محمد لغويبي - الشكل القصصي في "مرايا" سعيد رضواني

إضاءة
في مرايا القصة يتضاعف السرد، تصبح القصة مرآوية، و من خلال تلك المرآة السحرية تتضاعف الحكاية بأن تصبح واقعا متعددا، أي حقيقية، ليس بالمعنى الحرفي للكلمة، و إن جاز ذلك، بل باعتبارها فلسفة تتبنى نسقها الخاص الذي يكشف رؤيتها للعالم، و من هنا "ربما كانت القصة لا تسير بل تصير "1،لأنها تتشكل و تنبني مرتين، في الأولى يشتغل القاص في محترفه و قد استعد-و هو يعتقد ذلك- و في الثانية يشتغل المتلقي و قد أدرك-و هو يزعم- أن على "متلقي القصة أن يضاعف جهده كذلك قصد إثراء الإمكانات الدلالية الممكنة ،بيد أنه لا بد من الخضوع لمختلف السياقات النصية و الأجناسية و البلاغية و اللغوية لتحقيق هذا المبتغى "2
من هنا وجدت "مرايا" سعيد رضواني 3 تتوخى غايتين ،الإنتاج و التلقي، لضمان حياة قصصية و وجودية لقصصه المرآوية، و هي تتشكل ،و هي تقرأ...فلا تسير بل تصير متلقيا حين التورط فيها.
■1 في قصته "مرايا الأحلام "تفتح الشخصية عينيها أربع مرات ص (7،8،9،10،11،12)،و في كل مرة تبصر عالما لم ير من قبل ،حديقة من الرخام و الورد و الشجر...سيارة و فيلات و حديقة...،تتذكر الشخصية/السارد أحداثا افتراضية في محاولة لتبرير العالم المرئي، فلا بد أنه يشك في ما يراه ،ثو يضع سيناريو يكشف فيه هوية الرائي، فيكون قرويا فقد أرضه و بقراته ،...يحلم باسترجاعهما و قد اغتصبا منه في لحظة زمنية مفترضة قابلة للتأويل، أخذها منه جاره بالاحتيال...كما يكون صاحب سيارة ذا وجه عابس قانط من الوحدة رغم كلبه الذي لم يغنه من وحشته، الشخصيتان معا هما لشخص واحد ،الثاني يتراءى للأول الذي يعتدي عليه شاكا أنه من سرق حافظة نقوده من السيارة خلال نومه...سيرى على الرصيف الآخر امرأة و كأن الوجود كله تحول إلى امرأة واحدة ،هي التي اختصرت كل شيء لتمضي معه و هو شاك في كل ما يراه ..و هناك يقصد الحمام للاستحمام قبل أن يسقي جسده الذابل..و في نومه سيرى من جديد كل ما رآه سابقا ،صاحب سيارة و صاحب أرض و بقرات ..و رأى أشياء كثيرة ،و في منتصف الحلم رأى نفسه يفقد كل شيء.
إنها قصة مرآوية لا تكتب بل تتشكل لتتضاعف، لا لتنمو، و لا لتقرا فقط، بل ليصبح هاجسها أن ترى، من خلال ثلاثة أبعاد، تشكل محكيات مرآوية:
السارد ~القروي ~الضيعة
السارد ~المتشرد~الحديقة
السارد ~الغني ~السيارة
و في تشابك السرد/الرؤية ،تنشطر الشخصية الرئيسة و هي السارد/النائم/الحالم على إيقاع حزين ،على إيقاع مزمار نشيط، ثم يعود إلى حلمه العذب على الإيقاع الأول الرتيب، فالحلم هنا مرآة غير عاكسة بل فاعلة كقوة بنائية، و الرؤية ليست إبصارا بل تجليا لذات منشطرة يتضاعف عمرها في مساحة السرد من الثلاثين سنة إلى الستين مرورا بالأربعين، و في مساحة السرد الوجيز يمتد عمر و أحلام تكشف الخيبات.
إن القصة هنا أشبه بالسيناريو أو هي كتابة مشهدية تقوم على بلاغة التكرار..
■2في قصته" دمية السيليكون (25،26،27،28،29،30) ينهض السرد على علاقة جسدية محتملة قائمة على النظر "أنظر إلى نهديها فأرى في صغرهما دعوة لمشرطي و نداء للسيليكون "و حين أمر فوق أردافها أرى في انتفاخها المفرط دعوة لمشرطي و رغبة في شفط الذهون "فأرى في هذا الترهل دعوة لمشرطي و نداء للخيوط و الإبر" ،" أقف مرتعشا متأملا الجسد المسجى...لكن بعد فوات الأوان "...
لهذه العلاقة الجسدية المفترضة بين السارد و الشخصية الأنثى تاريخ "من نافذة الزنزانة أنظر إلى السماء، تدعوني زرقتها إلى معانقة الحرية تحت سماء و صيف ولى ،حيث أقدامي كانت تحترق بريال شاطىء شهد لقاءنا الأول " ،و نقضي سنة "،" و نقضي سنتين "،"و نقضي ثلاث سنوات "،"و نقضي عشر سنوات "...إنها لعبة تكثيف السرد من خلال محو التاريخ بالإشارة إليه فقط،فالسرد فلسفة تنظر إلى الزمن باعتباره سلطة قاهرة و نافذة فيعمد إلى سبر غوره و خباياه من خلال حاضر فاضح يرفع اللبس سردا عن وجهة نظر ذكورية تصارع الزمن و الأنثى من خلال مشرط الجراحة و إبرها و خيوطها و ضماداتها لتبرئة الذمة من جرائم الفتك/اللذة الفانية ،التي ينتصر عليها الموت /الفوات "لكن بعد فوات الأوان "
و في كل ما نراه من هذه المحكيات المرآوية يعبث الزمن و السارد /الذكر، بنفسه و عقله ،و بالجسد الأنثوي المستسلم للرغبات تحت طائلة العقاب و الإنتقام و السلطة..و يستمر السرد في التكرار المشهدي الجراحي لدمية السيليكون، لكنه ينهزم أمام الموت في اللقاء الأخير ،إنه هازم اللذات و مفرق الجماعات حتى لو كان الأمر امرأة تحولت إلى دمية ،أو دمية تحولت إلى امرأة ،فقد انتصرت لعبة الزمن كما انتصرت المرأة الدمية أو الدمية المرأة، بأن جعلت السارد/الشخصية يرى في "سكونه جرما و أسفا و ندما، الجسد الذي رأيت في رحيله رحيلي ،الجسد الذي جعلني أحس بالشفقة على نفسي من الوحدة و الأسر، لكن بعد فوات الأوان " على ما الأسف و الندم و قد فات الأوان؟!هل يتعلق الأمر بالسلوك الإنساني المفرط في تحوله...؟! أم يتعلق الأمر بالفقد و العجز أمام الزمن؟
■3تحنل شخصية الكلب في هذا الكتاب القصصي مكانة باعتبارها رمزا ثقيلا بالإشارات و الإحالات، و باعتبارها قوة فاعلة أيضا. ففي قصة "مرايا الأحلام " يمتلك صاحب السيارة كلبا يدل على البطش "و في المرآة رأى الوجه العابس...رأى خلفه كلبه الذي لم يغنه من الوحدة "ص8، و في قصة "وصيتان" ص33،34،35،الكلب هو الوارث الشرعي للتركة "اندهشت الآن و أنا أرى كامل أملاكها تنتقل إلى الكلب البري المستأنس، دوكي"، و في قصة "همس"ص 39،40،41،42 نجد الكلب الذئبي "دوكي" الذي تملكه رانيا و هو الكلب الذي يثير سعاد الخادمة ،المدعوة إلى الاعتناء به في غياب صاحبة البيت ،و ها هو يتحرش بها فتستسلم له بعد لأي "التفتت تجاه الساعة الحائطية...ثم أخذت و جبينها ينضح بالعرق تقترب بخطى بطيئة من الكلب و هي تفكر :لا تزال ساعتان قبل حلول المساء"،كما نجد الكلب في القصة السابعة التي تحمل عنوان"دوكي و روز"،و يشتغل فيها الكلبان دور المحفز على الجنس بين الفتى و الفتاة ،في الحديقة ..عبر استيهامات...و يعود الكلب إلى الحضور بقوة في قصة "مداعبة"،ص59،60، حيث يفارق الكلب رمزيته الحيوانية ليرتقي بالدلالة إلى العلاقة السلبية التي تحكم الشرق و الغرب فالكلبان يحملان اسمي طارق و جاك.
إن تشغيل الكلب كطاقة حيوية جعل القصة تتضاعف مرآويا لتعري الواقع الإنساني و هو ما مكن "مرايا" من جمالية لافتة بتوظيف قوى فاعلة غير آدمية للتعبير عن حياة لم تعد حالات معزولة بقدر ما أصبحت واقعا مجتمعيا معاصرا جدير بالسرد/القصة /الحقيقة. و هو استثمار أليغوري محكوم بجدلية الخفاء و التجلي عبر التكرار و الاستبدال ،جعل منه السرد القصصي في هذه المجموعة يضاعف المأساة الإنسانية فيضاعف القصة ،و تلك خاصية أخرى ،فهي تتيح الفرصة "للقارىء لارتكاب الشر أي لتحقيق أحلامه الخبيثة في إطار من إبراء الذمة ينسبها للكاتب "4
■4"إن معايير الكتابة و القراءة صارت عالمية يتقاسمها الأدباء في سائر أرجاء المعمور "5 و هذا ما يستشف في هذه المجموعة فهي تدعوك إلى استجلاء تقنيات سردية و رؤى قصصية و تلقيات مفترضة من عوالم مختلفة ،و بقدر ما تشي الكتابة القصصية هنا بإمساك عليم بالصنعة بقدر ما تبقى وفية لتقاليد عريقة ،فهي ليست موغلة في التجريب و لا مأسورة بالقوالب الجاهزة لكنها دائرة قصصية لها بداية و نهاية ،و هو ما نجده في أغلب القصص ،فهناك الشخصية و الحدث و الزمن و المكان و هناك الاقتصاد..و لحظة التوتر و التنوير..لكنها دائرة مفتوحة لا تكتمل خياطتها أو حياكتها إلا بالتلقي الذي يكشف عن الإنسان/العالم في هذه الدائرة، إنها لا ترسم حدودا نهائية للسرد و القصة بل تترك الباب مواربا يسمح بالدخول و الخروج ففي دمية السيليكون لا تنتهي القصة إلا لتبدا، و في مرايا الأحلام لا تنتهي القصة بل تستمر مع الحلم و التخيل..و في قصة وصيتان تنتهي القصة و لا ينتهي سؤال القصة .و في قصتي همس،و نباح ،تدفعك القصتان إلى التورط في الغريب و العجيب ...أما الزمن في مرايا فهو مركب و بسيط ،مزيج من اللعب المرآوي الذي يضمن للقصة القصيرة استقلاليتها و خصوصيتها رغم النزوع إلى التجريب "و تحت ظل الزمن تتضام الانفعالات المهولة و مطارق قلقها المدمرة ،و يكون من الطبيعي و المبرر نفسيا أن تتأثر قدرة المبدع على رصد أوجه التجريب المختلفة و التوغل في أعماقها و الإمساك بدقائقها حين يسعى إلى تجسيدها و هو يحاول ،في الوقت ذاته،التملص و الإفلات من مخالب الخيبة في ظل زمنها "6
▪︎1الزرافة المشتعلة، أحمد بوزفور ص42ط1،المدارس
▪︎2بلاغة التصوير ..،محمد أحمد أنقار ص92 ط1،مكتبة سلمى الثقافية
▪︎3مرايا/قصص،سعيد رضواني ط1، التنوخي للنشر
▪︎4الزرافة المشتعلة..ص43
▪︎5مسار /ع الفتاح كليطو ط2،توبقال ص140
▪︎6أطياف في مرايا القصة، عمر العسري ط1،ص57~58


1666555349481.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى