منقول - إدريس الخوري.. الكتابة نميمة مقروءة!!

... إدريس الخوري، قاص يأبى في قصصه إلا أن يرهق نفسه في سبيل فك حبل من العقد، فهو يأبى إلا أن ينبش في إشكاليات اجتماعية متعددة هي، في الواقع، نتاج وضع معقد للغاية.. الكتابة عنده إعادة لصياغة الواقع المعيش وحديث عن نماذج بشرية لا تعرف سوى التيه.. ومن هنا يحلو له وصف كتاباته ب: "النميمة المقروءة"، لكنها طبعا ليست نميمة ذميمة بقدر ما هي نميمة مستحبة ولصاحبها أجر في ذلك.. فالخوري نمام، لكنه نمام إنساني محب للخير.. يقول في مقدمة مجموعته القصصية "ظلال" : "الكتابة، إذن، في جانبها الحكائي القصصي، والروائي أيضا، نميمة مقروءة لأنها تقوم بعملية الإخبار عن أشخاص كناهم وسيكونون في زمان ومكان محددين ذهنيا (...) وهي تستمد مشروعيتها من واقعها، ولأن هذا الواقع جد متشابك، تصبح الكتابة - النميمة وسيطا بيننا وبين واقع كان وسيكون.. هذا هو الاحتمال الممكن لعملية الكتابة التي تتأرجح بين الصدق والاحتمال.. إنها تصبح ممكنا لما ينبغي أن يكون" (11)... لذلك، فمواضيع الخوري تسير في الاتجاه الواقعي الذي أسس له بالمغرب إلى جانب الهرمين القصصين الراحلين محمد زفزاف ومحمد شكري مع اختلاف ? طيعا ? في طريقة المعالجة، حيث شخصيات قصصه كلها من الحالات الشاذة في المجتمع.. فببراعة الكتاب الذين يعون ما يكتبون تمكن الخوري من الإمساك بالخيط الرئيسي لموضوع الوضع المزري والاستغلال الفاحش اللذين تعانيهما فئة من النساء، ومن إعادة صياغته وتشكيله ضمن رؤية نقدية حادة وغير محايدة للواقع.. نعم: فالرؤية الإنسانية حاضرة لكنها لا تكفي لتجاوز الكتابة القصصية لصفتي: "الاحتشام" و "السذاجة" ولذلك لا بد لها من رؤية نقدية مصاحبة على اعتبار أن الكتابة القصصية هي عملية حوار متبادل بالدرجة الأولى.. ففي قصته القصيرة: "من كل حدب وصوب" (12)، مثلا، نجده يحكي قصة طفلة اضطرت في سن الثامنة إلى الخروج من البيت والهجرة إلى الرباط بعد وفاة والدتها وزواج والدها من امرأة قاسية حاولت دفعه إلى إرغامها على الزواج من رجل في سنه، لكن الطفلة تضطر إلى الهجرة من جديد إلى مدينة أغادير ( جنوب المغرب ) لتشتغل عند عائلة غنية، ثم تعود من جديد إلى الرباط لتعيش إلى حدود سن المراهقة.. ولم تكن رحمة ( وهذا هو اسمها ) لتنجو من محاولة مشغليها النيل من جسدها الفتي فتهرب إلى مدينة الدار البيضاء وتشتغل بمعمل للنسيج.. هناك، تتعرف إلى شاب في مثل عمرها وتغرم به، غير أنه سرعان ما سيهجرها بعد أن اغتصبها لتصير عرضة للاستغلال الجنسي والإدمان على المخدرات والكحول مع جماعة من الحشاشين والسكيرين... هناك أيضا حالة خديجة في قصته القصيرة "أيام خديجة البيضاوية" (13) التي لم تكن أحلام اليقظة تفارقها من فرط العوز.كانت تشتغل بأحد المعامل وتحلم أن تصير مطربة مشهورة، لكن واقعها الاجتماعي سرعان ما يدفعها لتلبية الرغبة الجنسية لصاحب المعمل الذي وعدها بالزيادة في أجرتها، ولم تكن خديجة تملك، بعد أن ساورها الندم، سوى أن تقول: "مالي يا ربي مالي؟".

تناول إدريس الخوري، أيضا، بالقص ظاهرة اجتماعية جد متفشية في الأوساط الشعبية من المجتمع المغربي تتمثل في الارتزاق عن طريق الدين.. فهناك من "الفقهاء" من لا يفقهون في أمور الدين شيئا، وإنما هم جماعة من المرتزقة يستغلون جهل وأمية الآخرين بمناسبة بعض المناسبات الاجتماعية، وأيضا حفظهم للقرآن الكريم، كوسيلة للارتزاق.. يصفهم لنا القاص في قصته القصيرة: "الرجال لا يتشابهون" (14) قائلا: "من جديد ترتفع الأصوات مرتلة القرآن.. لا تناسق في الأصوات، بل ترتيل مشوش ينبه عن عقليتهم ورغباتهم (...) وهكذا انتهوا من الترتيل بسرعة، ليأكلوا بسرعة، ويقتسموا الغنيمة بسرعة، ففي مكان آخر زردة ( أي وليمة ) أخرى تنتظرهم.. وانتفخ الحاج موسى كالديك، فالحاج موسى أحسن مرتل للقرآن، وأحسن شراب للخمر، وأكبر مدمن للكيف، وأشهر تابع للغلمان في الحي".
... من بين الظواهر الاجتماعية الأخرى التي استأثرت باهتمام الخوري نجد ظاهرة فصيلة من الشواذ الذين يشتغلون، متشبهين بأزياء وشعور وأصباغ النساء، راقصين بالملاهي المتنقلة المعروفة ب: "حلقات السويرتي" .. يصف لنا أحدهم في قصته القصيرة: "نرسيس" (15) قائلا: "ومن جديد وقف أمام المرآة ... مشط شعره الغزير المرسل فوق عنقه، وبدا مثل امرأة تنتظر زوجها.. لماذا لا يهتم بنفسه؟.. أمام المرآة رأى نفسه من جديد وتحقق من أن كل شيء على ما يرام (...) كانت اللحظات تطول وتهرب وكان هو أكثر فرحا.. سيطرق الجيلالي الباب، وسيطلب منه قضاء الليلة عنده"..
قصص الخوري عالم من التيمات المغرية بالالتهام، ولعل خير عصارة يمكن استخلاصها من عوالمه القصصية شهادة الكاتب العربي الراحل جبرا إبراهيم جبرا الذي كتب على ظهر غلاف مجموعته القصصية: "ظلال" ما يلي: "قصص الحزن هاته، فيما أرى، هي قصص رفض مستمر أكثر منها اضطهاد.. كلما توغل البطل في ذاته وتجربته كلما ازداد رفضه للآخرين إلى أن يرفض ذاته في النهاية أيضا.. وقد سألتني يوما عن الغربة فيما أكتب، وغربتك هي الرهيبة".


الاتحاد الاشتراكي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 08 - 01 - 2009

أعلى