أ. د. عادل الأسطة - تأمُّلات في حركة القصة القصيرة

هل يدق آخر مسمار في نعش القصة القصيرة؟
في 80 ق20، وربما أسبق من ذلك بسنة أو اثنتين، قرأت مقالا تحت العنوان التالي: هل يدق آخر مسمار في نعش الشعر، وحجة صاحب المقال أن أبرز الشعراء، في باريس، قد لا يبيع ألف نسخة من ديوان شعره. وسيظل السؤال يراودني وأنا أتحدث عن الشعر، وإن كنت ألاحظ بعض الاستثناءات، فثمة شعراء قليلون تجاوزت مبيعات دواوينهم المليون نسخة.
في ندوة معرض الكتاب في رام الله (16/10/2012) سألت الناشر فتحي البس عن نفاد المجموعات القصصية التي يطبعها، وكانت إلى جانبي القاصة الأردنية بسمة النسور، فأجابني أنه طبع لبسمة أربع مجموعات منذ نهاية 80 ق20 وبدايات 90 ق20، وهي الآن توشك أن تنفد نسخها، ولم يتحدث عن طبعة ثانية.
وأنا أُمعن النظر في المجموعات القصصية لبعض كتّابنا ألحظ أن أكثرهم لم تطبع مجموعته أو مجموعاته أكثر من طبعة، وألحظ، أيضاً، أن هناك كتاباً وكاتبات أصدروا المجموعة الأولى، فكانت الأولى والأخيرة.
وكما ذكرت فمنهم من انشغل بأجناس أدبية أخرى أو تحول إليها، ومنهم من اكتفى بإصدار العمل الأول: فاطمة خليل حمد، وإلهام أبو غزالة، وماجد أبو شرار، ومحمد أبو النصر، وأحمد زيدان و... و... و... عز الدين القلق وجبرا ابراهيم جبرا ومحمد كمال جبر وعزت الغزاوي. وفي 70 ق20 أصدر القاص فضل الريماوي مجموعته الأولى "بياع السوس"، وكان يشارك في الحياة الأدبية مشاركة فعالة، وقد هجر الكتابة إلى التجارة، لا إلى الرواية مثل جبرا والغزاوي.
وأعود إلى السؤال: هل يدق آخر مسمار في نعش القصة القصيرة؟ ثمة أشكال أدبية عديدة ازدهرت ثم سادت ثم تلاشت. الحكاية والمقامة مثالان بارزان. هل ارتبطا بأشكال اجتماعية معينة فلما زالت زالت الحكاية والمقامة معهما، فالأخيرتان إفراز لشكل اجتماعي ما؟
هنا نتذكر رأي (جورج لوكاش) في اجتماعية الأشكال الأدبية: "لا تنشأ الأساليب الجديدة أو طرق القص الحديث أبداً من خلال جدل باطني للأشكال الفنية، حتى عندما تكون دائماً مرتبطة بالأشكال والأساليب القديمة، وينشأ كل أسلوب جديد مع الضرورة الاجتماعية التاريخية من الحياة، ويكون هذا نتيجة ضرورة للتطور الاجتماعي".
نشأت القصة القصيرة في ن2 من ق19، وكانت نشأتها ضرورية، فقد ازدهرت الصحف والمجلات، وازدهر التعليم والقراءة ولم يكن هناك منافس للكتّاب كما هي الحال في أيامنا. وتطورت الحياة وتغيرت وما عاد الكتاب وسيلة التثقيف الوحيدة، فهل ما ألم بالحكاية والمقامة ألم بالقصة القصيرة؟
في 70 ق20 في الضفة، بل وفي فلسطين المحتلة العام 1948، لم تكن هناك دور نشر تغامر بطباعة كتب، وكان على الكتاب أن ينشروا نتاجهم، ابتداءً في الصحف والمجلات وهكذا ازدهر الشعر وازدهرت القصة القصيرة، وحين جازفت دور النشر المحلية بطباعة كتب أخذت تطبع لأسماء معروفة. وربما تذكرنا ما رواه نجيب محفوظ في كتاب "نجيب محفوظ.. يتذكر" الذي أعده جمال الغيطاني.
حين سئل محفوظ عن قصصه القصيرة، وعن كونها مشاريع روايات، قال: إنها في الأصل روايات اختصرت إلى قصص قصيرة، وكثيرون لا يعرفون هذا. ويوضح محفوظ سبب اختصار رواياته إلى قصص قصيرة. كان يومها كاتباً ناشئاً، ولم تغامر دور النشر بنشر أية رواية له، لأنها قد تفلس، وهكذا اقترح عليه بعض الناشرين أن يختصر رواياته وينشرها في المجلات، وهذا ما كان.
والآن غدا الناشرون ينشرون الروايات، ويترددون في نشر المجموعات الشعرية والقصصية، إلا إذا كان صاحبها اسماً معروفاً. وكلنا يعرف أن هناك جوائز قيمة عربية للشعر وللرواية، مثل جائزة "البابطين" وجائزة "بوكر"، فهل ثمة جائزة على مستوى الوطن العربي للقصة القصيرة.
شعراء روائيون.. شعراء كتاب قصة قصيرة:
لعل من يتابع الأدب الفلسطيني منذ 40 ق20 يلحظ جنوح بعض الشعراء لكتابة الرواية (محمد العدناني وروايته "في السرير")، وسوف تتعزز هذه الظاهرة اللافتة بمرور السنوات: يوسف الخطيب وهارون هاشم رشيد وسميح القاسم وعلي الخليلي وأسعد الأسعد وغسان زقطان وزكريا محمد ومحمد القيسي، وقسم من هؤلاء أصدر أكثر من رواية، بل إن منهم من هجر الشعر كلياً إلى عالم الرواية مثل أسعد الأسعد. هل نقول الشيء نفسه عن إبراهيم نصر الله؟
وإذا ما تتبع الدارس تحول الشعراء إلى كتاب قصة قصيرة فهل يلحظ الشيء نفسه وبالمقدار نفسه؟
طبعاً هناك شعراء كتبوا القصة القصيرة وأصدروا مجموعة واحدة أو مجموعتين على أكثر تقدير، لكنهم لم يتميزوا في كتابة القصة ولم يهجروا عالم الشعر لأجلها، فقد ظلوا شعراء بالدرجة الأولى وأبرز هؤلاء فاروق مواسي والمتوكل طه.
قاصون جدد:
أعود إلى السؤال: هل ندق آخر مسمار في نعش القصة القصيرة يعتب عليّ بعض القاصين الجدد، مثل أحلام بشارات وأماني الجندي بأنني أقتصر في كتاباتي على أسماء محددة في عالم القصة القصيرة، وأنني لا ألتفت إلى الكتاب الجدد، وربما يكون هذا صحيحاً، لكنني أتساءل: هل قدم قاص جديد إضافات نوعية متميزة إلى ما قدمه شقير وهنية؟
مرة كتبت مقالاً عنوانه "محمود شقير وقصتنا القصيرة الفلسطينية" وأتيت في نهايته على القاص الشاب ـ في حينه ـ زياد خداش، وأوردت له قصة قصيرة جداً، لأربط بين "تجربته وتجربة شقير في هذا اللون، وحين أهداني أمين دراوشة مجموعتيه "الوادي أيضاً" (2001) و"الحاجة إلى البحر" (2007) تساءلت: هل أضاف جديداً إلى حركتنا القصصية؟
كان هاجس محمود درويش في الشعر، وهاجس أكرم هنية ومحمود شقير في القصة القصيرة، الإضافة النوعية، وربما تذكر المرء منهج (برونتير) التاريخي: ما هو موقع ما يكتب في لونه الأدبي؟ وحين أسأل قاصين جدداً إن كانوا قرؤوا، قبل أن يكتبوا، النتاج القصصي الفلسطيني، يعترف لي كثيرون بأنهم لم يفعلوا ذلك بعد ـ أعني: لم يمارسوا فعل قراءة السابق ليبنوا عليه. وربما هذا السبب، وأسباب أخرى، هي ما تجعلني أتردد في الكتابة عنهم: الانقطاع عن الكتابة لاحقاً والانصراف إلى جنس أدبي آخر، وأحياناً أقول: على الجيل الجديد أن يوجد معه نقاده، ولعلّني مخطئ، وأظن للتأمُّلات بقية!!

عادل الأسطة
2012-11-04
الايام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى