صالح رحيم - الفلسفة والشعر بوصفهما سؤالاً غارقاً في القدم

دهشةُ الطفل


يسعى كلٌّ من الفلسفة والشعرِ إلى تعرية الأشياء ونسفِ بداهتها، إنهما يكافحان بمرارةٍ من أجلِ الحفاظ على روح الطفل التاريخي المحموم بالمعرفة، ذلك الطفلُ المشاكسُ في طرحه الأسئلة المُقلِقة، ذلك الطفل القديم!
إنهما يكشفان خلال مسيرتهما عن الحاجة المستمرة للشعور بالنقص، بالاندهاش المستمر، ومن ثم عبرَ إعادة النظرِ بما هو سائدٌ أو إعادة تشكيل العالم من جديد في كل محاولة جديدة أو بعد كل اندهاش جديد، ذلك أن كلاً منهما ينطلق من دهشة دائمة. وإذا كانت الفلسفة بتعبير عبد الغفار مكاوي تجاوزاً لما هو يومي، فإن الشعرَ أيضاً تجاوزٌ لما هو يومي. لكنَّ كلاً منهما، يتجاوز اليومي باليومي نفسه، وإذا كانت الفلسفةُ بتعبير هيغل هي عصرها معبراً عنه بالأفكار، فإن الشعرَ أيضاً هو عصره معبرٌ عنه بالأفكار.
كينونة الطفل
الشعرُ والفلسفةُ ضرورتان مختلفتان لكينونة واحدة، هي كينونة الطفل ذاك.
تكمن ميزة الطفلِ في نسفه لعالم الأفكار الذي أسهم في تكوين ما اعتاد عليه، تكمن ايضاً في نسفه لوجوده الذي يحياه، ينبغي أن تكون مهنته على الدوام هي التحطيم،
إنه لا يتبنى، يخلق ينسف، ثم ينسف ويخلق، إذ إن آخر قصيدةٍ له هي آخر وجود أثثه على حساب وجود محطم، هي آخر فكرة جديدة على حساب فكرة منسفة..
ومن السخفِ أن يتخذ نسقاً واحداً يتقوقع داخله من البداية إلى النهاية، إنه في نسقيته لا يعدو كونه عاجزاً عن أن يكون طفلاً، وعاجزاً عن الهدم وعاجزاً عن البناء، أو إن بنائه لا يعدو أن يكون صورة مقاربة لبيت العنكبوت، والفرق شاسعٌ جداً بين بناء بيت العنكبوت، وبين بناء وجود يتضمن العناكب وبيوتها.
ينبغي على الطفلِ أن يكون عارفاً مميِّزاً بين الطفلِ العنكبوت وبين العنكبوت وبصورة أدق إذا كان كل ثلاثة أطفالٍ يساوون عنكبوتا فهذا لا يعني أن كل ثلاثة عناكب تساوي طفلاً العنكبوت تبقى عنكبوتا، والطفل العنكبوت يبقى طفلاً عنكبوتياً، وحده الطفل الحقيقي من يميِّز بين الإثنين،
كذلك ينبغي عليه أن يترفع بنفسه حتى عن نفسه، لأنه على علمٍ بأن مكانته وقيمته تكمنان في نفسه المتكبرة حتى على المكانة والقيمة، فالعالم بما يحتوي، فكرة يقررها هو فكرة يمحوها ويعيد بنائها من جديد بشكل مختلف!
لغةُ الطفل
اللغة خرطومه الرهيب، يضخ عبرها الأعوام والمسافات، لتصل به إلى بحيراتٍ تقبع في أراضٍ تخصه وحده، من الطفلِ إلى ذاته-عبر اللغة- يتدفق العالم مغمضاً عينيه، ومستنداً إلى جدار وحدته، وكل شيء جديد يبتدعه يبتكر لنفسه طريقاً جديداً عبر لغة جديدة ايضاً،
أي ان اللغة الجديدة تخرب وتهدم ما بنته لغاتٌ سبقتها الى الوجود من طرق وعبارات وقوالب، هي المخربة، الهدامة حتى لجسد الطفلِ نفسه، اللغةُ لا يمكن أن تأتي بنقص، إذ أنها إذا اقتضت الحاجة تستلف من لحم بارئها ومن جلده لتكتمل، وإلا فالأجدر بها ان تبقى حبيسة في الداخل، حفظاً لكرامتها وصونا لوجودها
الطفلُ بما يجيءُ يعترض على أخطاء كانت سببا في وجود مخلوقات مشوهة/ حياة مشوهة/ وجود مشوه، فكيف يحتج ويعترض ويحارب بمشوهٍ وناقص، لغةُ الطفلِ ليست مستعجلة على شيء، يمكنها ان تبقى في الداخل لملايين السنين، يمكنها ان تخرج إلى العالم عبر جذر او عبر باب، يمكنها ان تخرج عبر طفل صغير آخر او عبر حيوان بري، ليست مختصة به وحده، انها لا تريد ان تكون مثل الماء، الماء في النهر او في الساقية يتقدم إلى الامام ويأتي مكانه ماء آخر، إنها تريد ان تكون عطشاً تتمناه كل المياه!
الطفلُ في سياقه التاريخي
ليست هناك رواية يقينية عن بداية الشعر أو الفلسفة، إنهما السعي وراء تحديد نقطة بدء لهما لهوٌ ولعب.
وبنظرة تاريخية على بعد خطوة واحدة من العالم، تكشف لنا مدى تحرر العالم من الهوية الجغرافية، بدأ الإنسان على هذه المعمورة عارياً، لا مال ولا فكر ولا لباس ولا مكان ولا طريقة عيش، شيئاً فشيئاً، وبفعل حاجته إلى الطعام سعى وراء طرائده، متنقلاً من مكان إلى آخر،وانتقل من الأكل النيئ إلى الأكل المطبوخ بفضل اكتشافه النار، وبعد قرون توطد في مكان واحد وصنع تمثالاً للمرأة وعبدها آلهةً لها الفضل الكامل في اكتشاف الزرع .
لا يوجد شيءٌ في التاريخ حدث بذاته، كل شيء حدث نتيجة تطور، وسواء كان هذا التطور فكرياً، اقتصاديا أو سياسياً أو دينياً، فهو غير مختص بمدينة دون أخرى ولا بعنصر دون آخر، وبالتالي ليست الحضارة أو الشعر أو الفلسفة شرقية ولا غربية، هي انسانية بامتياز، فالأصل لا يملك هويةً جغرافية، كان يسعى بكل جوارحه لأن يبقى . كثيرٌ من مؤرخي الغرب يرون الفلسفة مثلاً أصلاً يونانياً ويعزون السبب في ذلك إلى تفوق الآريين أو البيض على غيرهم من الأمم فيما يخص الفكر والابداع، معللين السبب في أن أفكار السابقين كانت أفكاراً عمليةً يراد بها غايات أخرى لا العلم أو الفكر بذاته، في حين أن الفلسفة كانت نظرية يراد بها العلم بذاته، وعلى الطرف الآخر أيضاً ثمة مؤرخون شرقيون وغيرهم من الغربيين انبروا للدفاع عن أسبقية الشرق على الغرب في الابتكار والإبداع، وفي الحقيقة هذه تفاهات وقصر نظر، لأن العالم قريةٌ غارقة في القدم، عمَّرها إنسان لا تعنيه الأسبقية ولا الحدود ولا يعنيه أي شيء سوى أن يعيش بأسهل السبل، وأقول قرية لأن كل الديانات والقصائد، ونصوص الحكمة وكل الفلسفات يكاد يشبه بعضه بعضاً، هذا إن لم تكن نفس الديانة أو الفكرة عدا تغيير لأسماء الآلهة والملوك!
إنه طفلٌ بريء
يتمتع أدب الحضارات القديمة، بقوة عجيبة، إنه أدب مكتظ بالحياة، يشعُّ شاعرية ورهافة حس، وإنني أعزو قوته إلى بدائيته، إلى سذاجته، وإلى عدم تسلحه بتعقيدات المعرفة، منه أتعلم الشعر على الرغم من أنه أدب قليل، على الشاعر أن يتخلص من منظومته المعرفية لحظة الكتابة، لكي يحافظ على أبعاد الشعر الميتافيزيقية، على الشاعر أن يكون ساذجاً أيضاً إذا أراد لقصيدته الجمال البكر .
إنه أدب ينطلق من خوف حقيقي ومن قلق صاف، أو لنقل إنه ينطلق من جهل وسذاجة حقيقيين، لا مواربين أو مخادعيَن كما نفعل اليوم.
*
أجمل ما في الطفل، أننا نكتبه لذاته، ليس من أجل هدف آخر، على عكس الأشياء الأخرى، فمثلاً نحن نشرب الماء لأننا نعطش، نأكل لأننا نجوع، أما في ما يتعلق بالطفل، فإننا نكتبه لأنه الطفل فحسب، الطفل ليس غاية،
وليس وسيلة.
*
يقول الفيلسوف الألماني ماكس بيكارد في كتابه عالم الصمت:
"ينبعث الشعر من الصّمت ويحنّ إلى الصّمت. مثل الإنسان ذاته، إنه يسافر من صمت إلى آخر. إنّه كالطيران، مثل التحويم فوق الصّمت، مثلما أن أرضية البيت مزخرفة بالموزاييك، فإن أرضية الصّمت مزخرفة بالشعر، الشعر العظيم هو موزاييك مرصّع بالصّمت"
*
كتابة الشعر، ليست مهنة، إنها ضربٌ من الطفولة، فن من فنون الجنس، تخلٍ عن معارفَ وعلوم، كراهية فجة للترف، تخريب لنسق الآباء، حرق للخيمة الملاذ ، نوم على الرمل، إيذان ببدء حرب ناعمة مع الفكر والجسد، محاولة لفهم الماء،
أن تكتب
يعني أنك تنتحر ببطء!
*
في كتابه "الفلسفة أنواعها ومشكلاتها" يورد هنتر ميد قصيدةً للشاعر الأمريكي جون هول ويلوك بعنوان التوسط تقول :
الأرضُ تأخذنا معها
فهي في صمت تدور حول المدار القديم
تحمل في صدرها ذلك الفم الوسنان
الفم الذي يغني،
ولكن هذا كله لا يحيى إلا في ذهني
وعندما يظلم هذا الذهن
ستظلم الدنيا كلها
فجأة ستصبح الدنيا كلها عمياء
.
إن كل ما مسست، وكل ما أحببت وعرفت
سيتخلى عني
وسوف يتراجع صدر الحياة
تاركاً إياي في الظلام
.
أيها الكون الحاشد بالنجوم
المعلق في جرس ذهني الصداح
لتعش فيَّ الآن
ولتسكن فيَّ هنا لحظة
.
فلكم ولدتَ في أذهان الكثير من الناس
لتنقضي سراعاً
وتموت مرة أخرى مع كل ذهن
.
إنها فكرةٌ ما أقساها عليَّ
فما أشد مرارة التفكير
في أن هذا كله سيكون بالنسبة إليَّ كأنه لم يكن
عندما ينقضي أجلي!
.
هل هذه قصيدةٌ أم خلاصة مكثفةٌ للمذهب المثالي؟ الذي يقول ليس العالم سوى وجود ذهني، إنها قلةُ أدبٍ من الشعر أن يتفلسف، وهي في الوقت نفسه قلةُ أدبٍ من الفلسفة أن تتأدب، هل هذا مدح أم ذم ؟ إنه ذمٌ للمدح ومدحٌ للذم إنه في النهاية ليس سوى مزاج الطفل، إنه طفل غارق في السذاجة والسؤال!

صالح رحيم


* نشر بجريدة الصباح/ اليوم السبت 1 تشرين الأول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى