محمد لغويبي - ثلاثة وجوه للقصة في "خبز أسود...خبز أبيض" لمحمد الحاضي

تقديم:
ناضجة كفاكهة موسمية لم تخلف موعدا مع القطاف، تعرت مجموعة القاص محمد الحاضي "خبز أسود...خبز أبيض "عن خريفها فبدت شجرة ملتحفة في خشوع بعريها الصادق الماتع، كيف استطاع القاص إذن في شجرته القصيرة هذه أن يعزف موسيقاه بصوته المنفرد؟
▪︎1التهجين:
في أولى قصصه Aïe ça pique، وخز بالإبر على آماق البصر ،يقول السارد"جوفنا الناضب بجوع الإفاقة و تعب الممشى، كان يتشمم بسرعة و من عتبة الحجرة ذلك الخليط الفواح لعطره و سيجارته الصفراء..،وجداننا اليقظ المتوثب و الهلوع كان يحدس من أول وهلة طبيعة اليوم ،فالنهار الزين أو الخايب-فعلا- تيبان من صباحو..."ص7
على هذه الحافة يضعنا القاص بهدوء في مواجهة التهجين "المزج بين لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، و هو أيضا التقاء وعيين لغويين مفصولين.."☆يقول السارد :"كنت أعتقد أن وخزه لنا بالبركار يعني بالفرنسوية (Aïe ça pique) هو يخز ،و نحن من الواجب علينا أن نرد فورا و بلسان سليم فصيح :(Aïe ça pique)...و لفرط يقيني في مدلولها من فرط الوخز الأول...لم أفهم حتى كبرت و تنوعت و اشتدت علي مصادر وخز أخرى.."ص7\8
إنه التعدد الذي ينتقل من اللغة إلى الزمن :زمنين، زمن الحاضر أو الماضي المستعاد و زمن المستقبل أو الحاضر المعيش. يقول السارد:"و لما كانت مناسبات معلمنا للوخز لا تتوقف ...فإنه كان يروق له أن يشرك قسمنا في فخاخ الفرنسية مع اولاد الشهادة .."ص8، و يستمر التهجين ليمس الأشياء "معلمنا كان مهوسا بالكرة ،و كان علينا أن نجتهد في لعبها، و إلا فهو حكمنا و مدربنا الواخز مباشرة بالملعب.."ص8
إنه لعب أيضا بالمكان(المدرسة/الملعب)(العلم/الكرة). و الأمثلة كثيرة ،يقول السارد "لقد كان صاحبنا حريصا كل سنة على حماية ذاكرتنا بالصور الجماعية تلك الموغلة في بياض و سواد الروح. يحضر المصور ..و نعد العدة و الوجدان فرحا و نشاطا ،و طاولات مدرجة ،و مشطات (أي تسريحات) و دراهم عزيزة "ص9
إن التهجين عرى المعلم و المدرسة، و شمر عن ذاكرة مقاومة لآلة التصوير الخادعة "أيقن المعلم أنه موسمه الأخير بمدرستنا..أحضر هو مصورته الخاصة كما قال ،و بالألوان كما زف ...و التقط لنا من الصور أوضاعا ...و دراهم وافرة ..ذهب المعلم و لم يعد...و ذهبت معه بعض من حرقة أحلامنا الملونة ..و قد قال الأذكياء منا ،فيما بعد إن مصورته كانت فارغة."ص9
لقد بلغت القصة مداها عندما ربطت بين الحاضر و الماضي و الآتي ربطا خفيفا غير ظاهر و لا مصطنع، لقد تكفل التهجين ببساطة و عمق ،بتحييد ضمير المتكلم جمعا و مفردا، الذي وظفته القصة (جوفنا الناضب-لم أفهم حتى كبرت-و لما كنت فقيرا و بائسا للغاية ) و لم تبق للقصة علاقة بالسيرة الذاتية التي يوهم بها السرد ،لقد خدم التهجين القصة و دفع بها إلى التعدد اللغوي و الزمني و الصوتي فسمح لها بالتشكل متنافرة في وحدة و قصدية بينتين.
▪︎2الحوارية:
تحمل القصة عنوان "القنديل "و هي القصة الثامنة ضمن المجموعة .تضعنا للوهلة الأولى أمام تقابل بين قنديل وضيع و قنديل قدسي طهور ،يكشف السارد المسافة بين قصته و قصة "صاحب قنديل أم هاشم "يقول :"قنديلنا الوضيع ليس في مقام "قنديل ام هاشم ""ص31
إننا بصدد اختيار سردي يضع قصة مقابل قصة معروفة و مشهورة ،القنديل مشترك كقوة فاعلة ،و إذا كان قنديل ام هاشم قدسيا طهورا في الأولى فهو في الثانية و إن كان ذا يوم جديدا من نوع (جرمانو)"لكنني لا أتذكر قنديلنا إلا مفحم السحنة مخروما من أعلاه، و ملعون الرائحة..متنقلا بين حروف دفاترنا و فضاء حاجاتنا الطليق..بين مسالك الفرح و سواد القرح، بدوارنا.."ص32
و بين القصتين تنبت قصة قنديل آخر، إنه لإحدى القريبات التي ظل قنديلها مشتعلا حتى النهار لأنها تعتقد أن زوجها فقط من "يعرف سر تشغيل و إيقاف هذه الآلة العجيبة "ص32 لقد خرجت "و ها هي ترتعد هاربة كالممسوسة و هي تردد :لا،لا،آسبدي ،بغيتي بوسلهام يقتلني""فبوسلهام زوجها هو وحده من يعرف سر تشغيل و إيقاف هذه الآلة "ص32
تنتهي القصة بحكي مباشر يبحث عن علاقة أخرى ممكنة بين القصتين ،و لعل القاسم المشترك بينهما هذه المرة هو انتصار الجهل على العلم رغم الكهرباء، و الشقاء على الراحة "أما قناديلنا المنبعثة ،فقد انفلتت غير مبالية ،و لا معتمدة إلا على دواء زيتها العتيق ،و نور ضوئها الكابي، و عشق رائحتها الكريهة ،و جادة مسالكها المعتمة "ص33
لقد سمحت هذه الطريقة و باستنادها على التقطيع (ثلاثة مقاطع) ببناء قصصي تفاعلي ،تحاوري، يدفع بالقصة من السكون إلى الحركة و من الإفراد إلى التعدد.
▪︎3الأسلبة:
"حميدة كالو مات "،و هي هي القصة الحادية عشرة، و هي صوت منفرد فعلا لأنها كتبت مرتين و تقرأ بطريقتين، حسب الأسلوب الظاهر و الأسلوب الخفي ،نستطيع أن نتصور انطلاقا من عنوانها أنها مكتوبة بدارجة مغربية ،و إذا كانت قد اعتمدت هذا الأسلوب فلأنه الأضمن لنجاحها، فلو كتبت بأسلوب فصيح لفقدت قيمتها كقصة قصيرة و كحكاية شفهية حتى. يقول السارد:"أنا تلميذ صغير كنسرح نعيجات حنا في لعطلة الطويلة..،و انت عزري مقاطع على بكر الدوار .."ص43
و احميدة بطل القصة غريب عن القبيلة ،صادقه السارد إعجابا به يقول:"معاك تنسمت أول مرة طعم كويزة و نغمة بودراع.."ص43 كان السارد يثق في حكاياته و مغامراته مع النساء (الياقوت،زينة الدوار ،و لفرملية النصرانية..)،لكن الثقة تزعزعت يوم تزوج احميدة بسبب فشله في المعرفة...
توظف القصة ضميري المفرد و المخاطب ،فنفهم أن احميدة مرآة السارد و تاريخه أيضا، ربما التاريخ الذي يخافه (الثقة المفقودة،القوة المسلوبة، المرض ..ثم الموت) يقول السارد :هرمت و عطبت بكري احميدة ،ركدو عليك يديك و رجليك "ص44، لكن القصة لا تقف عند هذا الحد فالسارد يتهم امرأتين:الزوجة الت آثرت الاحتفاظ بالمال الذي جمعته الجماعة لعلاجه خوفا من الفقر القادم ،و أمه التي لم تخبره بموته ليقوم بالواجب .يختم السارد قصته مع احميدة :"ربما لأنك ماشي من الناس للي غادي يخلا لغرب بموتهم..و لا حتى دوار كاع. "ص45
إن جمالية القصة هنا لا تكمن في حمولتها الاجتماعية التي تعتبر مهمة ،بل في أسلوب كتابتها بلسان دارجي مغربي محلي لم يطحن الأسلوب العربي الفصيح الذي يشكل أسلوبا باطنيا، جعل القاص حضوره التحتي يمنح فرصة ثمينة لللهجات للبروز في كتابة القصة القصيرة المغربية ،و هذا من الرهانات التي يعول عليها في القادم من الأعمال.
على سبيل الختم
تنبه المجموعة إلى أهم إواليات اشتغال القصة القصيرة التي تسعف في الإبداع، و لعل ذلك برز في كون المجموعة تشكل وحدة المنظور و اختلاف الطرائق، و تكثيف الحكي و اقتصاد اللغة و الانفتاح على عوالم ممكنة..،نبحث عنها و هي قريبة منا و لا ننسى ازدواجية الأسلوب التي برهنت على قدرة القصة القصيرة في توظيفه و استثماره باستراتيجية محكمة ،منفتحة على التداول.

■ خبز أسود..خبز أبيض، قصص محمد الحاضي، ط1، 2007،منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب
■ ميخائيل باختين/الخطاب الروائي


1665354742566.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى