بسم الله الرحمن الرحيم عزمنا بعد الاتكال عليه سبحانه، وبعد إعمال الروية وتقليب الفكر، أن نصدر طبعة جديدة للسان العرب، لابن منظور الإفريقي، وليس هذا العمل يسيرا، فان الطبعة الأولى توافرت عليها أموال حكومة الخديو محمد توفيق وتحت إمرتها مطبعة كبيرة، كما تعاون علماؤها في الاشراف على العمل، ومع ذلك لم تخل من أغاليط، بعضها نبه عليه جماعة من العلماء، وبعضها لم ينبه عليه أحد، فتداركنا ذلك كله، مستعينين بنخبة من علماء اللغة المتخصصين، ورأينا أن نثبت تحقيقات مصحح الطبعة الأولى الواردة في الهوامش بنصها.
وسنصدر الكتاب أجزاء ليسهل اقتناؤه. وسنضيف إليه فهرسا شاملا أسماء الشعراء وذيلا بالمفردات والمصطلحات الحديثة التي أقرتها المجامع اللغوية في البلاد العربية، لوصل ما انقطع من التراث اللغوي.
وأشير علينا أن نغير ترتيب " اللسان " ولكنا آثرنا ان يبقى على حاله حفظا للأثر من أن يغير، ولان ترتيب الأبواب على الحرف الأخير يعين الشاعر على القافية - ولعله أحد المقاصد التي أرادها صاحب اللسان - وهناك معاجم تسير على غير هذا الترتيب الذي اختاره ابن منظور واختاره مثله الفيروزآبادي.
غير أننا تيسيرا للبحث عن اللفظة المراد البحث عنها، وإيضاح مكانها من مادتها، رأينا أن نضع فواصل حاولنا بها على قدر الاستطاعة، أن نفصل بين اللفظة والأخرى، لكي تبرز للباحث ضالته التي ينشدها بأيسر سبيل وأقل عناء. والله ولي التوفيق.
الناشر
***
ترجمة المؤلف رحمه الله قال الامام الحافظ شهاب الدين أبو الفضل احمد بن حجر العسقلاني في كتابه الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة في حرف الميم ما نصه:
هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الإفريقي ثم المصري جمال الدين أبو الفضل، كان ينسب إلى رويفع بن ثابت الأنصاري. ولد سنة 630 في المحرم وسمع من ابن المقير ومرتضى بن حاتم وعبد الرحيم بن الطفيل ويوسف بن المخيلي وغيرهم. وعمر وكبر وحدث فأكثروا عنه، وكان مغرى باختصار كتب الأدب المطولة، اختصر الأغاني والعقد والذخيرة ونشوار المحاضرة ومفردات ابن البيطار والتواريخ الكبار وكان لا يمل من ذلك، قال الصفدي: لا أعرف في الأدب وغيره كتابا مطولا إلا وقد اختصره، قال : وأخبرني ولده قطب الدين أنه ترك بخطه خمسمائة مجلدة، ويقال إن الكتب التي علقها بخطه من مختصراته خمسمائة مجلدة، قلت: وجمع في اللغة كتابا سماه " لسان العرب " جمع فيه بين التهذيب والمحكم والصحاح والجمهرة والنهاية وحاشية الصحاح، جوده ما شاء ورتبه ترتيب الصحاح، وهو كبير، وخدم في ديوان الانشاء طول عمره وولي قضاء طرابلس.
وكان عنده تشيع بلا رفض، قال أبو حيان أنشدني لنفسه:
ضع كتابي إذا أتاك إلى الأرض * وقلبه في يديك لماما
فعلى ختمه وفي جانبيه * قبل قد وضعتهن تؤاما
قال وأنشدني لنفسه:
الناس قد أثموا فينا بظنهم * وصدقوا بالذي أدري وتدرينا م
اذا يضرك في تصديق قولهم * بان نحقق ما فينا يظنونا
حملي وحملك ذنبا واحدا ثقة * بالعفو أجمل من إثم الوري فينا
قال الصفدي: هو معني مطروق للقدماء لكن زاد فيه زيادة وهي قوله ثقة بالعفو من أحسن متممات البلاغة.
وذكر ابن فضل الله أنه عمي في آخر عمره، وكان صاحب نكت ونوادر وهو القائل:
بالله إن جزت بوادي الأراك، * وقبلت عيدانه الحضر فاك
فابعث، إلى عبدك، من بعضها، * فإنني، والله، ما لي سواك
ومات في شعبان سنة 711.
*** وقال الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة فيمن اسمه محمد:
محمد بن مكرم بن علي وقيل رضوان بن أحمد بن أبي القاسم بن حبقة بن منظور الأنصاري الإفريقي المصري جمال الدين أبو الفضل صاحب لسان العرب في اللغة الذي جمع فيه بين التهذيب والمحكم والصحاح وحواشيه والجمهرة والنهاية، ولد في المحرم سنة 630 وسمع من ابن المقير وغيره وجمع وعمر وحدث واختصر كثيرا من كتب الأدب المطولة كالأغاني والعقد والذخيرة ومفردات ابن البيطار، ونقل أن مختصراته خمسمائة مجلد، وكان صدرا رئيسا فاضلا في الأدب مليح الانشاء روى عنه السبكي والذهبي وقال تفرد بالغوالي وكان عارفا بالنحو واللغة والتاريخ والكتابة واختصر تاريخ دمشق في نحو ربعه، وعنده تشيع بلا رفض، مات في شعبان سنة 711.
****
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله منطق اللسان بتحميد صفاته، وملهم الجنان إلى توحيد ذاته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف مخلوقاته، وعلى آله وصحبه الذين اقتدوا بقداته واهتدوا بسماته. وبعد فقد اتفقت آراء الأمم:
العرب منهم والعجم، الذين مارسوا اللغات ودروا ما فيها من الفنون والحكم، وأساليب التعبير عن كل معنى يجرى على اللسان والقلم، على ان لغة العرب أوسعها وأسنعها، وأخلصها وأنصعها، وأشرفها وأفضلها، وآصلها وأكلمها، وذلك لغزارة موادها، واطراد اشتقاقها، وسرارة جوادها، واتحاد انتساقها. ومن جملته تعدد المترادف، الذي هو للبليغ خير رافد ورادف، وما يأتي على روي واحد في القصائد مما يكسب النظم من التحسين وجوها، لا تجد لها في غيرها من لغات العجم شبيها.
وهذا التفضيل يزداد بيانا وظهورا، ويزيد المتأمل تعجبا وتحيرا، إذا اعتبرت أنها كانت لغة قوم أميين لم يكن لهم فلسفة اليونانيين، ولا صنائع أهل الصين، ومع ذلك فقد جعلت بحيث يعبر فيها عن خواطر هذين الجيلين بل سائر الأجيال، إذا كانت جديرة بان يشغل بها البال، وتحسن في الاستعمال الذي من لوازمه أن يكون المعني المفرد وغير المفرد موضوعا بإزائه لفظ مفرد في الوضع، يخف النطق به على اللسان ويرتاح له الطبع، وهو شان العربية، وكفاها فضلا على ما سواها هذه المزية.
وانما قلت مفرد في الوضع لأنا نرى معظم ألفاظ اليونانية، وغيرها من اللغات الإفرنجية، من قبيل النحت، وشتان ما بينه وبين المفرد البحت، فان هذا يدل على ان الواضع فطن، من أول الامر، إلى المعاني المقصودة التي يحتاج إليها لإفادة السامع، بحسب اختلاف الأحوال والمواقع. وذاك يدل على أن تلك المعاني لم تخطر بباله الا عندما مست الحاجة إليها، فلفق لها ألفاظا كيفما اتفق واعتمد في الإفادة عليها. فمثل من وضع اللفظ المفرد، مثل من بنى صرحا لينعم فيه ويقصد، فقدر من قبل البناء كل ما لزم له من المداخل والمخارج، والمرافق والمدارج، ومنافذ النور والهواء، والمناظر المطلة على المنازه الفيحاء، وهكذا أتم بناءه، كما قدره وشاءه. ومثل من عمد إلى النحت والتلفيق، مثل من بنى من غير تقدير ولا تنسيق ، فلم يفطن إلى ما لزم لمبناه الا بعد أن سكنه، وشعر بأنه لا يصيب فيه سكنه، فتدارك ما فرط منه تدارك من لهوج فعجز، فجاء بناؤه سدادا من عوز.
هذا من حيث كون الالفاظ مفردة كما أسلفت مفصلا. فاما من حيث كونها تركب جملا، وتكسى من منوال البلاغة حللا، فنسبة تلك اللغات إلى العربية، كنسبة العريان إلى الكاسي، والظمآن إلى الحاسي، ولا ينكر ذلك الا مكابر، على جحد الحق مثابر. وحسبك أنه ليس في تلك اللغات من أنواع البديع الا التشبيه والمجاز، وما سوى ذلك يحسب فيها من قبيل الاعجاز.
هذا وكما أني قررت ان اللغة العربية أشرف اللغات، كذلك أقرر أن أعظم كتاب ألف في مفرداتها كتاب لسان العرب للامام المتقن جمال الدين محمد بن جلال الدين الأنصاري الخزرجي الإفريقي، نزيل مصر، ويعرف بابن مكرم وابن منظور، ولد في المحرم سنة 690، وتوفي سنة 771 (1). وقد جمع في كتابه هذا الصحاح للجوهري وحاشيته لابن بري، والتهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده، والجمهرة لابن دريد، والنهاية لابن الأثير، وغير ذلك، فهو يغنى عن سائر كتب اللغة، إذ هي بجملتها لم تبلغ منها ما بلغه.
قال الامام محمد بن الطيب محشي القاموس، وهو عجيب في نقوله وتهذيبه، وتنقيحه وترتيبه، الا انه قليل بالنسبة لغيره من المصنفات المتداولة، وزاحم عصره صاحب القاموس رحم الله الجميع انتهى.
وسبب قلته كبر حجمه وتطويل عبارته، فإنه ثلاثون مجلدا، فالمادة التي تملأ في القاموس صفحة واحدة تملأ فيه أربع صفحات بل أكثر، ولهذا عجزت طلبة العلم عن تحصيله والانتفاع به.
وبالجملة فهو كتاب لغة، ونحو، وصرف، وفقه، وأدب، وشرح للحديث الشريف، وتفسير للقران الكريم، فصدق عليه المثل: ان من الحسن لشقوة. ولو لا أن الله تبارك وتعالى أودع فيه سرا مخصوصا لما بقي إلى الان، بل كان لحق بنظرائه من الأمهات المطولة التي إغتالتها طوارق الحدثان: كالموعب لعيسى ابن غالب التياني، والبارع لأبي علي القالي، والجامع للقزاز، غيرها مما لم يبق له عين ولا اثر، الا في ذكر اللغويين حين ينو هون بمن ألف في اللغة وأثر، فالحمد لله مولي النعم ومؤتي الهمم على أن حفظه لنا مصونا من تعاقب الأحوال، وتناوب الأحوال، كما نحمده على أن ألهم في هذه الأيام سيدنا الخديو المعظم، العزيز ابن العزيز ابن العزيز محمد توفيق المحمود بين العرب والعجم، والمحفوف بالتوفيق لكل صلاح جم، وفلاح عم، إلى أن يكون هذا الكتاب الفريد بالطبع منشورا، ونفعه في جميع الأقطار مشهورا ، بعد أن كان دهرا طويلا كالكنز المدفون، والدر المكنون. وذلك بمساعي امين دولته، وشاكر نعمته، الشهم الهمام، الذي ذاعت مآثره بين الأنام، وسرت محامده في الآفاق: حسين حسني بك ناظر مطبعة بولاق، وهمة ذي العزم المتين، والفضل المكين، الراقي في معارج الكمال إلى الأوج، العلم الفرد الذي يفضل كل فوج، من إذا أدلهم عليك أمر يرشدك بصائب فكره ويهديك: حضرة حسين أفندي على الديك، فإنه حفظه الله شمر عن ساعد الجد حتى احتمل عب ء هذا الكتاب وبذل في تحصيله نفيس ماله، رغبة في عموم نفعه، واغتناما لجميل الثناء وجزيل الثواب.
فدونك كتابا علا بقدمه على هام السها، وغازل أفئدة البلغاء مغازلة ندمان الصفاء عيون المها، ورد علينا أنموذجه، فإذا هو يتيم اللؤلؤ منضد في سموط النضار، يروق نظيمه الألباب ويبهج نثيره الانظار، بلغ، من حسن الطبع وجماله، ما شهرته ورؤيته تغنيك عن الاطراء.
ومن جيد الصحة ما قام به الجم الغفير من جهابذة النجباء، جمعوا له، على ما بلغنا، شوارد النسخ المعتبرة والمحتاج إليه من المواد، وعثروا، أثناء ذلك، على نسخة منسوبة للمؤلف، فبلغوا من مقصودهم المراد. وجلبوا غير ذلك، من خزائن الملوك ومن كل فج، وأنجدوا في تصحيح فرائده، وأتهموا وأنتجعوا، في تطبيق شواهده، كل منتجع، وتيمموا حتى بلغوا أقاصي الشام والعراق ووج. أعانهم الله على صنيعهم حتى يصل إلى حد الكمال، وأتم لهم نسيجهم على أحكم منوال، وجزى الله حضرة ناظر هم أحسن الجزاء، وشكره على حسن مساعيه وحباه جميل الحباء، فان هذه نعمة كبرى على جميع المسلمين، يجب أن يقابلوها بالشكر والدعاء على ممر السنين، كلما تلوا: ان الله يحب المحسنين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
في 17 رجب المعظم سنة 1300 كتبه الفقير إلى ربه الواهب احمد فارس صاحب الجوائب
بسم الله الرحمن الرحيم قال عبد الله محمد بن المكرم بن أبي الحسن بن أحمد الأنصاري الخزرجي، عفا الله عنه بكرمه:
الحمد لله رب العالمين، تبركا بفاتحة الكتاب العزيز، واستغراقا لأجناس الحمد بهذا الكلام الوجيز، إذ كل مجتهد في حمده، مقصر عن هذه المبالغة، وان تعالى، ولو كان للحمد لفظ أبلغ من هذا لحمد به نفسه، تقدس وتعالى، نحمده على نعمه التي يواليها في كل وقت ويجددها، ولها الأولوية بان يقال فيها نعد منها ولا نعددها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المشرف بالشفاعة، المخصوص ببقاء شريعته إلى يوم الساعة، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، وأتباعهم الأخيار، صلاة باقية بقاء الليل والنهار.
أما بعد فان الله سبحانه قد كرم الانسان وفضله بالنطق على سائر الحيوان، وشرف هذا اللسان العربي بالبيان على كل لسان، وكفاه شرفا أنه به نزل القران، وأنه لغة أهل الجنان. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقران عربي، وكلام أهل الجنة عربي، ذكره ابن عساكر في ترجمة زهير بن محمد بن يعقوب.
واني لم أزل مشغوفا بمطالعات كتب اللغات والاطلاع على تصانيفها، وعلل تصاريفها، ورأيت علماءها بين رجلين: أما من أحسن جمعه فإنه لم يحسن وضعه، واما من أجاد وضعه فإنه لم يجد جمعه، فلم يفد حسن الجمع مع إساءة الوضع، ولا نفعت إجادة الوضع مع رداءة الجمع.
ولم أجد في كتب اللغة أجمل من تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن احمد الأزهري، ولا أكمل من المحكم لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي، رحمهما الله، وهما من أمهات كتب اللغة على التحقيق، وما عداهما بالنسبة اليهما ثنيات للطريق. غير أن كلا منهما مطلب عسر المهلك، ومنهل وعر المسلك، وكان واضعه شرع للناس موردا عذبا وجلاهم عنه، وارتاد لهم مرعى مربعا ومنعهم منه، قد أخر وقدم، وقصد أن يعرب فأعجم. فرق الذهن بين الثنائي والمضاعف والمقلوب، وبدد الفكر باللفيف والمعتل والرباعي والخماسي فضاع المطلوب، فأهمل الناس أمرهما، وانصرفوا عنهما، وكادت البلاد لعدم الاقبال عليهما أن تخلو منهما.
وليس لذلك سبب إلا سوء الترتيب، وتخليط التفصيل والتبويب. ورأيت أبا نصر إسماعيل بن حماد الجوهري قد أحسن ترتيب مختصره، وشهره، بسهولة وضعه، شهرة أبي دلف بين بادية ومحتضره، فخف على الناس أمره فتناولوه، وقرب عليهم مأخذه فتداولوه وتناقلوه، غير أنه في جو اللغة كالذرة وفي بحرها كالقطرة، وان كان في نحرها كالدرة، وهو مع ذلك قد صحف وحرف، وجزف فيما صرف، فاتيح له الشيخ أبو محمد بن بري فتبع ما فيه، وأملي عليه أماليه، مخرجا لسقطاته، مؤرخا لغلطاته، فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع هذا الكتاب المبارك، الذي لا يساهم في سعة فضله ولا يشارك، ولم أخرج فيه عما في هذه الأصول، ورتبته ترتيب الصحاح في الأبواب والفصول، وقصدت توشيحه بجليل الاخبار، وجميل الآثار، مضافا إلى ما فيه من آيات القرآن الكريم، والكلام على معجزات الذكر الحكيم، ليتحلى بترصيع 1 دررها عقده، ويكون على مدار الآيات والاخبار والآثار والأمثال والاشعار حله وعقده، فرأيت أبا السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري قد جاء في ذلك بالنهاية، وجاوز في الجودة حد الغاية، غير أنه لم يضع الكلمات في محلها، ولا راعى زائد حروفها من أصلها، فوضعت كلا منها في مكانه، وأظهرته مع برهانه، فجاء هذا الكتاب بحمد الله واضح المنهج سهل السلوك، آمنا بمنة الله من أن يصبح مثل غيره وهو مطروح متروك. عظم نفعه بما اشتمل من العلوم عليه، وغني بما فيه عن غيره وافتقر غيره إليه، وجمع من اللغات والشواهد والأدلة، ما لم يجمع مثله مثله، لان كل واحد من هؤلاء العلماء انفرد برواية رواها، وبكلمة سمعها من العرب شفاها ولم يأت في كتابه بكل ما في كتاب أخيه، ولا أقول تعاظم عن نقل ما نقله بل أقول استغنى بما فيه ، فصارت الفوائد في كتبهم مفرقة، وسارت أنجم الفضائل في أفلاكها هذه مغربة وهذه مشرقة، فجمعت منها في هذا الكتاب ما تفرق، وقرنت بين ما غرب منها وبين ما شرق، فانتظم شمل تلك الأصول كلها في هذا المجموع، وصار هذا بمنزلة الأصل وأولئك بمنزلة الفروع، فجاء بحمد الله وفق البغية وفوق المنية، بديع الاتقان، صحيح الأركان، سليما من لفظة لو كان. حللت بوضعه ذروة الحفاظ، وحللت بجمعه عقدة الالفاظ، وانا مع ذلك لا أدعى فيه دعوى فأقول شافهت أو سمعت، أو فعلت أو صنعت، أو شددت أو رحلت، أو نقلت عن العرب العرباء أو حملت، فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها الأزهري وابن سيده لقائل مقالا، ولم يخليا فيه لاحد مجالا، فإنهما عينا في كتابيهما عمن رويا، وبرهنا عما حويا، ونشرا في خطيهما ما طويا. ولعمري لقد جمعا فأوعيا، وأتيا بالمقاصد ووفيا.
وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمت بها، ولا وسيلة أتمسك بسببها، سوى أني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من العلوم، وبسطت القول فيه ولم أشبع باليسير، وطالب العلم منهوم. فمن وقف فيه على صواب أو زلل، أو صحة أو خلل، فعهدته على المصنف الأول، وحمده وذمه لاصله الذي عليه المعول. لأنني نقلت من كل أصل مضمونه، ولم أبدل منه شيئا، فيقال فإنما إثمه على الذين يبدلونه، بل أديت الأمانة في نقل الأصول بالفص، وما تصرفت فيه بكلام غير ما فيها من النص، فليعتد من ينقل عن كتابي هذا أنه ينقل عن هذه الأصول الخمسة، وليغن عن الاهتداء بنجومها فقد غابت لما أطلعت شمسه.
والناقل عنه يمد باعه ويطلق لسانه، ويتنوع في نقله عنه لأنه ينقل عن خزانة.
والله تعالى يشكر ما له بالهام جمعه من منة، ويجعل بينه وبين محرفي كلمه عن مواضعه واقية وجنة. وهو المسؤول أن يعاملني فيه بالنية التي جمعته لأجلها، فإنني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية، ولان العالم بغوامضها يعلم ما توافق فيه النية اللسان 2 ويخالف فيه اللسان النية، وذلك لما رايته قد غلب، في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنا مردودا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودا. وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون، وسميته لسان العرب، وأرجو من كرم الله تعالى أن يرفع قدر هذا الكتاب وينفع بعلومه الزاخرة، ويصل النفع به بتناقل العلماء له في الدنيا وبنطق أهل الجنة به في الآخرة، وان يكون من الثلاث التي ينقطع عمل ابن آدم إذا مات الا منها، وان أنال به الدرجات بعد الوفاة بانتفاع كل من عمل بعلومه أو نقل عنها، وان يجعل تأليفه خالصا لوجهه الجليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال عبد الله محمد بن المكرم: شرطنا في هذا الكتاب المبارك ان نرتبه كما رتب الجوهري صحاحه، وقد قمنا، والمنة لله، بما شرطناه فيه. إلا أن الأزهري ذكر، في أواخر كتابه ، فصلا جمع فيه تفسير الحروف المقطعة، التي وردت في أوائل سور القران العزيز، لأنها ينطق بها مفرقة غير مؤلفة ولا منتظمة، فترد كل كلمة في بابها، فجعل لها بابا بمفردها، وقد استخرت الله تعالى وقدمتها في صدر كتابي لفائدتين: أهمهما مقدمهما، وهو التبرك بتفسير كلام الله تعالى الخاص به، الذي لم يشاركه أحد فيه الا من تبرك بالنطق به في تلاوته، ولا يعلم معناه إلا هو، فاخترت الابتداء به لهذه البركة، قبل الخوض في كلام الناس، والثانية أنها إذا كانت في أول الكتاب أقرب إلى كل مطالع من آخره، لان العادة أن يطالع أول الكتاب ليكشف منه ترتيبه وغرض مصنفه، وقد لا يتهيأ للمطالع أن يكشف آخره، لأنه إذا اطلع من خطبته أنه على ترتيب الصحاح أيس ان يكون في آخره شئ من ذلك، فلهذا قدمته في أول الكتاب.
----------------------
(١) كانت ولادته سنة ٦٣٠ ووفاته سنة ٧١١ كما في الوافي بالوفيات للصفدي والدرر الكامنة لابن حجر والمنهل الصافي لابن تغري بردى والبغية للسيوطي.
** لسان العرب للامام العلامة أبى الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري المجلد الأول أ - ب نشر أدب الحوزة قم - إيران 1405 ه 1363 ق
وسنصدر الكتاب أجزاء ليسهل اقتناؤه. وسنضيف إليه فهرسا شاملا أسماء الشعراء وذيلا بالمفردات والمصطلحات الحديثة التي أقرتها المجامع اللغوية في البلاد العربية، لوصل ما انقطع من التراث اللغوي.
وأشير علينا أن نغير ترتيب " اللسان " ولكنا آثرنا ان يبقى على حاله حفظا للأثر من أن يغير، ولان ترتيب الأبواب على الحرف الأخير يعين الشاعر على القافية - ولعله أحد المقاصد التي أرادها صاحب اللسان - وهناك معاجم تسير على غير هذا الترتيب الذي اختاره ابن منظور واختاره مثله الفيروزآبادي.
غير أننا تيسيرا للبحث عن اللفظة المراد البحث عنها، وإيضاح مكانها من مادتها، رأينا أن نضع فواصل حاولنا بها على قدر الاستطاعة، أن نفصل بين اللفظة والأخرى، لكي تبرز للباحث ضالته التي ينشدها بأيسر سبيل وأقل عناء. والله ولي التوفيق.
الناشر
***
ترجمة المؤلف رحمه الله قال الامام الحافظ شهاب الدين أبو الفضل احمد بن حجر العسقلاني في كتابه الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة في حرف الميم ما نصه:
هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الإفريقي ثم المصري جمال الدين أبو الفضل، كان ينسب إلى رويفع بن ثابت الأنصاري. ولد سنة 630 في المحرم وسمع من ابن المقير ومرتضى بن حاتم وعبد الرحيم بن الطفيل ويوسف بن المخيلي وغيرهم. وعمر وكبر وحدث فأكثروا عنه، وكان مغرى باختصار كتب الأدب المطولة، اختصر الأغاني والعقد والذخيرة ونشوار المحاضرة ومفردات ابن البيطار والتواريخ الكبار وكان لا يمل من ذلك، قال الصفدي: لا أعرف في الأدب وغيره كتابا مطولا إلا وقد اختصره، قال : وأخبرني ولده قطب الدين أنه ترك بخطه خمسمائة مجلدة، ويقال إن الكتب التي علقها بخطه من مختصراته خمسمائة مجلدة، قلت: وجمع في اللغة كتابا سماه " لسان العرب " جمع فيه بين التهذيب والمحكم والصحاح والجمهرة والنهاية وحاشية الصحاح، جوده ما شاء ورتبه ترتيب الصحاح، وهو كبير، وخدم في ديوان الانشاء طول عمره وولي قضاء طرابلس.
وكان عنده تشيع بلا رفض، قال أبو حيان أنشدني لنفسه:
ضع كتابي إذا أتاك إلى الأرض * وقلبه في يديك لماما
فعلى ختمه وفي جانبيه * قبل قد وضعتهن تؤاما
قال وأنشدني لنفسه:
الناس قد أثموا فينا بظنهم * وصدقوا بالذي أدري وتدرينا م
اذا يضرك في تصديق قولهم * بان نحقق ما فينا يظنونا
حملي وحملك ذنبا واحدا ثقة * بالعفو أجمل من إثم الوري فينا
قال الصفدي: هو معني مطروق للقدماء لكن زاد فيه زيادة وهي قوله ثقة بالعفو من أحسن متممات البلاغة.
وذكر ابن فضل الله أنه عمي في آخر عمره، وكان صاحب نكت ونوادر وهو القائل:
بالله إن جزت بوادي الأراك، * وقبلت عيدانه الحضر فاك
فابعث، إلى عبدك، من بعضها، * فإنني، والله، ما لي سواك
ومات في شعبان سنة 711.
*** وقال الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة فيمن اسمه محمد:
محمد بن مكرم بن علي وقيل رضوان بن أحمد بن أبي القاسم بن حبقة بن منظور الأنصاري الإفريقي المصري جمال الدين أبو الفضل صاحب لسان العرب في اللغة الذي جمع فيه بين التهذيب والمحكم والصحاح وحواشيه والجمهرة والنهاية، ولد في المحرم سنة 630 وسمع من ابن المقير وغيره وجمع وعمر وحدث واختصر كثيرا من كتب الأدب المطولة كالأغاني والعقد والذخيرة ومفردات ابن البيطار، ونقل أن مختصراته خمسمائة مجلد، وكان صدرا رئيسا فاضلا في الأدب مليح الانشاء روى عنه السبكي والذهبي وقال تفرد بالغوالي وكان عارفا بالنحو واللغة والتاريخ والكتابة واختصر تاريخ دمشق في نحو ربعه، وعنده تشيع بلا رفض، مات في شعبان سنة 711.
****
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله منطق اللسان بتحميد صفاته، وملهم الجنان إلى توحيد ذاته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف مخلوقاته، وعلى آله وصحبه الذين اقتدوا بقداته واهتدوا بسماته. وبعد فقد اتفقت آراء الأمم:
العرب منهم والعجم، الذين مارسوا اللغات ودروا ما فيها من الفنون والحكم، وأساليب التعبير عن كل معنى يجرى على اللسان والقلم، على ان لغة العرب أوسعها وأسنعها، وأخلصها وأنصعها، وأشرفها وأفضلها، وآصلها وأكلمها، وذلك لغزارة موادها، واطراد اشتقاقها، وسرارة جوادها، واتحاد انتساقها. ومن جملته تعدد المترادف، الذي هو للبليغ خير رافد ورادف، وما يأتي على روي واحد في القصائد مما يكسب النظم من التحسين وجوها، لا تجد لها في غيرها من لغات العجم شبيها.
وهذا التفضيل يزداد بيانا وظهورا، ويزيد المتأمل تعجبا وتحيرا، إذا اعتبرت أنها كانت لغة قوم أميين لم يكن لهم فلسفة اليونانيين، ولا صنائع أهل الصين، ومع ذلك فقد جعلت بحيث يعبر فيها عن خواطر هذين الجيلين بل سائر الأجيال، إذا كانت جديرة بان يشغل بها البال، وتحسن في الاستعمال الذي من لوازمه أن يكون المعني المفرد وغير المفرد موضوعا بإزائه لفظ مفرد في الوضع، يخف النطق به على اللسان ويرتاح له الطبع، وهو شان العربية، وكفاها فضلا على ما سواها هذه المزية.
وانما قلت مفرد في الوضع لأنا نرى معظم ألفاظ اليونانية، وغيرها من اللغات الإفرنجية، من قبيل النحت، وشتان ما بينه وبين المفرد البحت، فان هذا يدل على ان الواضع فطن، من أول الامر، إلى المعاني المقصودة التي يحتاج إليها لإفادة السامع، بحسب اختلاف الأحوال والمواقع. وذاك يدل على أن تلك المعاني لم تخطر بباله الا عندما مست الحاجة إليها، فلفق لها ألفاظا كيفما اتفق واعتمد في الإفادة عليها. فمثل من وضع اللفظ المفرد، مثل من بنى صرحا لينعم فيه ويقصد، فقدر من قبل البناء كل ما لزم له من المداخل والمخارج، والمرافق والمدارج، ومنافذ النور والهواء، والمناظر المطلة على المنازه الفيحاء، وهكذا أتم بناءه، كما قدره وشاءه. ومثل من عمد إلى النحت والتلفيق، مثل من بنى من غير تقدير ولا تنسيق ، فلم يفطن إلى ما لزم لمبناه الا بعد أن سكنه، وشعر بأنه لا يصيب فيه سكنه، فتدارك ما فرط منه تدارك من لهوج فعجز، فجاء بناؤه سدادا من عوز.
هذا من حيث كون الالفاظ مفردة كما أسلفت مفصلا. فاما من حيث كونها تركب جملا، وتكسى من منوال البلاغة حللا، فنسبة تلك اللغات إلى العربية، كنسبة العريان إلى الكاسي، والظمآن إلى الحاسي، ولا ينكر ذلك الا مكابر، على جحد الحق مثابر. وحسبك أنه ليس في تلك اللغات من أنواع البديع الا التشبيه والمجاز، وما سوى ذلك يحسب فيها من قبيل الاعجاز.
هذا وكما أني قررت ان اللغة العربية أشرف اللغات، كذلك أقرر أن أعظم كتاب ألف في مفرداتها كتاب لسان العرب للامام المتقن جمال الدين محمد بن جلال الدين الأنصاري الخزرجي الإفريقي، نزيل مصر، ويعرف بابن مكرم وابن منظور، ولد في المحرم سنة 690، وتوفي سنة 771 (1). وقد جمع في كتابه هذا الصحاح للجوهري وحاشيته لابن بري، والتهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده، والجمهرة لابن دريد، والنهاية لابن الأثير، وغير ذلك، فهو يغنى عن سائر كتب اللغة، إذ هي بجملتها لم تبلغ منها ما بلغه.
قال الامام محمد بن الطيب محشي القاموس، وهو عجيب في نقوله وتهذيبه، وتنقيحه وترتيبه، الا انه قليل بالنسبة لغيره من المصنفات المتداولة، وزاحم عصره صاحب القاموس رحم الله الجميع انتهى.
وسبب قلته كبر حجمه وتطويل عبارته، فإنه ثلاثون مجلدا، فالمادة التي تملأ في القاموس صفحة واحدة تملأ فيه أربع صفحات بل أكثر، ولهذا عجزت طلبة العلم عن تحصيله والانتفاع به.
وبالجملة فهو كتاب لغة، ونحو، وصرف، وفقه، وأدب، وشرح للحديث الشريف، وتفسير للقران الكريم، فصدق عليه المثل: ان من الحسن لشقوة. ولو لا أن الله تبارك وتعالى أودع فيه سرا مخصوصا لما بقي إلى الان، بل كان لحق بنظرائه من الأمهات المطولة التي إغتالتها طوارق الحدثان: كالموعب لعيسى ابن غالب التياني، والبارع لأبي علي القالي، والجامع للقزاز، غيرها مما لم يبق له عين ولا اثر، الا في ذكر اللغويين حين ينو هون بمن ألف في اللغة وأثر، فالحمد لله مولي النعم ومؤتي الهمم على أن حفظه لنا مصونا من تعاقب الأحوال، وتناوب الأحوال، كما نحمده على أن ألهم في هذه الأيام سيدنا الخديو المعظم، العزيز ابن العزيز ابن العزيز محمد توفيق المحمود بين العرب والعجم، والمحفوف بالتوفيق لكل صلاح جم، وفلاح عم، إلى أن يكون هذا الكتاب الفريد بالطبع منشورا، ونفعه في جميع الأقطار مشهورا ، بعد أن كان دهرا طويلا كالكنز المدفون، والدر المكنون. وذلك بمساعي امين دولته، وشاكر نعمته، الشهم الهمام، الذي ذاعت مآثره بين الأنام، وسرت محامده في الآفاق: حسين حسني بك ناظر مطبعة بولاق، وهمة ذي العزم المتين، والفضل المكين، الراقي في معارج الكمال إلى الأوج، العلم الفرد الذي يفضل كل فوج، من إذا أدلهم عليك أمر يرشدك بصائب فكره ويهديك: حضرة حسين أفندي على الديك، فإنه حفظه الله شمر عن ساعد الجد حتى احتمل عب ء هذا الكتاب وبذل في تحصيله نفيس ماله، رغبة في عموم نفعه، واغتناما لجميل الثناء وجزيل الثواب.
فدونك كتابا علا بقدمه على هام السها، وغازل أفئدة البلغاء مغازلة ندمان الصفاء عيون المها، ورد علينا أنموذجه، فإذا هو يتيم اللؤلؤ منضد في سموط النضار، يروق نظيمه الألباب ويبهج نثيره الانظار، بلغ، من حسن الطبع وجماله، ما شهرته ورؤيته تغنيك عن الاطراء.
ومن جيد الصحة ما قام به الجم الغفير من جهابذة النجباء، جمعوا له، على ما بلغنا، شوارد النسخ المعتبرة والمحتاج إليه من المواد، وعثروا، أثناء ذلك، على نسخة منسوبة للمؤلف، فبلغوا من مقصودهم المراد. وجلبوا غير ذلك، من خزائن الملوك ومن كل فج، وأنجدوا في تصحيح فرائده، وأتهموا وأنتجعوا، في تطبيق شواهده، كل منتجع، وتيمموا حتى بلغوا أقاصي الشام والعراق ووج. أعانهم الله على صنيعهم حتى يصل إلى حد الكمال، وأتم لهم نسيجهم على أحكم منوال، وجزى الله حضرة ناظر هم أحسن الجزاء، وشكره على حسن مساعيه وحباه جميل الحباء، فان هذه نعمة كبرى على جميع المسلمين، يجب أن يقابلوها بالشكر والدعاء على ممر السنين، كلما تلوا: ان الله يحب المحسنين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
في 17 رجب المعظم سنة 1300 كتبه الفقير إلى ربه الواهب احمد فارس صاحب الجوائب
بسم الله الرحمن الرحيم قال عبد الله محمد بن المكرم بن أبي الحسن بن أحمد الأنصاري الخزرجي، عفا الله عنه بكرمه:
الحمد لله رب العالمين، تبركا بفاتحة الكتاب العزيز، واستغراقا لأجناس الحمد بهذا الكلام الوجيز، إذ كل مجتهد في حمده، مقصر عن هذه المبالغة، وان تعالى، ولو كان للحمد لفظ أبلغ من هذا لحمد به نفسه، تقدس وتعالى، نحمده على نعمه التي يواليها في كل وقت ويجددها، ولها الأولوية بان يقال فيها نعد منها ولا نعددها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المشرف بالشفاعة، المخصوص ببقاء شريعته إلى يوم الساعة، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، وأتباعهم الأخيار، صلاة باقية بقاء الليل والنهار.
أما بعد فان الله سبحانه قد كرم الانسان وفضله بالنطق على سائر الحيوان، وشرف هذا اللسان العربي بالبيان على كل لسان، وكفاه شرفا أنه به نزل القران، وأنه لغة أهل الجنان. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقران عربي، وكلام أهل الجنة عربي، ذكره ابن عساكر في ترجمة زهير بن محمد بن يعقوب.
واني لم أزل مشغوفا بمطالعات كتب اللغات والاطلاع على تصانيفها، وعلل تصاريفها، ورأيت علماءها بين رجلين: أما من أحسن جمعه فإنه لم يحسن وضعه، واما من أجاد وضعه فإنه لم يجد جمعه، فلم يفد حسن الجمع مع إساءة الوضع، ولا نفعت إجادة الوضع مع رداءة الجمع.
ولم أجد في كتب اللغة أجمل من تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن احمد الأزهري، ولا أكمل من المحكم لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي، رحمهما الله، وهما من أمهات كتب اللغة على التحقيق، وما عداهما بالنسبة اليهما ثنيات للطريق. غير أن كلا منهما مطلب عسر المهلك، ومنهل وعر المسلك، وكان واضعه شرع للناس موردا عذبا وجلاهم عنه، وارتاد لهم مرعى مربعا ومنعهم منه، قد أخر وقدم، وقصد أن يعرب فأعجم. فرق الذهن بين الثنائي والمضاعف والمقلوب، وبدد الفكر باللفيف والمعتل والرباعي والخماسي فضاع المطلوب، فأهمل الناس أمرهما، وانصرفوا عنهما، وكادت البلاد لعدم الاقبال عليهما أن تخلو منهما.
وليس لذلك سبب إلا سوء الترتيب، وتخليط التفصيل والتبويب. ورأيت أبا نصر إسماعيل بن حماد الجوهري قد أحسن ترتيب مختصره، وشهره، بسهولة وضعه، شهرة أبي دلف بين بادية ومحتضره، فخف على الناس أمره فتناولوه، وقرب عليهم مأخذه فتداولوه وتناقلوه، غير أنه في جو اللغة كالذرة وفي بحرها كالقطرة، وان كان في نحرها كالدرة، وهو مع ذلك قد صحف وحرف، وجزف فيما صرف، فاتيح له الشيخ أبو محمد بن بري فتبع ما فيه، وأملي عليه أماليه، مخرجا لسقطاته، مؤرخا لغلطاته، فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع هذا الكتاب المبارك، الذي لا يساهم في سعة فضله ولا يشارك، ولم أخرج فيه عما في هذه الأصول، ورتبته ترتيب الصحاح في الأبواب والفصول، وقصدت توشيحه بجليل الاخبار، وجميل الآثار، مضافا إلى ما فيه من آيات القرآن الكريم، والكلام على معجزات الذكر الحكيم، ليتحلى بترصيع 1 دررها عقده، ويكون على مدار الآيات والاخبار والآثار والأمثال والاشعار حله وعقده، فرأيت أبا السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري قد جاء في ذلك بالنهاية، وجاوز في الجودة حد الغاية، غير أنه لم يضع الكلمات في محلها، ولا راعى زائد حروفها من أصلها، فوضعت كلا منها في مكانه، وأظهرته مع برهانه، فجاء هذا الكتاب بحمد الله واضح المنهج سهل السلوك، آمنا بمنة الله من أن يصبح مثل غيره وهو مطروح متروك. عظم نفعه بما اشتمل من العلوم عليه، وغني بما فيه عن غيره وافتقر غيره إليه، وجمع من اللغات والشواهد والأدلة، ما لم يجمع مثله مثله، لان كل واحد من هؤلاء العلماء انفرد برواية رواها، وبكلمة سمعها من العرب شفاها ولم يأت في كتابه بكل ما في كتاب أخيه، ولا أقول تعاظم عن نقل ما نقله بل أقول استغنى بما فيه ، فصارت الفوائد في كتبهم مفرقة، وسارت أنجم الفضائل في أفلاكها هذه مغربة وهذه مشرقة، فجمعت منها في هذا الكتاب ما تفرق، وقرنت بين ما غرب منها وبين ما شرق، فانتظم شمل تلك الأصول كلها في هذا المجموع، وصار هذا بمنزلة الأصل وأولئك بمنزلة الفروع، فجاء بحمد الله وفق البغية وفوق المنية، بديع الاتقان، صحيح الأركان، سليما من لفظة لو كان. حللت بوضعه ذروة الحفاظ، وحللت بجمعه عقدة الالفاظ، وانا مع ذلك لا أدعى فيه دعوى فأقول شافهت أو سمعت، أو فعلت أو صنعت، أو شددت أو رحلت، أو نقلت عن العرب العرباء أو حملت، فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها الأزهري وابن سيده لقائل مقالا، ولم يخليا فيه لاحد مجالا، فإنهما عينا في كتابيهما عمن رويا، وبرهنا عما حويا، ونشرا في خطيهما ما طويا. ولعمري لقد جمعا فأوعيا، وأتيا بالمقاصد ووفيا.
وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمت بها، ولا وسيلة أتمسك بسببها، سوى أني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من العلوم، وبسطت القول فيه ولم أشبع باليسير، وطالب العلم منهوم. فمن وقف فيه على صواب أو زلل، أو صحة أو خلل، فعهدته على المصنف الأول، وحمده وذمه لاصله الذي عليه المعول. لأنني نقلت من كل أصل مضمونه، ولم أبدل منه شيئا، فيقال فإنما إثمه على الذين يبدلونه، بل أديت الأمانة في نقل الأصول بالفص، وما تصرفت فيه بكلام غير ما فيها من النص، فليعتد من ينقل عن كتابي هذا أنه ينقل عن هذه الأصول الخمسة، وليغن عن الاهتداء بنجومها فقد غابت لما أطلعت شمسه.
والناقل عنه يمد باعه ويطلق لسانه، ويتنوع في نقله عنه لأنه ينقل عن خزانة.
والله تعالى يشكر ما له بالهام جمعه من منة، ويجعل بينه وبين محرفي كلمه عن مواضعه واقية وجنة. وهو المسؤول أن يعاملني فيه بالنية التي جمعته لأجلها، فإنني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية، ولان العالم بغوامضها يعلم ما توافق فيه النية اللسان 2 ويخالف فيه اللسان النية، وذلك لما رايته قد غلب، في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنا مردودا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودا. وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون، وسميته لسان العرب، وأرجو من كرم الله تعالى أن يرفع قدر هذا الكتاب وينفع بعلومه الزاخرة، ويصل النفع به بتناقل العلماء له في الدنيا وبنطق أهل الجنة به في الآخرة، وان يكون من الثلاث التي ينقطع عمل ابن آدم إذا مات الا منها، وان أنال به الدرجات بعد الوفاة بانتفاع كل من عمل بعلومه أو نقل عنها، وان يجعل تأليفه خالصا لوجهه الجليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال عبد الله محمد بن المكرم: شرطنا في هذا الكتاب المبارك ان نرتبه كما رتب الجوهري صحاحه، وقد قمنا، والمنة لله، بما شرطناه فيه. إلا أن الأزهري ذكر، في أواخر كتابه ، فصلا جمع فيه تفسير الحروف المقطعة، التي وردت في أوائل سور القران العزيز، لأنها ينطق بها مفرقة غير مؤلفة ولا منتظمة، فترد كل كلمة في بابها، فجعل لها بابا بمفردها، وقد استخرت الله تعالى وقدمتها في صدر كتابي لفائدتين: أهمهما مقدمهما، وهو التبرك بتفسير كلام الله تعالى الخاص به، الذي لم يشاركه أحد فيه الا من تبرك بالنطق به في تلاوته، ولا يعلم معناه إلا هو، فاخترت الابتداء به لهذه البركة، قبل الخوض في كلام الناس، والثانية أنها إذا كانت في أول الكتاب أقرب إلى كل مطالع من آخره، لان العادة أن يطالع أول الكتاب ليكشف منه ترتيبه وغرض مصنفه، وقد لا يتهيأ للمطالع أن يكشف آخره، لأنه إذا اطلع من خطبته أنه على ترتيب الصحاح أيس ان يكون في آخره شئ من ذلك، فلهذا قدمته في أول الكتاب.
----------------------
(١) كانت ولادته سنة ٦٣٠ ووفاته سنة ٧١١ كما في الوافي بالوفيات للصفدي والدرر الكامنة لابن حجر والمنهل الصافي لابن تغري بردى والبغية للسيوطي.
** لسان العرب للامام العلامة أبى الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري المجلد الأول أ - ب نشر أدب الحوزة قم - إيران 1405 ه 1363 ق