بعضهن نظرات الإشفاق، وبعضهن كأنني لمحت في لحاظهن التهكم!
نظرت إلى أصابعي التي صنعت المجد. أدق الحديد في قوة بعد أن كان في النار فيلين لي، فلماذا لم تلن لي مهمتي الأخيرة!
اخترقت أذناي صوت صرخات ممزوجة بالزغاريد. وجدت نسوة يصرخن في فرح مجنون:
- طفل بإبهام!
ظهرت يداي مجددا ولكن عند غيري! وجدتهن يركضن كالمجانين قاصدات بيت الكاهن الكبير. بمجرد أن يراه الكاهن ويرفعه بكلتا يديه سيعلنه ملاك القرية الجديد.
وجدتني أقصد ذلك البيت المجاور. سمعت صوت الوليد. رمقت يديه. أصابع أربعة وإبهام.
رفعت خنجري، ثم هويت على يد الشيطان.
د. خالد عجماوي.