أ. د. لطفي منصور - شِعْرُ الْعِتابِ..

الْعِتابُ وَالْمُعاتَبَةُ هِيَ مُراجَعَةٌ لِما حَصَلَ مِنْ سُوءِ تَفاهُمٍ بَيْنَ صَدُيقَيْنِ أَوْ قَريبَيْنِ أَوْ حَتّى عَشِيقَيْنِ ، وذَلِكَ لِلْحُصُولِ عَلى الْعُتْبَى وَهِيَ الرِّضا، وَإرْجاعِ الْمَوَدَّةِ إلى سابِقِ عَهْدِها. وَلَقَدْ نَظَمَ الشُّعَراءُ في هذا المَوْضوعِ الْكَثِيرَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَصِيدَةُ الْمُتَنَبِّي في عِتابِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الَّتي مَطْلَعُها:
وا حَرَّ قَلْباهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ
وَمَنْ بِجِسُمِي وَحالي عِنْدَهُ سَقَمُ
وَآخِرُها عُنْوانُها:
هَذا عِتابُكَ إلّا أَنَّهُ مِقَةٌ
قَدْ ضُمِّنَ الدُّرَّ إلّا أَنَّهُ كَلِمَ
وَكَذَلِكَ قَصِيدَةُ ابْنِ زَيْدُونٍ في عِتابِ وَلّادَةَ الَّتي مَطْلَعُها:
أَضْحَى التَّنائِي بَدِيلًا مِنْ تَدانِينا
وّنابَ عَنْ طِيبِ لُقْيانا تَجافِينا
وَأَثْناءِ مُطالَعَتي في كِتابِ أَمالي الشَّجَرِيِّ (ت ٥٤٢ هج) عَثَرْتُ في صفحةَ (١٠منَ المجلَّدِ الْأَوَّلِ ) عَلى قِطْعَةٍ مِنْ شِعْرِ الْعِتابِ لِلْحارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الثَّقَفي، طَبِيبِ الْعَرَبِ، أَصْلُهُ مِنَ الطّائِفِ رَحَلَ إلى بِلادَ فارِسَ، وَدَرَسَ الطِّبَّ في مَدْرَسَةِ جُنْد يَسابور ثُمَّ عادَ إلى بِلادِه, وَكانَ شاعِرًا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ (١٣ هج).
الْقِطْعَةُ مُتَضَمِّنَةٌ أَلْطَفَ عِتابٍ وَأَحْسَنَهُ. وَكانَ خَرَجَ إلى الشّامِ، فَكَتَبَ إلى بَنِي عَمِّهِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَقالَ لَهُمْ مِنَ الْوافِرِ
- أَلا أَبْلِغْ مُعاتَبَتي وَقَوْلِي
بَتِي عَمِّي فَقَدْ حَسُنَ الْعِتابُ
- وَسَلْ هَلْ كانَ لِي ذَنْبٌ إلَيْهِمْ
هُمُ مِنْهُ فَأَعْتُبُهُمْ غِضابُ
(أَعْتُبُهُم: أُزِيلُ عِتابَهُمْ بِالرِّضا. الْهَمْزَةُ لِلسَّلْبُ أَوِ النَّفْيِ. نَقولُ: عاتَبَهُ فَأَعْتَبَهُ أيْ أَرْضاهُ)
- كَتَبْتُ إلَيْهِمُ كُتُبًا مِرارًا
فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيَّ لَها جَوابُ
(كُتُبًا: رَسائِلَ)
-فَما أَدْرِي أَدْرِي أَغَيَّرَهُمْ تَناءٍ
وَطُولُ عَهْدٍ أَمْ مالًا أَصابَوا
(التَّنائِي: الْبُعْدُ. يَقولونَ في الدّارِجَةِ: البُعُدْ جَفا. نَصَبَ مالًا في الشَّطْرِ الثّاني عَلى الِاشْتِغالِ ،أيْ اشْتِغالُ الْفَعْلِ أصابوا بنَصْبِ الضَّميرِ الْمَحذوفِ، فَالْأَصْلُ أَصابُوهُ أيِ الْمالُ. يَحْتارُ الْحارِثُ في سَبَبِ هَجْرِ بَني عَمِّهِ لَهُ: هَلْ غَيَّرَهُمُ طًُولُ زَمَنِ الفِراقِ أوْ أَصْبَحُوا أَغْنِياءَ فَاسْتَغْنَوا بِهِ عَنْهُ. أكْبِرْ بِتَحْليلِ طَبيبِ الْعَرَبِ الْبارِعِ)
- فَمَنْ يَكُ لا يَدُومُ لَهُ وِصالٌُ
وَفيهِ حِينَ يَغْتَرَبُ انْقِلابُ
- فَعَهْدِي دائِمٌ لَهُمُ وَوُدِّي
عَلى حالٍ إذا شَهِدُوا وَغابُوا
(هذهِ هيَ الْمُروءَةُ الْعَرَبِيَّةُ: عَهْدُ شاعِرِنا وَوُدُّهُ لِبَنِي عَمِّهِ ثابِتانِ سّواءٌ حَضَرُوا أمْ غابُوا).
وَمِنْ جَمِيلِ ما قَرَأْتُ أَيْضًا في الْعِتابِ شِعْرٌ لِضَمْرِةَ النَّهْشَلِيِّ في كِتابِ (النَّوادِرُ اللُّغَوِيَّةُ) لِأبي زَيْدٍ الْأَنْصارِيِّ (ت ٢١٥ هج) وَضَمْرَةُ شاعِرٌ جاهِلِيٌّ قَديمٌ قالَ يُعاتِبُ امْرَأَتَهُ الَّتِي تَلُومُهُ عَلَى كَرَمِهِ في نَحْرِ جُزُرِهِ لِإطْعامِ السّاعِبينَ. وَمِثْلُ هذا وَرَدَ مَعَ حاتَم الطّائي.
يَقولُ ضَمْرَةُ ص: ٢: مِنَ الْكامِلِ
- بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ في النَّدَى
بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلامَتِي وَعِتابي
(الْوَهْنُ: مُنتَصَفُ اللَّيْلِ ، بَسْلٌ: حَرامٌ)
- أَأَصُرُّها وَبَنِيُّ عَمِّي ساغِبٌ
فَكَفاكِ مِنْ إبَةٍ عَلَيَّ وَعابِ
(أَصُرُّها: أَجْمَعُها، المقصودُ الّإِبِلُ، الهمزةُ الْأُولى لِلِاسْتِفْهام، ساغِبٌ: جائِعٌ وفيهِ يَتَساوَى الْمُفْرَدُ والمثَنَّى والْجَمْعُ بُنَوْعَيْهِما, الْإبَةُ الْخِزْيُ)
- أَرَأَيْتِ إنْ خَرَجَتْ بِلَيْلٍ هامَتِي
وَخَرَجْتُ مِنْها عارِيًا أَثْوابِي
(الهامَةُ: مِنْ أَوابِدِ الْعَرَبِ وهيَ طائِرٌ أُسْطورِيٌّ يَرْمُزُ إلى النَّفْسِ.يَقْصِدُ إذا ماتَ وَخَرَ جَتْ رُوحُهُ. عارِيًا أَثْوابي: حَتَّى أَثْوابُهُ لا يُدْفَنُ فيها)
- هَلْ تَخْمِشَنْ إبِلِي عَلَيَّ وُجُوهَها
أوْ تَعْصِبَنَّ وُجُوهَها بِسِلابِ
(السِّلابُ: عَصْبَةُ كانَتِ الْمَرْأَةُ تَعصبُ رَأْسَها بها إذا ماتَ زَوْجُها. المَعْنَى أَنَّ هَذُهِ الْإبِلَ لا تَبْكِي عَلَيَّ عِنْدَ مَوْتِي)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى