محمد لغويبي - المكان الموحش في "الشوارع" القصصية لمحمد الشايب

توطئة:
"السرد كالسياسة و الصدفة ،لعبة. "1لكنه لعب جدي له قواعده من حيث هو صنعة و صناعة تقوم على البحث عن الأشكال الأدبية التي تلائم البنى الاجتماعية، و القصة القصيرة هي إحدى هذه الأشكال التي "تتطور مع تطور البرجوازية الصغيرة "2 و تقدم نفسها الشكل الأنسب للواقع المأزوم و المنهزم و المتخبط و الباحث عن موطىء قدم و المتطلع إلى أفق مغاير، و ربما يكون انخراط الكتاب و المبدعين و القراء في هذا الشكل الأدبي دليلا على صحة هذه الفرضية بمعنى من المعاني.
و باعتبار القصة أدبا يقوم على المادة اللغوية، و باعتبار "الأدب من حيث هو مادة لغوية هو انزياح عن الواقع."3 فالقصة بالطبع لا تطابق الواقع بل تعيد بناءه و تشييده بأداة شديدة الخصوصية هي الفن و الإبداع، و الفن فنون و ضروب، و الكتابة تجري من تحتها الأنهار و تفيض على ضفافها الأشكال...
من هنا أستدعي "الشوارع" القصصية لمحمد الشايب الذي يظل وفيا لهذا الجنس عاكفا في محرابه 4.
▪︎1الشارع الرئيس:
إن الكتابة و القصة في الشوارع مزيج من البوح الشعري المنحاز إلى الذات فردا و جمعا يقول السارد:"في الشارع رأيت الناس يجرون ،يلهثون ،و الأوطوبسات مكتظة و العمارات ترفع الرؤوس إلى السماء، في الشارع أيضا متشردون و باعة يبيعون كل شيء،و مجانين و عشاقا و يتامى عشق."5 و يضيف "ظللت أهطل ظمأ و أمتطي صهوة كتابي ،و ما كتب ،فولجت حي الألعاب و رأيت الناس يلعبون6
هذا البوح المنحاز إلى الذات فردا و جماعة على مستوى الكتابة يقدمه السارد في شارع الحرية و قد اشتغلت فاعلية العين قصصيا لتنقل الواقع ،ليس كما هو بل كما يحسه القاص متوسلا بسارد يرى بمعنى الرؤية و الرؤيا ،و هنا يكون المزج بين البوح الشعري و السرد القصصي ،و الجمع بين الانتباه و الالتفات و الغوص و البحث في ما وراء المشاهدات ،يقول السارد:"انطلقت أبحث عن مائي و أخذت أسأل عن شارع الحرية "7 فيفيض النص قصصيا و قد امتلأ شعرا ليعطي للشارع المنكتب و المنقول فنيا سؤالا حفريا حيث "لا يوجد في هذه المدينة شارع الحرية " 8
نحن إذن أمام شارع خاص و معنى أخص يتعلق بالقصة و الحياة معا ،أن تحيى حرا و أن تتنفس و أن تكون قاصا جديرا بالحرية بالمعنيين معا،قصصيا و حياتيا.
▪︎2الأمكنة تهيمن ،هي،هي البطل:
المكان في الشوارع ليس مجرد وعاء أو مساحة مكانية فارغة تملأها الشخوص بأفعالها، و ليس مسرحا للأحداث بالمعنى الضيق ،إنه حجر الزاوية في القصص كلها التي تشيد معمارها على هذا الأساس المتعدد ،الذي يسمح بأكثر من نمذجة تقود إلى عوالمها و روحها ،و هو الأمر ألذي يسمح أيضا بالقول أن المكان الموحش-كما سنرى-هو بطل الشوارع. و في ما يلي نمذجة ممكنة:
الحياة:الحديقة، النهر،البحر،الحقول ضيعة،سقايات، الغابة...
الموت:السجن،الحانة،قبور،براكة،أرصفة، الحي القصديري...
تقدم النمذجة السابقة للمكان إمكانات متعددة للقراءة فهي تدفع إلى البحث في الدلالات من حيث الأمكنة تؤشر إلى السجن الصغير و الكبير ،الداخل و الخارج، و تكشف فوضى الواقع و ضغطه و أحيانا شفافيته و أخرى التباسه بين الحاضر منها و المخزون في الذاكرة ،و من حيث النظر إليها كأمكنة واقعية و قصصية ،مما يقود أيضا إلى الاستجابة لفرضية أخرى هي اشتمال التجربة القصصية على شوارعها الواقعية و القصصية التي تعري الواقع و تفضحه و تضعه أمام تناقضاته، وجها لوجه،تقترب منه و تهرب منه ،يقول السارد:"وجدتني مرة أخرى بين أسوار العطش...صافحت صاحب الصوت ثم دخلت مغارة مظلمة "9،و يضيف:"حاولت أن أقاوم و أنفلت من الألوان البنية و ألوذ بفيء الشجرة لكن قضبانا طوقتني من كل الجهات و أرغمتني على العودة إلى السير في شوارع العطش"10
إن اشتغال الأمكنة هو وعي متقدم نظرا لثقلها الواقعي و الرهان عليها كي تنهض بدور البطولة نابع من تعددها القصصي و الجمالي و حضورها الوازن ،و قدرتها على كشف فوضى الواقع من خلال الوقوف على المكان بدل الزمن الذي توارى كالحقيقة ،و"الحقيقة كما يعرف الجميع مختفية و مستترة "11 تحتاج إلى بطولة تزيح عنها الحجاب، و ما يكثف من قيمة المكان و فاعليته هو الوصف المتعدد،أسوق هنا على سبيل المثال:
▪︎أ،ضيعة البرتقال،ساحة الوداع،شارع الغريب،أرخبيل الفواكه...
▪︎ب،شارع بارد،نهر هادر،شارع مجنون،الحقول النائمة...
و هذا المزج بين النعت و الإضافة شحن المكان و جعله يلعب لعبه الخاص، مما أعطى الوصف مكانة ."إن كل الاختلافات التي تباعد بين الوصف و السرد إنما هي اختلافات ذات مساس بالمضمون ،و ليس لها أي أثر سيميولوجي بالمعنى الدقيق للكلمة،فالحكي يرتبط بأفعال...أما الوصف فهو على العكس من ذلك .."12
و النتيجة أن المكان في الشوارع سلط الضوء على السرد من خلال الوصف حين ارتهن إلى المكان الموحش بالمعنى المادي و الرمزي في نفس الوقت ،و حين جعله متعددا لا واحدا ،و جعله مضاعفا أكثر.
▪︎3من مظاهر العلاقة بين الشخصية و الأمكنة:
تكشف العلاقة بين الشخصيات و الأمكنة في "الشوارع "عن علاقة عصية عن الولادة أو حتى الحياة الثانية فهي قد أصبحت مبنية على التيه و الضياع ،و على المحاولة،محاولة إعادة تمثيل ما سبق و الرغبة في الانعتاق و الانفلات من براثن المكان الموحش الذي أصبح غير آمن، بل أصبح سجنا لا مرئيا آخر ينضاف إلى سجن الجدران و الأسلاك...يقول السارد:"الشارع شوارع و أنا التائه في أمواجه المتلاطمة..لم،و لا،و لن..."13 "أنا في السوق..أنا في الملعب"14 "و تاه في الشارع "15
هكذا أصبح المكان فاتكا ملتبسا منفلتا و متحولا "تحولت الحديقة الغناء إلى مغارة مظلمة "
لقد صار مستبدا و عدائيا يعلن حربا لا تعترف بالحدود(أغمات،مراكش،إشبيلية،طنجة،مكناسة، و كل خرائط المدن....و هذا ما يقود إلى لعبة التأويل التي قد تراهن على البحث في مجازات الشوارع لتصبح مدنا و دولا أو قارات تعيش التشظي و التوحش نتيجة العولمة و قد استبدت بكل الأمكنة و الأزمنة.
▪︎4المكان الموحش و الزمن الحيلة /الإديولوجيا:
إذا كان الرهان على الزمن أخطر من الرهان على المكان فالشوارع راهنت على المكان بحمولته الدلالية و أبعاده البنائية و الجمالية و مكنته من دور البطولة لا لينافس الزمن بل ليجعله خلفية تتوارى كلعبة ، كأرجوحة يتجاذبها الحاضر و الماضي دون إمعان في لعبة التذكر و الاسترجاع المكشوفة، يقول السارد: "الشارع يجري ماء و فواكه وفي سمائه مطر مؤجل...رأيت الشارع يلعب و أنا لا أتقن اي لون من اللعب"16
هذا المزج بين الحاضر و الماضي ينفي اي تذكر ،و على اعتبار أن التغيير لم يحدث بالمعنى الحرفي للكلمة في الزمن ،فقد قدم هو الآخر منسجما مع المكان الموحش الموغل في الهيمنة رغم الإيهام أحيانا بالمباشر أن الماضي ربما كان أفضل ،لكن لعبة التأويل تفضح الإبهام فالماضي حاضر و الحاضر ماض و ها هو "علال و صفية أيضا لم يقاوما الزلزال فحلقا بجناح واحد و انطلقا يبحثان عن قوتهماخارجالساحة "17
هو إذن صراع داخل و خارج المكان أما الزمن الموحش فمحسوم سلفا باليومي البغيض...يلعب المكان في الشوارع لعبته مع الزمن قصصيا لتقدم المجموعة همها الاديولوجي ..
و نختم بما يفتتح به السارد قصة،وقت متأخر جدا،:سرت ليلا في شارع تحت المطر جاء في غير وقته ،ملفوفا في الصمت كنت ،أحمل حقيبة صغيرة و أتأبط جريدة و أتجه نحو المجهول "18

▪︎1- الأدب و الغرابة /عبد الفتاح كليطو
▪︎2- دراسات في القصة العربية ،القصة القصيرة المغربية على خط التطور ام على حافة الازمة؟،نجيب العوفي
▪︎3- القصة القصيرة و الأسئلة الأولى، يمنى العيد
▪︎ 4،5،6،7،8،9،10،11،12،13،14،15،16،17،18ا(الشوارع، محمد الشايب ،قصص،السليكي أخوين /2016)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى