د. زياد العوف - من قاع المدينة إلى قصرالإصلاح.. قراءة في رواية (نُزَلاء القَصر) للكاتبة المصرية فاتن فاروق عبد المنعم

في زحمة الأعمال الروائية المعاصرة ذات الطابع الحداثيّ والغرائبيّ والتجريبيّ التي لا تكفّ المطابع ودور النشر العربية عن ضخّها في سوق القراءة شبه الكاسدة، ثمّة، مع ذلك، فُسحةٌ صغيرة للأعمال الروائية ذات التوجّه الاجتماعيّ الهادف، من ذلك رواية ( نُزَلاء القصر )* للكاتبة المصرية فاتن فاروق عبد المنعم، الحائزة على بكالوريوس في العلوم والناشطة في مجال الإصلاح الاجتماعيّ، ناهيكَ عن أعمالها الإبداعية والنقدية ذات الصِّلة.
رفدَتْ الكاتبة المكتبة العربية بين عامَي (٢٠٠٧- ٢٠٢٢) بعدد من الأعمال الأدبية والدراسات النقدية؛
فقد بلغتْ حصيلةُ أعمالها الإبداعية
التي تعنينا في هذا السياق، سبعَ روايات، ومجموعة قصصيّة واحدة،
وقد حملت أعمالها الروائية العناوين التالية:
- القُربان
- عيون
- بلا جذور
- سمراء
- ولكنْ
- صَرْح الأطلال
- نُزَلاء القَصْر
بينما جاءت مجموعتها القصصية الوحيدة تحت عنوان ( فقاعات صابون ).
تهتمّ هذه القراءة النقدية بتسليط الضوء على عملها الإبداعيّ الأخير المتمثّل في رواية ( نُزَلاء القصر ) الصادرة مؤخّراً عن مؤسسة ( النيل والفرات ).
لعل أفضل تعريف بالرواية إنّما هو هذه السطور المحذِّرة والمعبِّرة التي خطّها قلم الكاتبة ذاتها على غلاف الرواية، حيث جاء فيه:
" أبناء الشوارع الذين نراهم ولا نعيرهم أدنى اهتمام، قنبلةٌ موقوتة، عالَمٌ سفليّ لم يرقَ للقاع بعد.
جُرمُنا تجاههم يفوق تصوّرنا، ندّعي زوراً وبُهتاناً أنّنا نتعاطف معهم.....كلّ الجهود المبذولة تذهب سُدىً لأنّها ينقصها الإخلاص والجدّيّة.....حاولتُ
هنا في هذه الصّفَحات أنْ أستنطقَهم، ربّما وضعناهم على قائمة اهتماماتنا "
- موضوع الرواية وأحداثها
بين استنطاق الشخصيات وتسليط الأضواء على جوانب حياتها المختلفة بُغيَة تغيير واقعها البائس المرير من خلال وضعها في دائرة الاهتمام المجتمعيّ العام والرسميّ الخاصّ، تدور أحداث الرواية في فصولها السّتّة في رِحاب قصر منيف شكّلَ مسرحاً مُبهراً للإصلاح الاجتماعيّ والتهذيب المسلكي والسموّ النفسيّ الذي يستهدف مجموعة من النَّزيلات المهمّشات اللواتي جيء بهنَّ من "عششهم" السكنية المزرية القابعة في أشدّ أطراف المدينة قتامةً وتخلّفاً وفقراً.
تستهلّ الكاتبة روايتها بإهداء دالّ ومعبِّر وكأنّه يطلب الصّفح والمغفرة، جاء فيه:
" إلى كلّ مَن غفلنا أو تغافلنا عنهم، إلى كلّ من سحقتْهم قسوتُنا."
يقوم " الراوي العليم " في الفصل الأول بتقديم شخصيات الرواية بكلّ أبعادها الخارجية والداخلية والاجتماعية، جاء في الرواية:
" كيانات مهيضة، وإن بدتْ جريئة متفحّشة بملامح قاسية، فتلك قشرة زائفة تخفي حقيقة الخوف الدائم والترقّب من مجهول مرعب يتهدّدهم........ كأنّهم حُرِّمت عليهم الحيوات السويّة........لا يحدّهم الأمن والأمان، في حالة استعداد دائم للعدو كأنّهم في سباق محموم مع مجهول، عيون زائغة، نفوس جائعة تتوق إلى الشِّبع، تهرول لمن يلوّح من بعيد......يقتاتون على أجسادهم لأنّهم في الهامش ولن يعبأ بغيابهم أحد..."( الرواية، ص.٤)
ثمّ تشرع الرواية باقتراح الحلول الممكنة لمعالجة مشكلات " أبناء الشوارع " وذلك من خلال السرد والحوار الروائي الذي يشارك فيه مجموعة من كبار المستشارين والمسؤولين المعنيين بإشراف رئيس البلاد شخصياً حيث تتبلور النقاشات وتنجلي عن خطّة تأهيلية شاملة تقضي بتجميع كلّ المعنيين في قصور " الطبقة الطفيلية " وإخضاعهم لبرامج تربويّة وتأهيلية مكثّفة تستمرّ عاماً كاملاً تحت إشراف مجموعة من المتخصصين في المجالات النفسية والاجتماعية والدينية، مع تقديم كلّ ما يحتاجونه من مستلزمات الحياة اليومية في إطار من الرعاية المدروسة والمتابعة الحثيثة.
نقرأ في الرواية:
" ..... فقال الرئيس: إشباع حاجاتهم النفسية سيعيدهم إلى حوزة الحياة المجتمعية السويّة، علينا أن نشعرهم أنّنا جادون في تعويضهم عمّا فقدوه من قبل قدر المستطاع، فما هي الآلية التي بها نبلغ ذلك؟
يقول المستشارون بالتبادل: بيوت لإيوائهم وتوفير حياة كريمة آمنة شاملة مع برنامج علاجيّ ونفسيّ ودينيّ وتأهيليّ لهم.
الرئيس يردّد ما قالوه: " بيوت لإيوائهم " كلّا لا أريدها بيوتاً عادية بل قصوراً.
صمتٌ مطبق ونظرات مبهمة....
يستطرد الرئيس: قصور وفيلات الطبقة الطفيلية التي استقوت وتوحّشت ....سكّانها كانوا يؤوون فيها كلاباً تعيش حياة مُترفة وضنّوا على آخرين فكان الشارع هو مأواهم ....
فقال مستشاروه: هذا يُعَدّ من قبيل الجنون، لأنهم سيعيثون فيها الفساد والإفساد، يتمّ علاجهم وتأهيلهم أوّلاً.
الرئيس: كلّا، الإقامة في هذه القصور جزء رئيسيّ من العلاج، حتّى إذا عولج داخلهم وأصبحوا مؤهلين للحياة القويمة انتقلوا إلى بيوت كبيوت الطبقة المتوسّطة وحوّلنا هذه القصور إلى مدارس ومستشفيات ومكتبات ومسارح وقاعات لممارسة الفنون التشكيلية."
وتمضي بنا الرواية في تتبّع التطور الإيجابي الذي أخذ يطرأ على الحياة اليومية للشخصيات التي يؤويها أحد هذه القصور من خلال نماذج نسائية معيّنة تتمّ ملاحظتها عن كثَب بكلّ عاهاتها النفسية وشذوذها السلوكيّ وبذاءاتها اللفظية، ثمّ بالتغيرات الجذرية التي طرأت عليها فحوّلتها إلى كائنات إنسانية سوية ومنتجة، ما جعلها مؤهّلة إلى حدٍّ كبير لمتابعة حياتها بشكل آمن وسليم ضمن سكن صحّي لائق ومحيط اجتماعي محترم ونظيف.
يمدّنا الفصل السادس للرواية بمشاهد واقعية جميلة تصف التطور الكبير الذي طرأ على النزيلات.
نقرأ فيه:
" أينعت ثمار تعب ثماني أشهر دون كلل أو ملل من فريق عمل ديدنُه حبُّ العطاء... فلم تذهب جهودهُنَّ سدى، إنّها المدينة الفاضلة اللاتي آمنَّ بها.................استعدّت النزيلات للذهاب بالحافلة لشراء الخامات حتى كبيرات السنّ واللاتي لن يشترينَ شيئاً صاحبْنهنّ لرؤية الشارع والناس، وقفن ينتقين الخامات مدفوعات بحماس نعمة الكسب المادي والأمان الاقتصادي.....
عدنَ محمّلات بمشترياتهنّ، وعلت الأصوات بالحديث عن خطط لأشياء جديدة ستقمنَ بتنفيذها...... القصر تحوّل إلى خلية نحل بعد أن زاد الإقبال على منتجاتهنّ فتوزعن في أرجائه حتى الحديقة، منهنّ من جلست بمفارشها التي تقوم على تنفيذها، واشتعل الحديث عن الحياة بعد الخروج من القصر." (الرواية،ص.٨٤)
على أنّ مغادرة النزيلات للقصر لم تكنْ سهلةً، بل كانت مصحوبةً بمزيج غير متجانسٍ من مشاعر الترقّب والحذر، والفرح والسرور .
جاء في الرواية:
" الأطفال الصغار كانوا مكدّرين لأنّهم سيغادرون القصر ولكنّ الأمهات ظللنَ في إيقاد شموع الحماس لديهن فقلن: سنذهب إلى بيتنا المؤسس بكل ما سنحتاج إليه، مثل زملائكم بالمدرسة، نذهب إلى أي مكان ونعود لنستريح ببيتنا، والحدائق العامة منتشرة بين البيوت وبها الألعاب التي تحتاجون إليها............حانت لحظة مغادرة القصر، كانت صعبة مهما هوّنت المشرفات من الأمر بأنّ هذه القصور ستصبح منفعة عامة............ انتشَرنَ داخل بيوتهنَّ، يتبادلنَ الأحضان والقبلات..." (الرواية، ص.٩٣)
- ملامحُها الفنّيّة
أ- تقع الرواية في حوالي مئةٍ من الصفحات؛ فهي إذاً رواية قصيرة، أو
( نوفيلا ) حسب مصطلحات النقد القصصيّ، وقد تجلّى ذلك بخاصّة بتموضع معظم الأحداث في مكان محدّد ومحدود هو القصر، كما أنّ الفترة الزمنية التي تناولتها أحداث الرواية لا تزيد على سنة واحدة.
فضلاً عن أنّ الرواية في مجملها كانت أشبه بتقرير مفصّل تناول بشكل سرديّ اقتراحاً منهجيّاً لمعالجة قضية اجتماعية خطيرة وشائكة تتمثّل في "العشش"
السكنية التي تؤوي عدداً كبيراً من المهمشين، الذي قد يصلُ إلى بضعة ملايين، بكلّ مشكلاتهم الاجتماعية والنفسية والجرمية والاقتصادية وانعكاساتها على المجتمع بأسره.
ب- أمّا الخطاب الروائيّ فقد غلب عليه سرد "الراوي العليم"، مع ما تخلّله من حوار بين عدد من الشخصيات دون أن ينجح، مع ذلك، في تزويد الخطاب الروائيّ بالحرارة الكافية لكسر الرتابة السردية. كما غاب الحوار الداخليّ، أو كاد، وهو القادر على استجلاء خفايا النفوس وخباياها، وكذلك هو الشأن مع" الأجناس الدخيلة" كالشعر والمقتطفات الصحفية والرسائل واليوميات، وكلّها أساليب كان يمكن للخطاب الروائيّ الاستعانة بها لإضفاء المصداقية والحيوية على موضوع الروائيّ.
وجاءت لغة الرواية متينة وفصيحة وبليغة، وهو أمرٌ محمود دون ريب، لكنّ الرواية التي تتوجّه إلى عموم القرّاء قد تتطلّب ميلاً إلى البساطة في التعبير والطلاوة في الأسلوب أكثر من حاجتها إلى نصاعة الديباجة وفخامة العبارة .
ج- الزمن الروائي
أتى زمن الرواية خطّيّاً ذا مسار ثابت بعيداً عن أيّ انحناءات أو تعرّجات أو عودة للوراء أو قفزة للأمام. ولعل أسلوب التقرير العلميّ المنهجيّ الذي اعتمدتْه الرواية لمعالجة الموضوع هو الذى فرض هذه الصيغة الزمنية الثابتة.
د- الشخصيات الروائية
لم تُعْنَ الرواية بالقدر الكافي برسم الشخصيات وتوضيح ملامحها الخارجية وعوالمها الداخلية، بل غلب عليها صفة النماذج البشرية الهامشية المنحرفة بكلّ ما يتعلّق بهذا الانحراف من سلوك عمليّ وقوليّ لا أكثر. ويبدو أنّ الرغبة في التأكيد على أهمية الموضوع ومعالجة عناصره وإشكالاته قد كانت وراء ذلك أيضاً.
-كلمة أخيرة
لا بدَّ من الاعتراف، بعد هذه القراءة النقديّة، بأنّ الكاتبة القديرة فاتن فاروق عبد المنعم قد حقّقتْ الهدف المرجوّ من نصّها الإبداعي هذا؛ إذ كانت معنيّة بالدرجة الأولى بتقديم رواية هادفة ذات مضمون اجتماعيّ واضح يخدم غايات اجتماعية وإنسانية نبيلة تتمثّل في لفت الأنظار إلى مأساة المهمّشين من سكان" العشش" والمشردين من أبناء الشوارع، بل واقتراح بعض الحلول لمشكلاتهم.
ويمثّل ذلك، دون ريب، ملمَحاً بارزاً من ملامح الأدب الإنساني الهادف والنبيل.
-* فاتن فاروق عبد المنعم، نُزَلاء القَصْر، مؤسسة النيل والفرات للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٢٢م.

دكتور زياد العوف



1665493051337.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى