سعيد الكفراوي - أن يكون الإنسان وحيداً!

أواخر الستينيات، تقريباً، كنت أحضر من قريتي لأقضي أياماً قليلة بمدينة القاهرة. كنت أقيم في لوكاندة قليلة الأهمية، تطل على ميدان «باب اللوق«، »الأزهار» سابقاً. وكنت عند مجيء الليل أجلس على مقهى «سوق الحمدية» وصاحبه سوري طيب. كنت أراهم يتتابعون، إما فرادى، أو أحدهم يتأبط ذراع صاحبه، وكنت أتأملهم بدهشة .. شكرى عياد .. عز الدين إسماعيل .. صلاح عبدالصبور .. فاروق خورشيد .. فاروق شوشة .. ثم جابر عصفور، ويأتى فى عجلة طيب الذكر عبدالغفار مكاوي. حينها سألت أمل دنقل: «أين يذهب الجماعة؟»، أجابنى: «لهم لقاء أسبوعى فى شقة فاروق خورشيد هناك»، وأشار بإصبعه ناحية إحدى العمائر الخديوية القديمة، ثم نبهني أمل دنقل إلى أن هؤلاء الكتاب والشعراء آخر من بقى من جماعة الجمعية الأدبية المصرية، التي خرجت من جماعة الأمناء، التي أنشأها طيب الذكر الشيخ «أمين الخولي». ثم أكمل أمل دنقل: يلتقون بحكم رفقة التاريخ والإيمان بمبادئ الأمناء، يستعيدون دورهم المهم في الثقافة العربية.

حين رأيت «عبدالغفار مكاوي» يأتي وحده، نهضت وصافحته باعتزاز، ظل ملازماً لعلاقتنا حتى رحيله. يرحل «عبدالغفار مكاوي»، هذا المفكر الكبير، في نفر قليل شاهدوا جنازته، ونفر أقل حضروا عزاءه. وبين الميلاد والرحيل، رحلة من إنتاج الإبداع والمعارف تدفعني بأن أحنى هامتي لرجل أعطى الفكر والإبداع كل حياته! «رحم الله أستاذنا يحيى حقى الذى مضى حيث وجه الله تصحبه جنازة عدد أفرادها يساوى عدد أصابع يد واحدة «!أحزن كثيراً على الخواتيم المؤلمة لهؤلاء الكبار الذين أعطوا ومضوا!! وأنا أتخيل عبدالغفار مكاوي يهمس لنفسه الآن: «هل كان الأمر يستحق كل هذا الجهد؟!

عاد «عبدالغفار مكاوي» من ألمانيا حاصلاً على الدكتوراه في الأدب الألماني.. باشر التدريس وكان بشهادة تلامذته «وشكلنا في خيالنا صورة نمطية لأستاذ متمرد، طويل الشعر، مكفهر الوجه، عالي الصوت، ولكن حين التقينا به وجدنا رجلاً أنيقاً، مهذباً، خفيض الصوت، أستاذاً لمادة الفلسفة الحديثة». لا أنسى ترجماته التى قدمها، بالذات عن الألمانية، قصائد من الشعر، والعديد من مجموعات القصص، والفكر الفلسفي، وأساطين هذا الفكر. ترجم مسرح «بريخت» والكثير من كتب الفلسفة، كما أبدع في ذلك الحين كتابه المهم والرائد «ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحديث»، الذى مهد الطريق أمام حداثة قصيدة التفعيلة في ذلك الوقت. كان أحد الذين نبهوا الوعى الشعرى بأهمية قصيدة التفعيلة، وذلك بنقله تيارات مهمة، حداثية من الشعر الأوروبي، وقدم نماذج من «بودلير» و«رامبو» و«مالارميه» و«هيرمان هيسه» و«فيرلين«. لقد بدا شاعراً، ولكنه اصطدم بموهبة رفيق حياته «صلاح عبدالصبور» الكبيرة، فتفرغ تماماً لمشروعه الفلسفي، كان أحد الذين استطاعوا أن يقدموا نموذجاً فكرياً يمتزج فيه الأدب مع الفلسفة، وعاش تلك الحقبة من الستينات ناقداً للخطاب السياسي حينذاك ومتصدياً لتيارات اليسار وأطروحاتها في ذلك الوقت. حصل على الدكتوراه من جامعة فرايبورج فى العام 1962 وذلك في الأدب الألماني، وترجم «كانت» و«هيدجر». اتفق وصلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتى على إنجاز الكتب التي تساعد المتلقي في تكوين ذائقة تساعده على اكتشاف نماذج الأدب الرفيع. لم ينجز عبدالصبور، ولا البياتي شيئاً، فيما أنجز عبدالغفار مكاوى «ثورة الشعر». انشغل تماماً بالأدب والفلسفة فكتب القصة والمسرحية، وترجم الأعمال الكاملة للشاعر الألمانى «جوته»، وترجم ملحمة «جلجامش» كما ترجم كتابه المهم عن »مدرسة الحكمة»، كما ترجم الشاعر الإيطالى الذى عاش بالإسكندرية «أونجاريتي».

ظل طوال عمره يتميز بالأمانة والنبل، وكان – عليه رحمة الله – خفيفاً مثل نسمة حانية، وكنت التقيه بين الحين والحين فيقبض على يدى ويقول بصوته الخفيض: «اسأل علىّ أيها القاص الشاب، إحنا فلاحين زي بعض» .. وكان دائماً ما يصرخ: «أنا ريفي والريف مشحون بالقدرية». وعاش طوال عمره لم ينتم لتنظيم من التنظيمات التي كانت رائجة تلك السنوات ولم ينحن لأيديولوجية حين كانت لها سطوة على الفكر والأدب، وعاش طوال عمره ولاءه لعلمه وأساتذته وأصدقائه: أمين الخولي وشوقي ضيف وشكري عياد وصلاح عبدالصبور. آخر عمره، تقريباً في ربع ساعته الآخيرة مثلاً، منحته الدولة «جائزة الدولة التقديرية» في الآداب، بعد أن حصل عليها أشباه الأدباء، وغير الموهوبين، وخدم السلطان، الذين حملوا ولاءاتهم على أكتافهم ومضوا فى الدنيا، خدماً للذي يساوى، والذى لا يساوى .. على «عبدالغفار مكاوى» رحمة الله.

سعيد الكفراوي

نشرت في جريدة الوطن عام 2012
أعلى