يكتب الشاعرُ قصيدتَه ليستثمرَ طاقتها الاستعارية، في المكاشفة، والمساءلة وفي تسويغ رؤية الوجود، إذ يكون الوجود في اللغة مخاتلا ومواربا، وهذا ما يجعل «لعبة» الكتابة وكأنها محاولة في إثبات الصلة بين القصيدة، وحمولاتها الرؤيوية والدلالية والرمزية، ما يُعطي لها شغفا في المناورة، وفي تجاوز التحييد، وفي استدعاء الغواية، للتلصص، والتماهي مع الطبيعة، وحتى الإصغاء إلى أصوات الغائبين، واستدعاء شغف البصيرة لكي تجسّ ما هو خفي في اللغة، وفي سرائر الأمكنة وطلاسمها.
يضع جبار الكواز شعرية أناه الشعرية، الحاضرة والقلقة والشكاكة والمتسائلة، إزاء لعبة الإصغاء، وإزاء المخفي والغائب في الوجود، وليجعل من مدونته وكأنها تصعيد، أو افتتان تعويضي بفكرة الحضور، وبهواجس البحث عن المعنى، عبر استغوارات الأسطورة والرمز، وعبر ما هو مستور في الأمكنة، تلك التي يستدعيها بوصفها إحالة رمزية لوجوده، ولذته، ولرؤيته، حدّ أن مقاربته لـ»الإقصاء المكاني» تبدو وكأنها إقصاء لوجود الشاعر ولذاكرته المسكونة باسماء ورموز لا تنفصل عن ما تستدعيه شعرية الرؤيا ذاتها، فهو الشاعر المديني، المسكون بالرؤيا والأرشيف، وبهواجس الراوي الذي يرصد التحولات والمرويات والحكايات والخيبات..
في قصيدة « لا أسميها البصرة» يحضر الدال المكاني بوصفه فاعلا، ونافيا لفكرة الغياب، إذ يبدو «النفي» في عتبة العنوان، شرطا إيحائيا بالحضور، وإحالة إلى توصيف إشاري يكون فيه الضمير «أنتِ» شاهدا على إثبات البقاء، المقرون ضديا بما اختزنه ذاكرة الرائي من رعبٍ/ إنهاك استغرق المدينة/ الوجود.. تمركز القصيدة حول ثيمة المكان/ البصرة، يوجّه علاميا إلى مقاربة التاريخ، والحرب وعوامل الإقصاء والمحو والموت، مقابل الإشارة إلى التفاصيل التي توحي بالتذكّر والبقاء والرؤية، وهي إحالات للحياة، إذ يحضر النخيل مقابل الظمأ، وإذ تحضر السماء الثكلى مقابل البرابرة، وإذ يحضر الأولاد الخونة مقابل الدلاء المتينة بحبالها، والمدى الواسع في أعالي الرياح.
يوظف الشاعر سردية الشعر بتقنية «أنا الشاعر/ الشاهد، وعلى نحوٍ يمنح طاقة الشعري حافزا لمنح النسق السردي طاقة تخيّلية لترسيم ما هو شعري، وما هو تأويلي، وما هو استعاري، وهي تشكلات تصعد باتجاه ربط حكاية القصيدة، بالتاريخ، وبجعل التمثيل الشعري فيها، وكأنه نوعٌ من التوليف/ المونتاج الذي ترتبط استعاراته بالانزياح، وإشاراته بالمحذوف من التاريخ، وتخيلاته بما هو مخفي في أنساقه المضمرة، فالقصيدة تجد البناء النثري تمثيلا تصويريا لترسيم مشاهدها، ومساحة لتحويل ما هو بصري إلى تشكيل شعري ذي بنية ملحمية، يستقرأ من خلالها الشاعر المخفي في الصراع والحرب والغزو، وإحالة المقروء النصي/ التصويري إلى معاينة ومكاشفة يستنطقها الشاعر، ويصطنع لها استعارات تعزز بنية السينوغرافيا في المشهد الشعري.
هكذا أنتِ
بعد أن انهككِ البرابرة،
التفتُ
رأيتُ السماءَ ثكلى
والرياحَ جنونا،
والآفاقَ ومضة في عيون اليتامى،
ولم يكن فوق نخيلك إلا هواجسك،
وأنت تفلسفين أحلامك بالظمأ..
ما تستدعيه الرؤية الشعرية..
بدءا من عتبة العنوان، وحمولته الرمزية، يعمد الشاعر إلى توظيف «السرد الشعري» بوصفه بنية «تشكيلية» لا تنفصل عن تمثيل رؤيته، ولا عن لعبته في بناء مشاهد تتغذى بالتخيّل، إذ يكون ظرف «بعد» زمانيا يتعلّق بما يحدث جرّاء الإنهاك، وعنصرا تصويريا يتعلّق بوجهة نظر السارد، الذي يستدعي عين الكاميرا الشعرية لتتبع سيرة المدينة، ولتقصّي تحولاتها، تلك التي تستثمر طاقة الملحمي لتصوير فجيعتها في الحضور والغياب، وفي توليف عناصرها البنائية، والتشكيلية، ولتجعل من تمثلات «الحال الملحمي» للقصيدة، مجالا تعبيريا لتجسيد حركة الاستعارات، بوصفها وصفا للصراع، وتمثيلا لحمولتها الإشارية، إذ تنفتح صيغة النداء «أيتها» على أسطورة الخلق والسحر، ليستأنف عبرها الشاعر رؤياه، وهي تستغرق، وتحفر، وتجس، وتتقمص دور الرائي والشاهد والناهي.
« أيتها الحالمة بجنائن من طين،
وبجنون ظلّ يفرك روحك بالدخان،
حتى أضاءكِ العطش،
وعتعتكِ الملح،
وهزلكِ الاولاد الخونة كقطاة طمآى،
لا تختمي بإبهامكِ بئرا،
إلا حين تتيقنين أن الدلاء متينة حبالها،
وأنّ المدى واسع في أعالي الرياح،
وهو وريقك في السراء والضراء.
لعبة الشاعر في الاستدعاء، لا تنفصل عن رؤيته للتاريخ والأسطورة، إذ تحضر جملها الفعلية «التفتُ، رأيتُ» بوصفها استهلالا لتوقيد اللساني، وإلى تشكيل سلسلة من الجمل الأسمية التي تبدو وكأنها محاولة في اصطناع «إيقاعات بصرية» يختلط فيها الشعري بالذهني، والتاريخي بالسردي، والأسطوري باليومي، وهذه العلائق تقترح كشوفات بنائية، وسيميائية يحضر فيها الشاهد والرائي، ليس لتدوين الوقائع، بل للنهي عن حدوثها، ولإعطاء فعل الاستدعاء طاقة الكشف عن الشعري، بوصفه خزّان الرؤيا، والاستعاري الذي يُحيل المعنى إلى التأويل، وإلى ما يشبه الترياق الاستعاري لمواجهة الموت..
القصيدة/ «السكيج» قد تكون مقترحا لقراءة بنية المشهد في هذه القصيدة، فهذه التقانة في ترسيم الوحدات الشعرية، تجعل الشاعر أكثر رهانا على الجملة التصويرية، بوصفها جملة شعرية، تشتغل على المحذوف في الجملة النحوية، إذ تكوّن الجملة القصيرة إيحاءً، واختزالا، مثلما تكوّن الجملة الطويلة مشهدا توضيحيا يستند إلى الاستعارة وإلى المجاز، وعلى نحوٍ يجعل من «السكيج» وكأنه مقطع من مشهد ملحمي للمدن التي غزاها «البرابرة» بكل أقنعتهم وأسمائهم.
مفاتحيك ضاعت في أكف جنود الإنكليز،
كم سواد مرّ عليك،
وأنت تتكئين على جدارهم،
ولم تُلقّح أشآم كؤوسك
سوى حب عذارى ورقصات.
شيفرة النهي وشهوة الاستعارة
لا يضع الشاعر الكواز قصيدته أمام اضطرار المشابهة، بل يقترح لقارئه أفقا لقرائتها، وغواية لتوظيف الاستعارة، ولمخاتلة المعنى، وباتجاه تحويل دافع القراءة إلى ما يشبه البحث عن المخفي، في سيرة المدينة، وفي ما تستبطنه تلك الاستعارة من مخفيات، فهو لا يتعمد إلى الإقصاء، بقدر ما يجعل حرف النهي «لا» مجالا للامتناع، وليس للتغيّب والمنع كما هو في الجزم، وهذه التوليفة تُحيل إلى مقاربة استعارية لاستدعاء الحياة، ولجعل شيفرة النهي وكأنها دعوة خبيئة للإرجاء بحمولته الفلسفية، كما عند بول ريكور، أو لمواجهة التخلّي عبر اللغة كما عند الصوفيين..
ما بين الإرجاء والتخلّي يخترق الشاعر حجبه، ويجعل من النهي استئنافا لكشوفات أخرى، ولتعرية أكثر قسوة، لكنها أكثر فضحا وتعرية، ولاستدعاء «ذاكرة» تساكن « الغائب الموعود، وتمنح اللغة بوصفها «نصوصا» طاقة خلاقة، يستعيد عبرها الشاعر روح المدينة، ويجعل من شيفرة النهي أكثر استئثارا بالتأويل، وبمنح القصيدة حركة داخلية دائبة عبر التوالي، وعبر رفد الشعري بالتصويري، والتاريخي بالسردي، إذ يتلقي النهي العنواني «لا أسميك البصرة» بالنهي الطارد للموت، ليُشكّلا فضاء يجعل من الواقعة الشعرية ضدا نوعيا للواقعة التاريخية، ولشعرية النهي ضدا استعاريا لشعرية الإقصاء.
فلا تتعجلي الموت،
الملحُ في العيون،
والمياه غربة ونواح، ورحيل بلا ملاح،
ورحيل خاتل ضيّعه ملاح،
وهو يحثّ الشراع بالدخان،
ويُعلّق في رقبة قيدومك
شجرة جدنا الغرنوق المثمرة،
مردة، سحرة وخونة وإنكليز وهنود
وقراصنة وشهداء..
وفي ختام القصيدة يستدعي الشاعر– مرة أخرى- حرف النهي «لا» ليؤدي وظيفة استفزازية للثابت، ولتصعيد المتحرك في دراما الحدث، إذ يُقرن النفي بما يشبه «المع» اي الجزم، وهذا تحوّل في توالي حركة المشاهد، ولتوضيح القصد، إذ يتخلى عن جملة المحذوف، مقابل حضور جملة المشهد الواضحة، والمكشوف كخطاب مُرسل إلى المدينة لمواجهة محوها، وتاريخ إقصائها، وتأكيد وجودها ويقظتها كسيرة للحضور والصحو، ولمشاكلة بضاعة الأوهام الغائرة في نصوص خائنة ومخادعة تركها غزاة آخرون..
فلا تدسّي عقلك بضاعة في وهج الأمس،
ولا تنامي على وعدٍ آخر يقودك
إلى كذبِ موتك – كذبِ حياتك
حين أعلنوا أنهم راحلون عن البصرة
أمس أو قبل قرون…
كاتب عراقي
يضع جبار الكواز شعرية أناه الشعرية، الحاضرة والقلقة والشكاكة والمتسائلة، إزاء لعبة الإصغاء، وإزاء المخفي والغائب في الوجود، وليجعل من مدونته وكأنها تصعيد، أو افتتان تعويضي بفكرة الحضور، وبهواجس البحث عن المعنى، عبر استغوارات الأسطورة والرمز، وعبر ما هو مستور في الأمكنة، تلك التي يستدعيها بوصفها إحالة رمزية لوجوده، ولذته، ولرؤيته، حدّ أن مقاربته لـ»الإقصاء المكاني» تبدو وكأنها إقصاء لوجود الشاعر ولذاكرته المسكونة باسماء ورموز لا تنفصل عن ما تستدعيه شعرية الرؤيا ذاتها، فهو الشاعر المديني، المسكون بالرؤيا والأرشيف، وبهواجس الراوي الذي يرصد التحولات والمرويات والحكايات والخيبات..
في قصيدة « لا أسميها البصرة» يحضر الدال المكاني بوصفه فاعلا، ونافيا لفكرة الغياب، إذ يبدو «النفي» في عتبة العنوان، شرطا إيحائيا بالحضور، وإحالة إلى توصيف إشاري يكون فيه الضمير «أنتِ» شاهدا على إثبات البقاء، المقرون ضديا بما اختزنه ذاكرة الرائي من رعبٍ/ إنهاك استغرق المدينة/ الوجود.. تمركز القصيدة حول ثيمة المكان/ البصرة، يوجّه علاميا إلى مقاربة التاريخ، والحرب وعوامل الإقصاء والمحو والموت، مقابل الإشارة إلى التفاصيل التي توحي بالتذكّر والبقاء والرؤية، وهي إحالات للحياة، إذ يحضر النخيل مقابل الظمأ، وإذ تحضر السماء الثكلى مقابل البرابرة، وإذ يحضر الأولاد الخونة مقابل الدلاء المتينة بحبالها، والمدى الواسع في أعالي الرياح.
يوظف الشاعر سردية الشعر بتقنية «أنا الشاعر/ الشاهد، وعلى نحوٍ يمنح طاقة الشعري حافزا لمنح النسق السردي طاقة تخيّلية لترسيم ما هو شعري، وما هو تأويلي، وما هو استعاري، وهي تشكلات تصعد باتجاه ربط حكاية القصيدة، بالتاريخ، وبجعل التمثيل الشعري فيها، وكأنه نوعٌ من التوليف/ المونتاج الذي ترتبط استعاراته بالانزياح، وإشاراته بالمحذوف من التاريخ، وتخيلاته بما هو مخفي في أنساقه المضمرة، فالقصيدة تجد البناء النثري تمثيلا تصويريا لترسيم مشاهدها، ومساحة لتحويل ما هو بصري إلى تشكيل شعري ذي بنية ملحمية، يستقرأ من خلالها الشاعر المخفي في الصراع والحرب والغزو، وإحالة المقروء النصي/ التصويري إلى معاينة ومكاشفة يستنطقها الشاعر، ويصطنع لها استعارات تعزز بنية السينوغرافيا في المشهد الشعري.
هكذا أنتِ
بعد أن انهككِ البرابرة،
التفتُ
رأيتُ السماءَ ثكلى
والرياحَ جنونا،
والآفاقَ ومضة في عيون اليتامى،
ولم يكن فوق نخيلك إلا هواجسك،
وأنت تفلسفين أحلامك بالظمأ..
ما تستدعيه الرؤية الشعرية..
بدءا من عتبة العنوان، وحمولته الرمزية، يعمد الشاعر إلى توظيف «السرد الشعري» بوصفه بنية «تشكيلية» لا تنفصل عن تمثيل رؤيته، ولا عن لعبته في بناء مشاهد تتغذى بالتخيّل، إذ يكون ظرف «بعد» زمانيا يتعلّق بما يحدث جرّاء الإنهاك، وعنصرا تصويريا يتعلّق بوجهة نظر السارد، الذي يستدعي عين الكاميرا الشعرية لتتبع سيرة المدينة، ولتقصّي تحولاتها، تلك التي تستثمر طاقة الملحمي لتصوير فجيعتها في الحضور والغياب، وفي توليف عناصرها البنائية، والتشكيلية، ولتجعل من تمثلات «الحال الملحمي» للقصيدة، مجالا تعبيريا لتجسيد حركة الاستعارات، بوصفها وصفا للصراع، وتمثيلا لحمولتها الإشارية، إذ تنفتح صيغة النداء «أيتها» على أسطورة الخلق والسحر، ليستأنف عبرها الشاعر رؤياه، وهي تستغرق، وتحفر، وتجس، وتتقمص دور الرائي والشاهد والناهي.
« أيتها الحالمة بجنائن من طين،
وبجنون ظلّ يفرك روحك بالدخان،
حتى أضاءكِ العطش،
وعتعتكِ الملح،
وهزلكِ الاولاد الخونة كقطاة طمآى،
لا تختمي بإبهامكِ بئرا،
إلا حين تتيقنين أن الدلاء متينة حبالها،
وأنّ المدى واسع في أعالي الرياح،
وهو وريقك في السراء والضراء.
لعبة الشاعر في الاستدعاء، لا تنفصل عن رؤيته للتاريخ والأسطورة، إذ تحضر جملها الفعلية «التفتُ، رأيتُ» بوصفها استهلالا لتوقيد اللساني، وإلى تشكيل سلسلة من الجمل الأسمية التي تبدو وكأنها محاولة في اصطناع «إيقاعات بصرية» يختلط فيها الشعري بالذهني، والتاريخي بالسردي، والأسطوري باليومي، وهذه العلائق تقترح كشوفات بنائية، وسيميائية يحضر فيها الشاهد والرائي، ليس لتدوين الوقائع، بل للنهي عن حدوثها، ولإعطاء فعل الاستدعاء طاقة الكشف عن الشعري، بوصفه خزّان الرؤيا، والاستعاري الذي يُحيل المعنى إلى التأويل، وإلى ما يشبه الترياق الاستعاري لمواجهة الموت..
القصيدة/ «السكيج» قد تكون مقترحا لقراءة بنية المشهد في هذه القصيدة، فهذه التقانة في ترسيم الوحدات الشعرية، تجعل الشاعر أكثر رهانا على الجملة التصويرية، بوصفها جملة شعرية، تشتغل على المحذوف في الجملة النحوية، إذ تكوّن الجملة القصيرة إيحاءً، واختزالا، مثلما تكوّن الجملة الطويلة مشهدا توضيحيا يستند إلى الاستعارة وإلى المجاز، وعلى نحوٍ يجعل من «السكيج» وكأنه مقطع من مشهد ملحمي للمدن التي غزاها «البرابرة» بكل أقنعتهم وأسمائهم.
مفاتحيك ضاعت في أكف جنود الإنكليز،
كم سواد مرّ عليك،
وأنت تتكئين على جدارهم،
ولم تُلقّح أشآم كؤوسك
سوى حب عذارى ورقصات.
شيفرة النهي وشهوة الاستعارة
لا يضع الشاعر الكواز قصيدته أمام اضطرار المشابهة، بل يقترح لقارئه أفقا لقرائتها، وغواية لتوظيف الاستعارة، ولمخاتلة المعنى، وباتجاه تحويل دافع القراءة إلى ما يشبه البحث عن المخفي، في سيرة المدينة، وفي ما تستبطنه تلك الاستعارة من مخفيات، فهو لا يتعمد إلى الإقصاء، بقدر ما يجعل حرف النهي «لا» مجالا للامتناع، وليس للتغيّب والمنع كما هو في الجزم، وهذه التوليفة تُحيل إلى مقاربة استعارية لاستدعاء الحياة، ولجعل شيفرة النهي وكأنها دعوة خبيئة للإرجاء بحمولته الفلسفية، كما عند بول ريكور، أو لمواجهة التخلّي عبر اللغة كما عند الصوفيين..
ما بين الإرجاء والتخلّي يخترق الشاعر حجبه، ويجعل من النهي استئنافا لكشوفات أخرى، ولتعرية أكثر قسوة، لكنها أكثر فضحا وتعرية، ولاستدعاء «ذاكرة» تساكن « الغائب الموعود، وتمنح اللغة بوصفها «نصوصا» طاقة خلاقة، يستعيد عبرها الشاعر روح المدينة، ويجعل من شيفرة النهي أكثر استئثارا بالتأويل، وبمنح القصيدة حركة داخلية دائبة عبر التوالي، وعبر رفد الشعري بالتصويري، والتاريخي بالسردي، إذ يتلقي النهي العنواني «لا أسميك البصرة» بالنهي الطارد للموت، ليُشكّلا فضاء يجعل من الواقعة الشعرية ضدا نوعيا للواقعة التاريخية، ولشعرية النهي ضدا استعاريا لشعرية الإقصاء.
فلا تتعجلي الموت،
الملحُ في العيون،
والمياه غربة ونواح، ورحيل بلا ملاح،
ورحيل خاتل ضيّعه ملاح،
وهو يحثّ الشراع بالدخان،
ويُعلّق في رقبة قيدومك
شجرة جدنا الغرنوق المثمرة،
مردة، سحرة وخونة وإنكليز وهنود
وقراصنة وشهداء..
وفي ختام القصيدة يستدعي الشاعر– مرة أخرى- حرف النهي «لا» ليؤدي وظيفة استفزازية للثابت، ولتصعيد المتحرك في دراما الحدث، إذ يُقرن النفي بما يشبه «المع» اي الجزم، وهذا تحوّل في توالي حركة المشاهد، ولتوضيح القصد، إذ يتخلى عن جملة المحذوف، مقابل حضور جملة المشهد الواضحة، والمكشوف كخطاب مُرسل إلى المدينة لمواجهة محوها، وتاريخ إقصائها، وتأكيد وجودها ويقظتها كسيرة للحضور والصحو، ولمشاكلة بضاعة الأوهام الغائرة في نصوص خائنة ومخادعة تركها غزاة آخرون..
فلا تدسّي عقلك بضاعة في وهج الأمس،
ولا تنامي على وعدٍ آخر يقودك
إلى كذبِ موتك – كذبِ حياتك
حين أعلنوا أنهم راحلون عن البصرة
أمس أو قبل قرون…
كاتب عراقي
جبار الكواز... سردنة الشعر وغواية الاستدعاء | علي حسن الفواز
يكتب الشاعرُ قصيدتَه ليستثمرَ طاقتها الاستعارية، في المكاشفة، والمساءلة وفي تسويغ رؤية الوجود، إذ يكون الوجود في اللغة مخاتلا ومواربا، وهذا ما يجعل «لعبة» الكتابة وكأنها محاولة في إثبات الصلة بين القصيدة، وحمولاتها الرؤيوية والدلالية والرمزية، ما يُعطي لها شغفا في المناورة، وفي تجاوز التحييد،...
www.alquds.co.uk