سعيد الكفراوي - أمام بوابات فرناندو بيسوا

ظل بيسوا فى ذاكرة الشعر، واحداً من أغرب شعراء القرن العشرين. ظلت غرابة هذا الشاعر لا تنبع من غموض شعره فحسب، بل كانت علامة على شخصيته التي كثيراً ما بعثت الدهشة، وأثارت الأسئلة، وكانت في مجال الشعر، على مستوى العالم، تشبه قصائده التي كانت في وقتها، عصية على التصنيف. هل كان بيسوا سورياليا؟ أم كان شاعراً رمزياً؟ أم كان واحداً من الشعراء الذين لا يمكن القبض على كينونتهم؟ لكم كتب الرجل -طوال عمره القصير- قصيدته باحثاً فيها عن ذاته، عن هويته، عن كونه الخاص الذى جسده خيال الشاعر، وشخوصه تلك أسيرة الحلم، وذلك العالم الافتراضي الذى عاشه شاعر مثل بيسوا.

فقد اختلق في مسيرته أربعة من الكتاب، ظل يحدق من خلالهم على العالم، حيث أبدعوا أجمل الشعر، وعرفتهم الدنيا كشعراء مستقلين عمن أوجدهم، ريكاردوريس الذى أصبح أنا أخرى لبيسوا، كما اصطنع ندين برزا إلى حيز الوجود الأدبي، هما: كاييرو، والبارود كامبوس، وعبر سنوات ظل هؤلاء يكتبون حتى أضاف لهم الشخصية الرابعة، المتخيلة «برنارد سوارش». الأربعة الذين كان يتحاور معهم، هؤلاء المتخيلون الذين عرفهم الناس أكثر ممن أوجدهم؟

يخلو تاريخ الأدب مما صنعه بيسوا بأنداده! تركهم يكتبون، مندفعين نحو تحقيق وجودهم الخاص، بتلك القوة الرمزية لتلك الشخصيات المتخيلة التي تقبض على عالم الشعر بعبقرية فرناندو بيسوا، وتركهم ينتجون له الشعر، فيما تفرّغ هو لكتاب اللاطمأنينة.

ولد فرناندو أنطونيو نوغير بيسوا في لشبونة يوم 13 يونيو 1888 وتوفى بها يوم 30 نوفمبر فى العام 1953. عبر السنوات التي عاشها وصنعت حياته «بحياة رجل عايش الأشياء التي تحدث في الحياة من بعيد، مبتسماً، دون أن يختلط بها متخذاً من مهمة العبقري المقدسة والرهيبة هدفاً حيوياً لحياته»، إلا أنه قرر التخلي عن كل أنواع الشهرة التى تليق فقط بالممثلات والمنتوجات الصيدلية بدون إظهار أى ندم أو مرارة أو حقد». هكذا قال عنه مترجمه الشاعر المغربي المهدى أخريف. لقد عاش بيسوا طوال عمره القصير، وبعد أن قضى زمنا من سنواته في جنوب أفريقيا، يرى ويتعلم، ويتقن اللغة الإنجليزية، ثم عاد للشبونة يباشر عشقه الأزلي للشعر والفلسفة واللاهوت، مصطنعاً أنداده، بعدها يتفرغ لكتابه الهائل .. «كتاب اللا طمأنينة» يقول بيسوا على لسان نده البارود كاندس: أن أحس كل الأشياء بجميع الطرق الممكنة. أن أعيش الأشياء كلها من جميع الجهات. أن أكون الشيء ذاته بجميع الصيغ الممكنة فى وقت واحد.

كما ظل بيسوا يردد طوال حياته «كل منا يعيش حياتين: واحدة في الحلم، والأخرى تأخذنا إلى القبر.» كان الحلم أحد دوافع بيسوا لعشق الكلمات، والوعى بالكلمات قاده إلى طريق الشعر، والشعر انتهى إلى إنشاء «نوستالجيا»، يسمع فيها نبض الأشياء التي حفزته لكتابه «كتاب اللا طمأنينة». يقول بيسوا: «نحن لم نعش الحياة، الحياة هي التي عاشتنا، بنفس الطريقة التي يرشف فيها النحل الرحيق، نرى، نتكلم، ونحيا، الأشجار تنمو، بينما نحن ننام.»

لقد ظل هذا الشاعر الفريد يكتب الشذرات والمقاطع فى تتبع يثير الدهشة، يلقى ما يكتبه في حقيبة من جلد بائد حتى جاء أحدهم، وبإخلاص المحب ظل يعيد ترتيب تلك الشذرات والمقاطع التى تشبه الرؤى، حتى كانت «اللا طمأنينة» يقول: (أكل شيء يفلت منى. حياتي كلها، ذكرياتي، مخيلتي بما تحتويه، شخصيتي، الكل يتبخر، أحس باستمرار أننى كنت شخصاً آخر، وأننى أحس بالذى أعانيه هو مشهد من سيناريو آخر.. من أكون؟.. كم من ذوات أنا؟ من هو أنا؟ ما هو ذلك الفاصل الموجود بينى وبينى؟) كان على بيسوا الذى يعيش أيامه الغابرة، أن يستعيض عن تلك الخيبات بالشعر، حيث يهمس لنفسه «ألسنا بشىء ذى وزن. باطل ما نحن إياه.» وهناك على الشطآن البعيدة يقف وحده ويرتل ريح خفيفة جداً تهب ثم تمر، دائماً خفيفة جداً، وأنا لا أعرف فيم أفكر، ولا أسعى إلى أن أعرف حكاية وأخواتها!»
أعلى