قراءة في ديوان ( حدوتة الشط البعيد ) للشاعر محمود رمضان
بقلم / مجدي جعفر
( 1 )
بقلم / مجدي جعفر
( 1 )
هذا هو الديوان العاشر للشاعر محمود رمضان، الذي صدر عن دار الربيع ضمن سلسلة مطبوعات اتحاد كُتّاب مصر، ويقع الديوان في ( 127 ) صفحة من القطع المتوسط، ويضم ( 37 ) قصيدة تراوحت بين الطول والقصر، ومحمود رمضان في دواوينه السابقة، يميل في معظم قصائده فيها إلى الاختزال والتكثيف، ولكنه في هذا الديوان تقمص دور الشاعر الحكاء، وحكاياته ليست كالحكايات المعادة والمكررة، فهو لايسرد وقائع وأحداث، ولكنه يقدم لنا حركة البشر والكون والحياة ويحاول أن يقبض على جوهر الأشياء، ويلمس الروح الخفية التي تحركها.
ويهدي ديوانه إلى الأرواح الطيبة التي غادرتنا، وتركتنا نعاني، ولكن هذه الأرواح التي تركتنا لم تزل معه، وحده الذي يراها، ويحاورها :
( اسمع بقى / حدوتة الشط البعيد، أنا ياما جدي / حكى لي عنه، الشط اللي مليان بالأماني / اللي محدش يوم وصل له، كان بيظهر / في زيارة الخضر، للتمر اللي طايب في الجريد / للحرف اللي ولع نار، في قلب عشاق النشيد / للدم اللي نازف م العبيد، للحب اللي سافر جوه مراسيل البريد / ..... ) ص ص : 65 – 66
والشاعر هنا يحاول أن يصل للشط الذي لم يصل له أحد من قبل، ليحكي حكايته، والشط كما جاء في قواميس اللغة، قد يكون جانب النهر أو البحر أو الوادي، وشطّ قد تأتي بمعنى بعُد أو بمعنى التجاوز، أوالإفراط، أوالجور والظلم.فهل يتوسل في الوصول إليه بالعلم اللدني الذي أكرم الله به سيدنا الخضر؟ إنه يحاول أن يستشرفه في آيات كونية تخفى عن نفوس شاهت وقلوب صدئت، هل هي رحلة نفسية وروحية؟ هل؟ وهل؟ وهل؟
الشاعر يستهل قصيدته الأولى من الديوان وعنوانها ( إنت رايح فين؟ ) بالسؤال، والقصيدة كلها عبارة عن أسئلة، وهذه الأسئلة تتعلق بالنفس البشرية، والتي أصبحت مثل الغرفة المظلمة كما يصفها، وبسببها ضل الإنسان الطريق، ولا يعرف من أين ولا إلى أين يسير؟ فقد الاتجاه الصحيح بسبب هذه النفس غير السوية والتي تشغي بالغل والحقد والحسد والأنانية وأمراض كثيرة، هذه الأمراض التي استشرت في النفوس واستفحلت، هي التي جعلت الشاعر يحس بالغربة ويحاول أن يسافر إلى الشط البعيد، مكانا وزمانا، فالحياة على هذا الكون في هذا الزمان أضحت قاتمة وخانقة، ولا تطاق، فليس هذا الكون هو الكون الذي يتمناه الشاعر، ونجده في آخر قصائد الديوان ( الضي الأخضر ) يبحث عن كون آخر يعيش فيه، غير الكون الذي يعيش فيه الناس :
( قلب بعيونك / في الناس العايشة / في كون غير كونك ) ص 119
والشاعر يرى أن الكون الذي يتمنى أن يحيا فيه أو الكون الذي يبحث عنه،هو الكون الذي كان يعيش فيه الأسلاف، والذي لم يقطع صلته بهم، فيأتون إليه كثيرا كلما حزبه أمر أو كلما اسودت الدنيا في وجهه ليؤازروه، أو يتمنى أيضا العودة إلى عالم البراءة الأول، عالم الطفولة النقي :
( واستدعي خيالك / من آخر سكة مشيتوا عليها، كنتوا بتبنوا عليها بيوت / بتطير في الملكوت، كنت تقوم م النوم / وتبص م الشباك، فتلاقي ملاك / يرمي الضي الأخضر في عيونك / ويعبي إيديك / بكواكب، بيحولها خيالك لمراكب، بشراع من نور، بتشق طريقها / أسرع من الصوت والضوء، في عوالم / الحي / الدايم، ما فيهاش غير روح الحي / ما فيهاش ميت إلا الموت ) ص ص : 120 – 121
وإذا كان الشاعر قد بدأ قصيدته الأولى بالأسئلة، وظل يبحث لها عن إجابات، ورغم محاولاته الجادة والمخلصة، ولكنه لم يصل في النهاية إلى تحرير النفوس من أدرانها، ولا العيش في الكون الذي يحلم به، والسؤال عامة هو بداية المعرفة، وأسئلة الشاعر توالدت وتناسلت وتكاثرت، وكانت البدايات لحكايات وحواديت لاتنفد، ولكنها أبدا لم تكن حدوتة الشط البعيد والتي تناثرت حدوتة هذا الشط في معظم القصائد مثل خيوط ضوء أو مثل حبات العقد المنفرط، والشاعر يحاول أن يلملمها ويلضمها بخيط غير مرئي ليشكل هذا العقد، أو كأنه يصنع مركبا لتكون طوق نجاة للإنسان والكون.
( 2 )
الشاعر مسكون بالأسئلة :
( مليون سؤال / بيرفرفوا جوايا / مستنيين يهبطوا فوق الاجابة ) ص 39
= ويساءل الحاضر والواقع المرير، ويحاول تعريته، ويكشف عن بعض أمراضنا الأخلاقية والاجتماعية، فيقول في قصيدة ( كنت فاكر ) ص 42 :
( بس صعب تداوي صاحب / عينه فارغه، ليل نهار بيبص لك / يشتهي اللقمة ف إيديك، يشتهي الدمعة / تطفي / ضي بسمة / لسه خارجه من عنيك )
فهذا الصاحب الذي فشل الشاعر في مداواته :
( بس صعب تداوي صاحب / كل همه هو نفسه، نفسه بس، ثم نفسه، ثم عايز كل حاجة تبقى ليه )
= في قصيدة ( ماريونيت ) ص ص : 31 - 34 التي يبدأها هي الأخرى بسؤال ( إزاي بقينا كده؟ ) يرصد فيها أزمة الإنسان الذي استعبدته نفسه، وصار يأتمر بأمرها، ويرصد أيضا الكثير من أمراضنا الأخلاقية والاجتماعية التي بلغت مداها :
( كله بيدور على / أكل كله، كله عايز / ليه لوحده / الكون دا كله )
ويشبه الناس بعرائس ( الماريونيت ) :
( خيوط ضعيفة تشدنا / يمين نقول حاضر / شمال نقول حاضر )
( خيوط ماسكانا / من بره ومن جوه / تتحرك / فنتحرك )
ويرصد الكثير من الأحوال :
( وعباد بتعشق / خطوتها يحكمها العباد )
( نطلع ونقفل / ع الحقيقة ألف باب )
( ونكدب ان عنينا شافت / جوانا أصبح / خيش وقش / يعني ميت / مهما عاش )
= ويحمل أسئلته التي تؤرقه في حاضره، ويذهب بها إلى إلماضي البعيد، يذهب بها إلى ( هاميس ) آخر عرائس النيل الجميلات :
( أنا اللي جاي لك من الزمن البعيد / واللي ماشاف يوم صباكي، أنا الوحيد اللي نام / في عيونك الغرقانه باكي، جي لك مخبي الأسئلة / خايف من الحرس اللي واقف / فوق حدود الأزمنه )
لماذا يذهب إليها مخبئا الأسئلة؟ ..لأنه في كل زمان كما يصرح الشاعر، تُكمم الأفواه، وتُكمم العقول، والسؤال دائما وأبدا هو بداية الكشف وبداية المعرفة
( أرجوكي جاوبي / خرجي الصوت المحشرج في الضلوع، انا عايز أرجع من آلاف الأسئلة / بجواب بسيط، يصبح ونس وقت الرجوع / أهديه لكون لسّاه غبي، ما عرفش إن البسمه منبتها الدموع / ما عرفش إن الضي / رغم انطفاء الضوء / ورغم دوبان الشموع، جوه الوجود / موجود )
الشاعر يحاول من خلال محاورته مع ( هاميس ) أن يصل إلى ماوراء الحس، وينفذ إلى ماوراء الوجود، وما خلف الطبيعة ( الميتافيزيقا )، فالكون الذي صار ماديا اليوم لا يرى ما لايراه الشاعر، وهذا الشاعر صاحب البصيرة لا مكانة له بين هؤلاء :
( ولأننا فاهمين قوي في حاجات كتيره / ولأننا باصين على الدنيا الكبيرة، سجنوا أحلامنا في عنينا / وأدي آخرة اللي عنده شوف / آخرتها مركون على الرفوف ) ص 22
= وعندما تتكالب عليه الدنيا والأحزان، ويضيق به الحال ويشعر بالعزلة والضعف والهوان، يلجأ إلى الأحلام :
( وان ما قدرتش تضحك / اركب الهامك / افرد جناحاتك / في الحلم شراع، واتنسم ريحة الحرية / وافرد ضهرك / واستقبل م السموات / أول طبعة من الأيام / وانقش بإيديك / أول حرف يدون / رحلة إنسان / كان عايش مش عايش / كان بيحارب دنيا بتستمتع / بالعصيان / والطغيان / وبظلم البشرية / كان بيحارب بسلامة نية )
= ومن أحلامه الجميلة في قصيدة ( خيط من تراب ) ص ص : 75 – 78، فيحلم بالقادم من رحم الغيب ليبدد مساحة العتمة، ويحقق الحلم :
( كانت صوابعه .. / بتفر صفحات الكتاب / بينطلق .. / خيط من تراب / ويدوّر .. / ويصور الإنسان صوره / كانت كما الضل المخيف / بصيت عليه وهو ماشي / فالتفتلي / بصّت عيوني جوه عنيه / فلمحت فيها / شجرة لسه بتتولد / من جوه أرحام الخريف )
= والشاعر لم يفقد الأمل، فالحلم عنده بمثابة طاقة النور كما في قصيدة ( طاقة نور ) ص ص : 79 – 80 :
( والحلم طاقة نور / خلاني طير أخضر / وبعدي سور ورا سور )
= ويتخلى الشاعر عن ( دون كيشوتيته )، ويذهب إلى التاريخ، ليسترفد منه ( صلاح الدين )، فالكلمة وحدها يبدو أنها لاتقوى ولا تصمد في مواجهة الطُغاة، ووحدها غير قادرة على إحداث التغيير، ففي قصيدة ( صوت في دمي ) ص ص : 35 – 37 يحلم بسيف صلاح، لماذا؟ :
( يرسم بلاد غير البلاد / يرسم طريق غير الطريق، فيه صديق غير الصديق )
محتاج لسيف صلاح، لكي :
( يمحي ليل الظلم / وتبان بشاير / على مرمى البصر / لقدوم الصباح )
( 3 )
ومن القصائد الجياد قصيدة ( طريق للسما ) ص ص 55 - 57، ويحاول الشاعر / السندباد السير في هذا الطريق، فهذا الطريق قد يصل به إلى الشط البعيد، ويكاد يكون الشاعر / السندباد قد تماهى مع كل مفردات الكون :
( في المبتدى كان الندى / بيشق حارات الفضا / يسقط على خد الورود / يرسم مدى )
( والشمس في إيدين الصباح / مصباح .. / يفرش السجاد / على سطح البيوت / نور ../ تسقط على كتافه عصفوره / تدفا وتطير / تفرد جناحها في الفضا )
والشاعر / السندباد :
( راكب على الموج العنيد / حالف يقابل شيء جديد )
( كان كل همه / يروح، يروح / لبعيد، مجدافه كان / بيشق قدامه الطريق )
وبدأت معالم الطريق تتضح أكثر في هذه القصيدة، فهي تمثل الشاعر خير تمثيل، ونستطيع من خللها أن نتوقف على معلم مهم من معالم التجربة الشعرية لدي الشاعر.
= وحتى أسفلت الشارع تماهى معه الشاعر، وجعله بإحساسه الرهيف، وفنيته الواثبة، يضج بالحركة والحياة، يقول في قصيدة ( لغة السكوت ) ص ص : 94 – 95 :
( أسفلت الشوارع / مليان بناس ) ..
( أسفلت الشارع / نازل وطالع / ومعدي من بين البيوت / يشبه دراع الأخطبوط / بيسجل الحكايات / المآسي / لحظات الفراق / والأمنيات / وساعات بتضحك عينيه / وساعات بيصرخ / وبأعلى صوت / يا ابن آدم / حاسب )
= وتأتي قصيدة (إنسان بسيط ) ص ص : 68 – 69 لتقدم لنا نوذجا رائعا للإنسان المتصالح مع نفسه ومع الله ومع الكون.
= القصيدة الدائرية : عُرف محمود رمضان بكتابة القصيدة الدائرية وهو يبدأ القصيدة بمقطع وينهيها بنفس المقطع، ويضم هذا الديوان عدد كبير من هذه القصائد الدائرية، وتحتاج من الدارسين إلى مباحث خاصة بها، وهل هي حالة من حالات التمرد على شكل القصيدة، ومضمونها أيضا، وهل أثرت القصيدة بجماليات جديدة؟
محمود رمضان شاعر يستحق كل الحفاوة والتقدير، ونرجو أن نكون قد نثرنا بعض قطرات الضوء حول معالم تجربته الشعرية في هذا الديوان، والله الموفق.
( ورقة نقدية لمناقشة الديوان بقصر ثقافة الزقازيق، مساء الاثنين المصادف 14 / 11 / 2022م )