فازت الكاتبة الفرنسية آني إرنو بجائزة نوبل في الآداب لعام 2022 لشجاعتها في اكتشاف "الجذور والقيود الجماعية للذاكرة"، مثلما أكدت الأكاديمية السويدية المنظمة لهذه الجائزة. وقبل فوزها بالجائزة، قالت عنها صحيفة النيويوركر الأمريكية في عام 2020 أنّه في مشوارها الأدبي، "خصّت (آني إرنو) نفسها لمهمة واحدة وهي التنقيب عن حياتها الخاصة". فيا ترى من تكون آني إرنو؟ وما الذي يميّز كتابتها؟ وما الذي يبرر فوزها بأعظم جائزة في الدنيا – نوبل؟
من تكون آني إرنو؟
ولدت الروائية الفرنسية آني إرنو عام 1940 في بلدة يفيتوت الصغيرة في نورماندي بشمال غرب فرنسا، لأبوين من الطبقة العاملة. كان لوالديها محل بقالة ومقهى وكانت الأوضاع المعيشية آنذاك مزرية، وهو ما ساهم في بلورة شخصية هذه الكاتبة التي على الرغم من تحسن أوضاعها المادية لاحقا، لم تنس أبدا تلك الحقبة من حياتها. فقد استمرت في الرحيل إلى مضيها والتنقيب في خبايا ذاكرتها، مسهبة في البحثعن أدق التفاصيل والجدوالكد للتأكد من صحة ذكرياتها.وظلت أشباح البيئة التي عاشت فيها تلاحقهافيكل لحظة من حياتها، وهو ما أكدته في سياق حديثها عن روايتها الأولى (الخزائن الفارغة) حيث قالت، ""مثلما قلت في كتاب الخزائن الفارغة، نحن أولاً وقبل كل شيء ننتمي كلية إلى البيئة التي ولدنا فيها ونحيا فيها، بكل مايحمله ذلك من معنى". تتجلى ذكريات طفولتها في تلك البيئة في حسرتها على فقدان والدتها التي كان لها بالغ الأثر في حياتها. وبعد وفاتها متأثرة بمرض الزهايمر في مستشفى بضواحي باريس، أنشأت آني إرنو تسافر إلى ماضيها بمخيلتها، منقّبة في أغوار ذاكرتها عن تلك المرأة العظيمة، فتبعث فيها الحياة مجددا عبر فصول روايتها.
كتاب امرأة
يتجلّىأثرتلك المرأة فيها في كتاب (امرأة) الصادر بالفرنسية في عام 1987، والمترجم إلى الإنكليزية في عام 2003 بعنوان (قصة امرأة). تكشف من خلاله كلّ ما كان يجمعهما ويفرقهما في آن واحد، حريصة على إبراز مرارة فراق الأحبة يوما والذي لا مفر منه. تقول الكاتبة في هذه الرواية الواقعية مصورة بدقة متناهية جانبا من مراسيم جنازة أمها، "تم الدفن يوم الأربعاء التالي. وصلتُ إلى المستشفى مع ولديّ وزوجي السابق. ولم يتم وضع علامة على المشرحة حتى أننا فقدنا طريقنا قبل العثورأخيرا على هذا المبنى الخرساني المنخفض،المشيّد على حافة الحقول. كان أحد المساعدين يتحدث بالهاتف وهو يرتدي معطفا أبيض.أشار إلينا لكي نجلس في الممر، فجلسنا على كراسي مصطفة بمحاذاة الحائط، أمام المراحيض، وقد ترك أحد الأشخاص الباب مفتوحا. شعرت برغبة في مشاهدة والدتي مرة أخرى وإلقاء أغصان زهر الجابونيكا التي أحضرتها معي على صدرها. لم نكن نعرف ما إذا كانوا ينوون عرض الجثة أمامنا للمرة الأخيرة قبل إغلاق التابوت. خرج المساعد المكلّف بدفن الموتى، الذي رأيناه في المتجر، من غرفة مجاورة، وطلب منا بلطف أن نتبعه. كانت والدتي مستلقية في التابوت، وكان رأسها منحنيا إلى الخلف، ويداها متشابكتين معًا على الصليب."
أدب السيرة الذاتية
الملفت للنظر في مسيرة الكاتبة الفرنسية البالغة من العمر 82 سنة اهتمامها الشديد بكتابة السيرة الذاتية. وقد بلغ إقبالها على كتابة السيرة الذاتية بأدق التفاصيل مبلغا جعل بعض النقاد والناشرين الناطقين باللغة الإنكليزية يميلون إلى تصنيف أعمالها بالمذكرات. والسؤال الذي نطرحه عندئذ هو ما إذا كان هذا الحكم صائبا؟ مما لا شك فيه أنّ أدب المذكرات يطبع أعمال آني إرنو، وهي مؤلفات تتميز بصغر حجمها، إذ لا تتجاوز في غالب الأوقات المائة صفحة. مثال على ذلك كتابها الأول (الخزائن الفارغة) الصادر باللغة الفرنسية عام 1974 والمترجم إلى الإنكليزية في عام 1990 حيث لا يتعدى حجمه 96 صفحة. وتحرص الكاتبة على التنقيب في الذكريات وتصوير الأحداث وفق إطارها الزمني الصحيح، بما توفر لديها من معلومات وتفاصيل. تخوض الكاتبة في هذه الأحداث بأسلوب كلاسيكي بسيط واضح يرتكز بشكل أعمق على المضمون. ويبرز أدب المذكرات أيضا في كتاب Exteriors الصادر عام 1996 والمؤلَّف من سبع قصص في شكل يوميات مبعثرة، تمتد عبر حقبة زمنية تقدر بسبع سنوات، عن واقع أشخاص يحيون في ضواحي مدينة باريس.
شجاعة وجرأة فضلا عن تداخل أجناس البوح والمذكرات والسيرة الذاتية المستوحاة بشكل كبير من حياتها الخاصة، من مميزات كتابات آني الأدب الإباحي. يتجلّى ذلك في كتاب (شغف بسيط) إصدارات عام1991عن علاقة حب لمدة سنتين بين امرأة ورجل متزوج. تستهل الكاتبة هذه الرواية القصيرة، المؤلفة من 48 صفحة فقط ، بالإشارة إلى فيلم جنسي، "هذا الصيف، وللمرة الأولى، شاهدت فيلمًا مصنفًا ضمن الأفلام الإباحية على قناة كنال بلاس... وكانت الصور على الشاشة غير واضحة، واستبدلت الكلمات بمؤثرات صوتية غريبة، وهسهسة وثرثرة، وهو نوع مختلف من اللغة، ناعم ودائم."
وهكذا، وإن غلب على أعمال إرنو طابع أدب المذكرات والسيرة الذاتية إلاّ أنها خاضت في مواضيع أخرى متنوعة من أسرة وطبقة وسياسة وجنس. وخاضت في كل ذلك بهمّة وشجاعة، ودقة وبراعة. قال عنها أندرس أولسون من الأكاديمية السويدية عند تتويجها بجائزة نوبل، "آني إرنو تؤمن بوضوح بالقوة التحررية للكتابة. عملها لا هوادة فيه وهو مكتوب بلغة واضحة ونظيفة."وأضاف أولسون: "عندما تكشف بشجاعة كبيرة وحساسية إكلينيكية عن معاناة تجربة الطبقة، واصفة الخزي والإذلال والغيرة أو عدم القدرة على مشاهدة الذات، فإنك قد حققت شيئًا مثيرًا للإعجاب".
رمز للنضال
لقد استطاعت آني إرنو بفضل إرادتها وشجاعتها ومهارتها أن تكون من أبرز الأصوات المدافعة عن تحرر المرأة، وإحدى أشهر أيقونات النضال في فرنسا. وبينما ينزع كثيرون في عصرنا إلى كتابة الرواية الخيالية، ها هي الروائية الفرنسية آني إرنو تسلك مسلكا مختلفا لتبعث الحياة في أدب الذاكرة والبوح والسيرة الذاتية، مؤكدة أنّ الأدب الكلاسيكي الواقعي حيّولم يمت.قد يخبولهيبه لحين ولكنه لا ينطفئ. إذ يظل يتقد في سكون بعيدا عن أعين البشر، وفيمأمن من كل خطر،إلى أن يأتي المخلِّص ويمده بالوقود والطاقة، فيزداد سعيرُه لهبا، ولهبُه توهجا. وآني إرنو من الأدباء المخلصين، الذين ساهموا في إضرام شعلته وإعادة بعثه إلى الحياة بأعمال منبثقة عن الذاكرة ومشتقة من الواقع، يطبعها تقاسم التجارب الشخصية والاعتراف والبوح، مسلطة الأضواء على متاعب المرأة وعمليات الإجهاض السرية في شوارع المدن الفرنسية في ستينات القرن الماضي. وبتركيزها على هذه الأصناف الأدبية دون غيرها منذ بداية مسارها الأدبي في سبعينات القرن الماضي، تُعدُّ هذه الكاتبة أحد رواد أدب الذاكرة والبوح والسيرة الذاتية في عالمنا. شجاعتها وبراعتها في التنقيب في دهاليز الذاكرة وتصوير الواقع المعيش ساهمتا بشكل كبير في فوزها هذه السنة بأكبر جائزة في الدنيا – نوبل للآداب. وفوزها هذا يعدُّ انتصارا للمذهب الواقعي ودليل على أنّ الأدب الواقعي حي لا يموت.
من تكون آني إرنو؟
ولدت الروائية الفرنسية آني إرنو عام 1940 في بلدة يفيتوت الصغيرة في نورماندي بشمال غرب فرنسا، لأبوين من الطبقة العاملة. كان لوالديها محل بقالة ومقهى وكانت الأوضاع المعيشية آنذاك مزرية، وهو ما ساهم في بلورة شخصية هذه الكاتبة التي على الرغم من تحسن أوضاعها المادية لاحقا، لم تنس أبدا تلك الحقبة من حياتها. فقد استمرت في الرحيل إلى مضيها والتنقيب في خبايا ذاكرتها، مسهبة في البحثعن أدق التفاصيل والجدوالكد للتأكد من صحة ذكرياتها.وظلت أشباح البيئة التي عاشت فيها تلاحقهافيكل لحظة من حياتها، وهو ما أكدته في سياق حديثها عن روايتها الأولى (الخزائن الفارغة) حيث قالت، ""مثلما قلت في كتاب الخزائن الفارغة، نحن أولاً وقبل كل شيء ننتمي كلية إلى البيئة التي ولدنا فيها ونحيا فيها، بكل مايحمله ذلك من معنى". تتجلى ذكريات طفولتها في تلك البيئة في حسرتها على فقدان والدتها التي كان لها بالغ الأثر في حياتها. وبعد وفاتها متأثرة بمرض الزهايمر في مستشفى بضواحي باريس، أنشأت آني إرنو تسافر إلى ماضيها بمخيلتها، منقّبة في أغوار ذاكرتها عن تلك المرأة العظيمة، فتبعث فيها الحياة مجددا عبر فصول روايتها.
كتاب امرأة
يتجلّىأثرتلك المرأة فيها في كتاب (امرأة) الصادر بالفرنسية في عام 1987، والمترجم إلى الإنكليزية في عام 2003 بعنوان (قصة امرأة). تكشف من خلاله كلّ ما كان يجمعهما ويفرقهما في آن واحد، حريصة على إبراز مرارة فراق الأحبة يوما والذي لا مفر منه. تقول الكاتبة في هذه الرواية الواقعية مصورة بدقة متناهية جانبا من مراسيم جنازة أمها، "تم الدفن يوم الأربعاء التالي. وصلتُ إلى المستشفى مع ولديّ وزوجي السابق. ولم يتم وضع علامة على المشرحة حتى أننا فقدنا طريقنا قبل العثورأخيرا على هذا المبنى الخرساني المنخفض،المشيّد على حافة الحقول. كان أحد المساعدين يتحدث بالهاتف وهو يرتدي معطفا أبيض.أشار إلينا لكي نجلس في الممر، فجلسنا على كراسي مصطفة بمحاذاة الحائط، أمام المراحيض، وقد ترك أحد الأشخاص الباب مفتوحا. شعرت برغبة في مشاهدة والدتي مرة أخرى وإلقاء أغصان زهر الجابونيكا التي أحضرتها معي على صدرها. لم نكن نعرف ما إذا كانوا ينوون عرض الجثة أمامنا للمرة الأخيرة قبل إغلاق التابوت. خرج المساعد المكلّف بدفن الموتى، الذي رأيناه في المتجر، من غرفة مجاورة، وطلب منا بلطف أن نتبعه. كانت والدتي مستلقية في التابوت، وكان رأسها منحنيا إلى الخلف، ويداها متشابكتين معًا على الصليب."
أدب السيرة الذاتية
الملفت للنظر في مسيرة الكاتبة الفرنسية البالغة من العمر 82 سنة اهتمامها الشديد بكتابة السيرة الذاتية. وقد بلغ إقبالها على كتابة السيرة الذاتية بأدق التفاصيل مبلغا جعل بعض النقاد والناشرين الناطقين باللغة الإنكليزية يميلون إلى تصنيف أعمالها بالمذكرات. والسؤال الذي نطرحه عندئذ هو ما إذا كان هذا الحكم صائبا؟ مما لا شك فيه أنّ أدب المذكرات يطبع أعمال آني إرنو، وهي مؤلفات تتميز بصغر حجمها، إذ لا تتجاوز في غالب الأوقات المائة صفحة. مثال على ذلك كتابها الأول (الخزائن الفارغة) الصادر باللغة الفرنسية عام 1974 والمترجم إلى الإنكليزية في عام 1990 حيث لا يتعدى حجمه 96 صفحة. وتحرص الكاتبة على التنقيب في الذكريات وتصوير الأحداث وفق إطارها الزمني الصحيح، بما توفر لديها من معلومات وتفاصيل. تخوض الكاتبة في هذه الأحداث بأسلوب كلاسيكي بسيط واضح يرتكز بشكل أعمق على المضمون. ويبرز أدب المذكرات أيضا في كتاب Exteriors الصادر عام 1996 والمؤلَّف من سبع قصص في شكل يوميات مبعثرة، تمتد عبر حقبة زمنية تقدر بسبع سنوات، عن واقع أشخاص يحيون في ضواحي مدينة باريس.
شجاعة وجرأة فضلا عن تداخل أجناس البوح والمذكرات والسيرة الذاتية المستوحاة بشكل كبير من حياتها الخاصة، من مميزات كتابات آني الأدب الإباحي. يتجلّى ذلك في كتاب (شغف بسيط) إصدارات عام1991عن علاقة حب لمدة سنتين بين امرأة ورجل متزوج. تستهل الكاتبة هذه الرواية القصيرة، المؤلفة من 48 صفحة فقط ، بالإشارة إلى فيلم جنسي، "هذا الصيف، وللمرة الأولى، شاهدت فيلمًا مصنفًا ضمن الأفلام الإباحية على قناة كنال بلاس... وكانت الصور على الشاشة غير واضحة، واستبدلت الكلمات بمؤثرات صوتية غريبة، وهسهسة وثرثرة، وهو نوع مختلف من اللغة، ناعم ودائم."
وهكذا، وإن غلب على أعمال إرنو طابع أدب المذكرات والسيرة الذاتية إلاّ أنها خاضت في مواضيع أخرى متنوعة من أسرة وطبقة وسياسة وجنس. وخاضت في كل ذلك بهمّة وشجاعة، ودقة وبراعة. قال عنها أندرس أولسون من الأكاديمية السويدية عند تتويجها بجائزة نوبل، "آني إرنو تؤمن بوضوح بالقوة التحررية للكتابة. عملها لا هوادة فيه وهو مكتوب بلغة واضحة ونظيفة."وأضاف أولسون: "عندما تكشف بشجاعة كبيرة وحساسية إكلينيكية عن معاناة تجربة الطبقة، واصفة الخزي والإذلال والغيرة أو عدم القدرة على مشاهدة الذات، فإنك قد حققت شيئًا مثيرًا للإعجاب".
رمز للنضال
لقد استطاعت آني إرنو بفضل إرادتها وشجاعتها ومهارتها أن تكون من أبرز الأصوات المدافعة عن تحرر المرأة، وإحدى أشهر أيقونات النضال في فرنسا. وبينما ينزع كثيرون في عصرنا إلى كتابة الرواية الخيالية، ها هي الروائية الفرنسية آني إرنو تسلك مسلكا مختلفا لتبعث الحياة في أدب الذاكرة والبوح والسيرة الذاتية، مؤكدة أنّ الأدب الكلاسيكي الواقعي حيّولم يمت.قد يخبولهيبه لحين ولكنه لا ينطفئ. إذ يظل يتقد في سكون بعيدا عن أعين البشر، وفيمأمن من كل خطر،إلى أن يأتي المخلِّص ويمده بالوقود والطاقة، فيزداد سعيرُه لهبا، ولهبُه توهجا. وآني إرنو من الأدباء المخلصين، الذين ساهموا في إضرام شعلته وإعادة بعثه إلى الحياة بأعمال منبثقة عن الذاكرة ومشتقة من الواقع، يطبعها تقاسم التجارب الشخصية والاعتراف والبوح، مسلطة الأضواء على متاعب المرأة وعمليات الإجهاض السرية في شوارع المدن الفرنسية في ستينات القرن الماضي. وبتركيزها على هذه الأصناف الأدبية دون غيرها منذ بداية مسارها الأدبي في سبعينات القرن الماضي، تُعدُّ هذه الكاتبة أحد رواد أدب الذاكرة والبوح والسيرة الذاتية في عالمنا. شجاعتها وبراعتها في التنقيب في دهاليز الذاكرة وتصوير الواقع المعيش ساهمتا بشكل كبير في فوزها هذه السنة بأكبر جائزة في الدنيا – نوبل للآداب. وفوزها هذا يعدُّ انتصارا للمذهب الواقعي ودليل على أنّ الأدب الواقعي حي لا يموت.