وصل الضابط مع جنوده الى المنزل يحمل تعليمات من الامبراطور تنص على وجوب ان يقتل الفيلسوف المشاغب " سينيكا " نفسه على الفور . كان نيرون هائجاً وقرر ان ينتقم من كل الذين يعيشون بالقرب منه ، بعد ان كُشفت مؤامرة للتخلص منه ، فاصدر أوامر بقتل الجميع وكان منهم معلمه سينيكا ، برغم عدم وجود دليل يربط الفيلسوف بالمؤامرة ، وعندما عرف تلامذة الفيلسوف الروماني بدأوا بالبكاء والعويل ، لكن الفيلسوف طلب منهم الهدوء وقال لهم :"لم يكن احد غافلاً عن ان نيرون قاسٍ ، اذ بعد ان قتل أمه وأخاه ، لم يبق أمامه سوى قتل معلمه ومرشده". ويخبرنا هيغل وهو يكتب مقالاً يبدي فيه إعجابه بالفيلسوف الروماني ان سينيكا لم يرضخ للحظات الضعف المعتادة ، اذ واجه الواقع عبر موته حيث اسهم في خلق ربط دائم بين جوهر كلمة "فلسفة" ومقاربة هادئة للواقع الكارثي الذي يحيط به.
ادرك سينيكا ،المولود عام خمسة للميلاد، ان واجب الفلسفة هو السعي لاكتساب الفضيلة ، فاذا كانت الفلسفة ضرورية فهي لابد من السعي اليها وفي ذهننا الغاية العملية. وعلى الرغم من ان سينيكا ينتسب من الناحية النظرية الى الفلسفة الرواقية ومذهبها الحتمي ، فإنه يؤكد ان لكل انسان بوصفه موجوداً عاقلاً ، القدرة على ان يسير في طريق المعرفة لو انه فقط اراد ان يفعل ذلك.
خلال حياته، كان سينيكا قد شهد وواجه كوارث هائلة ومآسيَ شخصية ، كان يهيئ نفسه كي يعمل في السياسة ، لكنه في اوائل حياته اصيب بالسل ، حيث بقى طريح الفراش ، ما أدى الى تفرغه للقراءة واطلاعه على كتب ارسطو فنراه يكتب "ادين بحياتي للفلسفة".
كان سينيكا قد رفع لواء العقل، فنراه يكتب لأحد اصدقائه طلب منه نصيحة لمواجهة مشكلة كبيرة : حالما نتعامل بعقلانية مع ما سيحدث ، حتى لو لم تتحقق رغباتنا ، سندرك على نحو كبير ان المشكلات الضمنية اصغر من حالات القلق التي تولدها". ويرى سينيكا ان الوصول الى الحكمة ، هو ألا نحاول أن نصعب الأوضاع السلبية عن طريق ردود فعل من الغضب والاشفاق علي الذات والمرارة والقلق ، وان نحاول تنمية قدرة العقل في كشف الواقع ، ويري سينيكا أن في استطاعة الانسان أن يشعر بالسعادة حين يتمكن استخدام عقله في الوقت المناسب .
يقول هيغل إن سينيكا : " صاحب أعمق وأوسع تأثير على عقلية عصرنا بصفة عامة، وعلى شكل ومضمون الفلسفة . إذ لم يلقَ أي كاتب روماني أو حتى إغريقي تقديراً كالذي لاقاه سينيكا ".
************
يكتب سينيكا :"ان معرفتنا للأروع ، العقل والخير والفضيلة تبدأ من المعرفة التي تعطينا اياها العينان ، التمييز بين ما نراه ليلا ونهارا ، قد هدانا ، إلى معرفة الزمن وهذه الصبوة اوصلتنا الفلسفة ، ولم يحظ الناس بنعمة اكبر من نعمة العقل هذه". ونرى الشاب الالماني جورج فيلهلم هيغل يكتب عام 1790 ، وكان عمره عشرين عاما : " ما الذي كان القدماء يفهمونه من كلمة فلسفة ، فقد أتى على الناس زمن يسمون فيه الشخص الذي لايؤمن بوجود الأشباح والشياطين فيلسوفاً ، وكان الإغريق يخلطون الفلسفة بما فوق الإدراك الحسي والذي نسميه اليوم الوعي الديني . ويضيف هيغل في دفاتر الشباب :"ان اجتياز العقبات للوصول الى الحقيقة بأقصر الطرق غير ممكن إلا بعد استيعاب كل ما وعاه عقل القدماء خلال آلاف السنين ، اذا نحن لم نجتز الطرق التي سار عليها القدماء ، حكماً على انفسنا بالتيهان في المجاهل " .
ولد جورج فيلهلم هيغل في مدينة ستيغارت الألمانية عام 1770 ، لعائلة فقيرة ، فقد أمه التي كان يحبها كثيرا في الحادية عشرة. وقتل أخوه في الحرب، وجنّت أخته التي كان متعلقاً بها كثيرا، كان الوالد موظف بسيط ، والأم ربة بيت لاتعرف القراءة والكتابة ، ولم يبلغ عامه التاسع عشر حتى اندلعت الثورة الفرنسية التي اطلق هو عليها فيما بعد "الفجر الجديد" . عاش هيغل في العصر الذهبي للأدب الألماني ، وبالرغم من كونه اصغر من غوته بعشرين عاما ، ومن شيلر بعشرة اعوام ، فقد استطاع ان يتقرب من حلقتهم الضيقة ويصبح احد مريدي غوته، وهناك يرتبط بعلاقة صداقة مع شاعر المانيا الكبير هولدرلين.
كان هيغل اكبر إخوانه حظوة عند أبيه وذلك لأنه كان يرى فيه الذكاء المفرط ، كان الوالد يريد ان يجعل من ابنه كاهناً ، وقد سجله في الفصل الأكاديمي بجامعة "توينجن" لدراسة اللاهوت ، وهناك تعرف على شيلينغ الذي سيصبح اقرب اصدقائه وكان يصغره بخمسة أعوام ، إلا أن دراسة اللاهوت لم تستهوه فقرر الانصراف لقراءة مؤلفات افلاطون وسنيكا ومونتسكيو، ثم وجه اهتمامه الى جان جاك روسو وكان كتاب "العقد الاجتماعي" بمثابة كلمة السر التي تراءت لهيغل الشاب من اجل قيام فلسفة ثقافية حديثة الأسلوب ، وقد دفعته آراء روسو الى ان يشكل نادياً للسياسة كانت تناقش فيه الثورة الفرنسية ، الأمر الذي دفع السلطات الألمانية الى مطاردة اعضاء النادي ، فقرر هيغل الهرب الى مدينة برن ، وهناك استطاع ان يجد وظيفة في احد بيوت الأثرياء ، بعد ان توسط هولدرلين في تعيينه ، وفي تلك الفترة عكف على دراسة مؤلفات هيوم وميكافيللي و لايبنتز وسبينوزا ، كما قام بدراسة مؤلفات كانط . في تلك الفترة نلاحظ اتجاه هيغل نحو فصل الدين عن الدولة ، وفي رسالة الى هولدرلين عام 1795 يكتب :" لاسيبل الى هز صرح الكنيسة الارثوذكسية ، طالما ان مهامها ترتبط بمصالح دنيوية ، وتتداخل في بناء الدولة ، وطالما ان الكنيسة مصرّة على ان تجعلنا نضع ايدينا في جحورنا ونتكاسل في انتظار ان تاتي مملكة الله ، العقل والحرية سيظلان كلمة السر التي بيننا ونقطة اتحادنا ، هي الكنيسة غير المرئية ."
كان هيغل سعيدا بعمله الجديد ، وقد عدّه خطوة نحو الأمام ، نحو العالم الرحب الكبير ، ونحو عالم السياسة ايضا :"سوف اعود ، كي اصبح مساويا للعالم اكثر بعض الشيء مما كنت". كانت هذه رسالة بعث بها الى شقيقته ، وفي تلك الفترة يكتب مقالات يُعلق فيها على خطب البرلمانيين التي كانت تناقش الضرائب على الفقراء واصلاح قانون الأراضي . بعد وفاة والده عام 1799 يتخلى هيغل عن وظيفة المعلم الخاص ، ليلتحق بصديقه شيلينغ في جامعة ينا ، وكان شيلر وفيخته هناك ايضا ، كان شيلنغ قد حقق شهرة ومكانة سمحتا له بالتوسط لتعيين صديقه هيغل مدرساً في الجامعة براتب متواضع ، وفي تلك الفترة يؤسس مع شيلنغ مجلة للفلسفة ينشر فيها الفصول الاولى من كتابه "علم ظهور العقل " ، في تلك الفترة احتل الفرنسيون مدينة ينا فأغلقت الجامعة ما اضطر هيغل ، لأن يعمل صحفياً بالقطعة ، ثم قبل وظيفة مدير مدرسة ثانوية .
في عام 1801 يقدم رسالته للدكتوراه وفيها يخالف آراء نيوتن ، ويعود للجامعة ليصبح عام 1805 استاذاً فوق العادة ، إلا أن الحرب التي لم تنته بددت آماله بحياة مستقرة ، فسُرق منزله ، ولم ينجح سوى في انقاذ واحد من ممتلكاته وهو الأكثر قيمة لديه: مخطوط فينو مينو لوجيا الروح "ظاهريات الروح" الذي كان يحتفظ به في جيب معطفه اثناء حريق المدينة واضطر لطلب مساعدة غوته . عام 1806 استطاع ان يقنع احد الناشرين بطبع كتابه الذي لم يجد اقبالاً من القراء حيث وجدوا صعوبه في حل ألغازة ، ونراه يخبر صديقه شلينغ في لهجة المتذمر : " لم يفهمني إلا واحد ، وحتى هذا أساء فهمي" ، لكن رغم المصاعب إلا أن هيغل كان يرى ان العالم يتحضر لمعركة كبيرة سينتصر فيها الانسان ، انسان الأزمنة الحديثة الذي شاهده يسير فوق حصانه ، لقد حمل نابليون او روح العالم الى المانيا بعض المكتسبات السياسية والاجتماعية للثورة الفرنسية : "شاهدت القيصر، تلك النفس العالية ، ممتطيا جواده ، انه لفي الواقع احساس رائع ذلك الذي يغمر المرء حين يرى هذا الفرد مركزاً في نقطة جالساً على جواد."
بلغ هيغل الأربعين من عمره ولم يتزوج ، ونراه عام 1811 يكتب الى صديقه نيتهامر يزف اليه نبأ خطوبته : "اعلم انك تود لي السعادة من كل قلبك .. اسمها ماري فون توخر " ، كانت ماري اصغر منه باثنين وعشرين عاما ، وقد أراحه الزواج وساعده على زياده انتاجه الفلسفي ، فقدم بعد عام كتابه الأشهر "علم المنطق"، وقد تميز هذا الكتاب عن سائر انتاج هيغل حتى ان مؤلفه دعاه "افكار الله قبل الخلق" ، كان هيغل آنذاك قد صار علماً شهيراً في سماء الفلسفة عندما طلبت اليه جامعة هايدلبرغ ان يقبل فيها منصب الأستاذية ، حيث امضى في هذه الجامعة عامين قبل ان يقدم له وزير التربية البروسي منصب استاذ الفلسفة في برلين ، كان يتمنى منذ زمن طويل الاستقرار في مركز الحياة الثقافية والسياسية في المانيا ، وقد وفرت له جامعة برلين حقلاً واسعاً للكشف والدراسة ، واستطاع امام جمهور مختار من الطلبة ان يقدم محاضراته الشهيرة حول فلسفة الدين والجماليات وفلسفة التاريخ ونشر عام 1821 كتابه "مبادئ فلسفة الحق."
غير انه أثار منذ وصوله برلين ، حفيظة الأوساط المحافظة التي اتهمته بانه يغلف أفكاره السياسية الإصلاحية بتعابير فلسفية غامضة، وقد اغضب السلطات بمحاضراته واعماله ، مما ادى الى ان تتم مراقبته من قبل الشرطة ، ولم يقتصر خصومه على اتهامه بوحدة الوجود وانكار خلود النفس ، وانما كانوا يهزأون من كل تفكيره الديني ، وقد روى لنا الشاعر هايني الذي كان تلميذا لهيغل انه كان يتحدث يوميا مع استاذه عن الثواب والعقاب في الحياة الآخرة ، فما كان من هيغل سوى ان يبادره بالقول :" أتريد ان تحصل على مكافأة لأنك اعتنيت يوماً بوالدتك المريضة ، او لانك لم تدس السم في يوم من الأيام في طعام أخيك ؟" وكذلك روى لنا هايني ان هيغل رأى أمام احدى الكنائس احد الباعة الذين يبيعون الميداليات المقدسة فاستشاط غضباً لهذا المنظر وراح يقول :"انظر الى ديانتكم ، والى المناظر التي تقدمونها لنا ، لكم اود ان ارى قبل موتي اختفاء كل هذه الترهات" ، وقد كانت شهرته سبباً في تكاثر أعدائه وتزايد الحملات عليه ، وكان شوبنهور في مقدمة الذين سخروا من فلسفة هيغل واعتبرها مضيعة للوقت ، لكنه لم يهتم وواصل عمله ، إلا ان أصابته بمرض الكوليرا لم تمهله طويلا ، فمات في الرابع عشر من تشرين الثاني عام 1831 ولم يكن احد ينتظر لم مثل هذه الميته ، فكانت وفاته حدثاً اهتزت له الأوساط العلمية وقد بذل طلبته وزملائه جهودا لاقامة تشييع يليق بمعلمهم ، وقد رافقوا جنازته بمشاعل في ايديهم تحية للمفكر الكبير ، بعدها قام طلبته بنشر مخطوطاته التي تركها وكانت عبارة عن محاضرات القاها في الجامعة ، فيما انقسم طلبته فيما بعد ليشكلوا جناحين ، جناح يميني حاول ان يطبع الفلسفة الهيغيلية بطابع لاهوتي ، وجناح يساري حاول ان يطور افكار المعلم وكان على رأس هذا الجناح فيورباخ وكارل ماركس.
************
ينظر الى فلسفة هيغل على انها القمة التي بلغها تطور المثالية الألمانية ، فمن غير هيغل يستحيل تصور ماركس ، وعلى ذلك فمن الصعب بدونه تخيل الخلافات الايديولوجية السائدة في عصرنا الحالي ، لكن هيغل كانت له آثار اخرى عديدة اثرت في الفكر الحديث ، وهي آثار لاتقتصر على الفلسفة بل تشمل النظريات الاجتماعية والتاريخ والقانون . وحتى في الفيزياء كانت لهيغل مساهمات جادة ، وتختلف الآراء حول فلسفته ، فالبعض ينظر اليه كما ينظر الى ارسطو على انه هو الفيلسوف الذي اتى بمذهب رحب يضم في داخله كل الفلسفات السابقة ، والبعض الآخر يعده الخطأ الأكبر في الفكر البشري ، وليس في هيجل الانسان اي جانب طريف ، اذ يبدو ان الهدف الوحيد لحياته كان القيام بدور كاتم سر "المطلق" ، لقد وصف هيغل فلسفته بانها :"محاولة لجعل الفلسفة تنطق بالالمانية" .
يكتب هربرت ماركيوز في كتابه " العقل والثورة ..هيغل ونشوء النظرية الاجتماعية " : " في عام 1793 كتب هيغل الى شيلنغ : العقل والحرية يظلان مبادئنا فاذا تناسج العقل والحرية مع الجدل امكننا ان نتبين التوليفة الهيغلية الفريدة التي تنعكس في اي موضوع تناوله سواء كان في التاريخ او المنطق او الدين او الفلسفة اوالفن " ، لقد كان هيغل الذي جعل من القراءة صلاة يومية مشبعا باحلام الثورة الفرنسية التي رفعت شعار الحرية ، غير انه كان يرفض العنصر الغوغائي فيها واستسلامها لببغائية الجماهير ، لكنه و كما يخبرنا جورج لوكاش يكن احتراما اعمق للجماهير التي يقودها العقل ولا تندفع بحسها التلقائي الذي قد ينجح احيانا ، لكنه يفضي الى كوارث احيانا اخرى ، الا انه كان من اعدى اعداء الاستلام للراي العام ، ونراه يكتب في مقدمة كتابة " في الحقوق " :" ان تكون مستقلا عن الراي العام ، هو الشرط الصوري الاول لانجاز اي شئ عظيم او عقلاني سواء في الحياة ام في العلم "
لقد كان هيغل دائما ضد الفجاجة في النفس البشرية ، ولهذا فانه يرفض القول بان الانسان حر بالطبيعة ، وانما الانسان بقوته الذاتية ، يمارس حريته ، فالحرية عند هيغل هي فعل ممارسة الحرية ، انها فعالية الانسان.
اذن لامجال هنا للقول بان هيغل مجرد فيلسوف مثالي يتحدث في المطلق ، لانه لايريد من الانسان ان يمارس حريته من دون ارادة ، فهو يذهب الى ان الانسان اذا ما عرف المعنى الحقيقي للحرية ، فانه بالضرورة سيختار المشاركة في تقدم المجتمع والفرد والبشرية بارادته الحرة ، ان هيغل مهتم اساسا بكيف يختار الفرد بحرية ان يسير مع حركة التاريخ ، وكيف تتحدد حريته ، بالحتمية الاريخية ، فما هي وسيلته لتحقيق هذا الامر ، ان وسيلة هيغل الاساسية هي اعتناق المنهج الجدلي ، حتى يتحرر الفرد من ربقة الواقع الذي قد تحتمه الظروف ولا يتماشى مع حركة التاريخ ، ان تريد الحرية ذاتها ، يعني انها تريد قانونها ، وقانونها هو الحق ، وليس الحق الفردي ، بل الحق المتمشي مع منطق العقل ، ومنطق العقل هو منطق التاريخ ، منطق الحتمية التاريخية ، غير ان هذه الحتمية التاريخية ليست آلية والاكانت هناك خيانة للجدل ، بل هي حتمية بمعنى ، ان الذي يصنع حتميتها ، هو الوعي الحر للافراد والشعوب التي تختار بارادتها القانون ، لا ليكون خانقا ، بل ليصبح مساعدا اياها على مزيد من التنفس
************
العام 1841 ، تستقبل باريس الشاب ماركس الذي جاء اليها ليجرِّب حظه في الصحافة ، يصادف شاباً اصغر منه بعامين ، يرتبطان منذ اللحظة الاولى بصداقة تنتج عشرات المؤلفات انه فريدريك انجلز ، في تلك السنة يقرأ ماركس كتاب هيغل الشهير " في الحقوق " ، فينشر ردا بعنوان " نقد فلسفة هيغل في الحقوق " حيث يقترح قلب الجدل الهيغلي لوضعه على قدميه أي الانطلاق ليس من النظريات ، وانما من ظروف الحياة الواقعية ويصوغ لاول مرة فكرة ان الوظيفة التاريخية للبروليتاريا هي قلب الرأسمالية ويكرر على خلاف هيغل ان الدولة ليست هي التي تُسيِّر التاريخ ، بل التاريخ هو الذي يُشكل الدولة ، وان الانسان لا يتمكن من التحرر الا بأفعاله وليس بنزوة مُحسن او بارادة دكتاتور متنور إذ لا يمكن للثورة ان تأتي إلا من خلال طبقة اجتماعية محررة بامتياز.
ادرك سينيكا ،المولود عام خمسة للميلاد، ان واجب الفلسفة هو السعي لاكتساب الفضيلة ، فاذا كانت الفلسفة ضرورية فهي لابد من السعي اليها وفي ذهننا الغاية العملية. وعلى الرغم من ان سينيكا ينتسب من الناحية النظرية الى الفلسفة الرواقية ومذهبها الحتمي ، فإنه يؤكد ان لكل انسان بوصفه موجوداً عاقلاً ، القدرة على ان يسير في طريق المعرفة لو انه فقط اراد ان يفعل ذلك.
خلال حياته، كان سينيكا قد شهد وواجه كوارث هائلة ومآسيَ شخصية ، كان يهيئ نفسه كي يعمل في السياسة ، لكنه في اوائل حياته اصيب بالسل ، حيث بقى طريح الفراش ، ما أدى الى تفرغه للقراءة واطلاعه على كتب ارسطو فنراه يكتب "ادين بحياتي للفلسفة".
كان سينيكا قد رفع لواء العقل، فنراه يكتب لأحد اصدقائه طلب منه نصيحة لمواجهة مشكلة كبيرة : حالما نتعامل بعقلانية مع ما سيحدث ، حتى لو لم تتحقق رغباتنا ، سندرك على نحو كبير ان المشكلات الضمنية اصغر من حالات القلق التي تولدها". ويرى سينيكا ان الوصول الى الحكمة ، هو ألا نحاول أن نصعب الأوضاع السلبية عن طريق ردود فعل من الغضب والاشفاق علي الذات والمرارة والقلق ، وان نحاول تنمية قدرة العقل في كشف الواقع ، ويري سينيكا أن في استطاعة الانسان أن يشعر بالسعادة حين يتمكن استخدام عقله في الوقت المناسب .
يقول هيغل إن سينيكا : " صاحب أعمق وأوسع تأثير على عقلية عصرنا بصفة عامة، وعلى شكل ومضمون الفلسفة . إذ لم يلقَ أي كاتب روماني أو حتى إغريقي تقديراً كالذي لاقاه سينيكا ".
************
يكتب سينيكا :"ان معرفتنا للأروع ، العقل والخير والفضيلة تبدأ من المعرفة التي تعطينا اياها العينان ، التمييز بين ما نراه ليلا ونهارا ، قد هدانا ، إلى معرفة الزمن وهذه الصبوة اوصلتنا الفلسفة ، ولم يحظ الناس بنعمة اكبر من نعمة العقل هذه". ونرى الشاب الالماني جورج فيلهلم هيغل يكتب عام 1790 ، وكان عمره عشرين عاما : " ما الذي كان القدماء يفهمونه من كلمة فلسفة ، فقد أتى على الناس زمن يسمون فيه الشخص الذي لايؤمن بوجود الأشباح والشياطين فيلسوفاً ، وكان الإغريق يخلطون الفلسفة بما فوق الإدراك الحسي والذي نسميه اليوم الوعي الديني . ويضيف هيغل في دفاتر الشباب :"ان اجتياز العقبات للوصول الى الحقيقة بأقصر الطرق غير ممكن إلا بعد استيعاب كل ما وعاه عقل القدماء خلال آلاف السنين ، اذا نحن لم نجتز الطرق التي سار عليها القدماء ، حكماً على انفسنا بالتيهان في المجاهل " .
ولد جورج فيلهلم هيغل في مدينة ستيغارت الألمانية عام 1770 ، لعائلة فقيرة ، فقد أمه التي كان يحبها كثيرا في الحادية عشرة. وقتل أخوه في الحرب، وجنّت أخته التي كان متعلقاً بها كثيرا، كان الوالد موظف بسيط ، والأم ربة بيت لاتعرف القراءة والكتابة ، ولم يبلغ عامه التاسع عشر حتى اندلعت الثورة الفرنسية التي اطلق هو عليها فيما بعد "الفجر الجديد" . عاش هيغل في العصر الذهبي للأدب الألماني ، وبالرغم من كونه اصغر من غوته بعشرين عاما ، ومن شيلر بعشرة اعوام ، فقد استطاع ان يتقرب من حلقتهم الضيقة ويصبح احد مريدي غوته، وهناك يرتبط بعلاقة صداقة مع شاعر المانيا الكبير هولدرلين.
كان هيغل اكبر إخوانه حظوة عند أبيه وذلك لأنه كان يرى فيه الذكاء المفرط ، كان الوالد يريد ان يجعل من ابنه كاهناً ، وقد سجله في الفصل الأكاديمي بجامعة "توينجن" لدراسة اللاهوت ، وهناك تعرف على شيلينغ الذي سيصبح اقرب اصدقائه وكان يصغره بخمسة أعوام ، إلا أن دراسة اللاهوت لم تستهوه فقرر الانصراف لقراءة مؤلفات افلاطون وسنيكا ومونتسكيو، ثم وجه اهتمامه الى جان جاك روسو وكان كتاب "العقد الاجتماعي" بمثابة كلمة السر التي تراءت لهيغل الشاب من اجل قيام فلسفة ثقافية حديثة الأسلوب ، وقد دفعته آراء روسو الى ان يشكل نادياً للسياسة كانت تناقش فيه الثورة الفرنسية ، الأمر الذي دفع السلطات الألمانية الى مطاردة اعضاء النادي ، فقرر هيغل الهرب الى مدينة برن ، وهناك استطاع ان يجد وظيفة في احد بيوت الأثرياء ، بعد ان توسط هولدرلين في تعيينه ، وفي تلك الفترة عكف على دراسة مؤلفات هيوم وميكافيللي و لايبنتز وسبينوزا ، كما قام بدراسة مؤلفات كانط . في تلك الفترة نلاحظ اتجاه هيغل نحو فصل الدين عن الدولة ، وفي رسالة الى هولدرلين عام 1795 يكتب :" لاسيبل الى هز صرح الكنيسة الارثوذكسية ، طالما ان مهامها ترتبط بمصالح دنيوية ، وتتداخل في بناء الدولة ، وطالما ان الكنيسة مصرّة على ان تجعلنا نضع ايدينا في جحورنا ونتكاسل في انتظار ان تاتي مملكة الله ، العقل والحرية سيظلان كلمة السر التي بيننا ونقطة اتحادنا ، هي الكنيسة غير المرئية ."
كان هيغل سعيدا بعمله الجديد ، وقد عدّه خطوة نحو الأمام ، نحو العالم الرحب الكبير ، ونحو عالم السياسة ايضا :"سوف اعود ، كي اصبح مساويا للعالم اكثر بعض الشيء مما كنت". كانت هذه رسالة بعث بها الى شقيقته ، وفي تلك الفترة يكتب مقالات يُعلق فيها على خطب البرلمانيين التي كانت تناقش الضرائب على الفقراء واصلاح قانون الأراضي . بعد وفاة والده عام 1799 يتخلى هيغل عن وظيفة المعلم الخاص ، ليلتحق بصديقه شيلينغ في جامعة ينا ، وكان شيلر وفيخته هناك ايضا ، كان شيلنغ قد حقق شهرة ومكانة سمحتا له بالتوسط لتعيين صديقه هيغل مدرساً في الجامعة براتب متواضع ، وفي تلك الفترة يؤسس مع شيلنغ مجلة للفلسفة ينشر فيها الفصول الاولى من كتابه "علم ظهور العقل " ، في تلك الفترة احتل الفرنسيون مدينة ينا فأغلقت الجامعة ما اضطر هيغل ، لأن يعمل صحفياً بالقطعة ، ثم قبل وظيفة مدير مدرسة ثانوية .
في عام 1801 يقدم رسالته للدكتوراه وفيها يخالف آراء نيوتن ، ويعود للجامعة ليصبح عام 1805 استاذاً فوق العادة ، إلا أن الحرب التي لم تنته بددت آماله بحياة مستقرة ، فسُرق منزله ، ولم ينجح سوى في انقاذ واحد من ممتلكاته وهو الأكثر قيمة لديه: مخطوط فينو مينو لوجيا الروح "ظاهريات الروح" الذي كان يحتفظ به في جيب معطفه اثناء حريق المدينة واضطر لطلب مساعدة غوته . عام 1806 استطاع ان يقنع احد الناشرين بطبع كتابه الذي لم يجد اقبالاً من القراء حيث وجدوا صعوبه في حل ألغازة ، ونراه يخبر صديقه شلينغ في لهجة المتذمر : " لم يفهمني إلا واحد ، وحتى هذا أساء فهمي" ، لكن رغم المصاعب إلا أن هيغل كان يرى ان العالم يتحضر لمعركة كبيرة سينتصر فيها الانسان ، انسان الأزمنة الحديثة الذي شاهده يسير فوق حصانه ، لقد حمل نابليون او روح العالم الى المانيا بعض المكتسبات السياسية والاجتماعية للثورة الفرنسية : "شاهدت القيصر، تلك النفس العالية ، ممتطيا جواده ، انه لفي الواقع احساس رائع ذلك الذي يغمر المرء حين يرى هذا الفرد مركزاً في نقطة جالساً على جواد."
بلغ هيغل الأربعين من عمره ولم يتزوج ، ونراه عام 1811 يكتب الى صديقه نيتهامر يزف اليه نبأ خطوبته : "اعلم انك تود لي السعادة من كل قلبك .. اسمها ماري فون توخر " ، كانت ماري اصغر منه باثنين وعشرين عاما ، وقد أراحه الزواج وساعده على زياده انتاجه الفلسفي ، فقدم بعد عام كتابه الأشهر "علم المنطق"، وقد تميز هذا الكتاب عن سائر انتاج هيغل حتى ان مؤلفه دعاه "افكار الله قبل الخلق" ، كان هيغل آنذاك قد صار علماً شهيراً في سماء الفلسفة عندما طلبت اليه جامعة هايدلبرغ ان يقبل فيها منصب الأستاذية ، حيث امضى في هذه الجامعة عامين قبل ان يقدم له وزير التربية البروسي منصب استاذ الفلسفة في برلين ، كان يتمنى منذ زمن طويل الاستقرار في مركز الحياة الثقافية والسياسية في المانيا ، وقد وفرت له جامعة برلين حقلاً واسعاً للكشف والدراسة ، واستطاع امام جمهور مختار من الطلبة ان يقدم محاضراته الشهيرة حول فلسفة الدين والجماليات وفلسفة التاريخ ونشر عام 1821 كتابه "مبادئ فلسفة الحق."
غير انه أثار منذ وصوله برلين ، حفيظة الأوساط المحافظة التي اتهمته بانه يغلف أفكاره السياسية الإصلاحية بتعابير فلسفية غامضة، وقد اغضب السلطات بمحاضراته واعماله ، مما ادى الى ان تتم مراقبته من قبل الشرطة ، ولم يقتصر خصومه على اتهامه بوحدة الوجود وانكار خلود النفس ، وانما كانوا يهزأون من كل تفكيره الديني ، وقد روى لنا الشاعر هايني الذي كان تلميذا لهيغل انه كان يتحدث يوميا مع استاذه عن الثواب والعقاب في الحياة الآخرة ، فما كان من هيغل سوى ان يبادره بالقول :" أتريد ان تحصل على مكافأة لأنك اعتنيت يوماً بوالدتك المريضة ، او لانك لم تدس السم في يوم من الأيام في طعام أخيك ؟" وكذلك روى لنا هايني ان هيغل رأى أمام احدى الكنائس احد الباعة الذين يبيعون الميداليات المقدسة فاستشاط غضباً لهذا المنظر وراح يقول :"انظر الى ديانتكم ، والى المناظر التي تقدمونها لنا ، لكم اود ان ارى قبل موتي اختفاء كل هذه الترهات" ، وقد كانت شهرته سبباً في تكاثر أعدائه وتزايد الحملات عليه ، وكان شوبنهور في مقدمة الذين سخروا من فلسفة هيغل واعتبرها مضيعة للوقت ، لكنه لم يهتم وواصل عمله ، إلا ان أصابته بمرض الكوليرا لم تمهله طويلا ، فمات في الرابع عشر من تشرين الثاني عام 1831 ولم يكن احد ينتظر لم مثل هذه الميته ، فكانت وفاته حدثاً اهتزت له الأوساط العلمية وقد بذل طلبته وزملائه جهودا لاقامة تشييع يليق بمعلمهم ، وقد رافقوا جنازته بمشاعل في ايديهم تحية للمفكر الكبير ، بعدها قام طلبته بنشر مخطوطاته التي تركها وكانت عبارة عن محاضرات القاها في الجامعة ، فيما انقسم طلبته فيما بعد ليشكلوا جناحين ، جناح يميني حاول ان يطبع الفلسفة الهيغيلية بطابع لاهوتي ، وجناح يساري حاول ان يطور افكار المعلم وكان على رأس هذا الجناح فيورباخ وكارل ماركس.
************
ينظر الى فلسفة هيغل على انها القمة التي بلغها تطور المثالية الألمانية ، فمن غير هيغل يستحيل تصور ماركس ، وعلى ذلك فمن الصعب بدونه تخيل الخلافات الايديولوجية السائدة في عصرنا الحالي ، لكن هيغل كانت له آثار اخرى عديدة اثرت في الفكر الحديث ، وهي آثار لاتقتصر على الفلسفة بل تشمل النظريات الاجتماعية والتاريخ والقانون . وحتى في الفيزياء كانت لهيغل مساهمات جادة ، وتختلف الآراء حول فلسفته ، فالبعض ينظر اليه كما ينظر الى ارسطو على انه هو الفيلسوف الذي اتى بمذهب رحب يضم في داخله كل الفلسفات السابقة ، والبعض الآخر يعده الخطأ الأكبر في الفكر البشري ، وليس في هيجل الانسان اي جانب طريف ، اذ يبدو ان الهدف الوحيد لحياته كان القيام بدور كاتم سر "المطلق" ، لقد وصف هيغل فلسفته بانها :"محاولة لجعل الفلسفة تنطق بالالمانية" .
يكتب هربرت ماركيوز في كتابه " العقل والثورة ..هيغل ونشوء النظرية الاجتماعية " : " في عام 1793 كتب هيغل الى شيلنغ : العقل والحرية يظلان مبادئنا فاذا تناسج العقل والحرية مع الجدل امكننا ان نتبين التوليفة الهيغلية الفريدة التي تنعكس في اي موضوع تناوله سواء كان في التاريخ او المنطق او الدين او الفلسفة اوالفن " ، لقد كان هيغل الذي جعل من القراءة صلاة يومية مشبعا باحلام الثورة الفرنسية التي رفعت شعار الحرية ، غير انه كان يرفض العنصر الغوغائي فيها واستسلامها لببغائية الجماهير ، لكنه و كما يخبرنا جورج لوكاش يكن احتراما اعمق للجماهير التي يقودها العقل ولا تندفع بحسها التلقائي الذي قد ينجح احيانا ، لكنه يفضي الى كوارث احيانا اخرى ، الا انه كان من اعدى اعداء الاستلام للراي العام ، ونراه يكتب في مقدمة كتابة " في الحقوق " :" ان تكون مستقلا عن الراي العام ، هو الشرط الصوري الاول لانجاز اي شئ عظيم او عقلاني سواء في الحياة ام في العلم "
لقد كان هيغل دائما ضد الفجاجة في النفس البشرية ، ولهذا فانه يرفض القول بان الانسان حر بالطبيعة ، وانما الانسان بقوته الذاتية ، يمارس حريته ، فالحرية عند هيغل هي فعل ممارسة الحرية ، انها فعالية الانسان.
اذن لامجال هنا للقول بان هيغل مجرد فيلسوف مثالي يتحدث في المطلق ، لانه لايريد من الانسان ان يمارس حريته من دون ارادة ، فهو يذهب الى ان الانسان اذا ما عرف المعنى الحقيقي للحرية ، فانه بالضرورة سيختار المشاركة في تقدم المجتمع والفرد والبشرية بارادته الحرة ، ان هيغل مهتم اساسا بكيف يختار الفرد بحرية ان يسير مع حركة التاريخ ، وكيف تتحدد حريته ، بالحتمية الاريخية ، فما هي وسيلته لتحقيق هذا الامر ، ان وسيلة هيغل الاساسية هي اعتناق المنهج الجدلي ، حتى يتحرر الفرد من ربقة الواقع الذي قد تحتمه الظروف ولا يتماشى مع حركة التاريخ ، ان تريد الحرية ذاتها ، يعني انها تريد قانونها ، وقانونها هو الحق ، وليس الحق الفردي ، بل الحق المتمشي مع منطق العقل ، ومنطق العقل هو منطق التاريخ ، منطق الحتمية التاريخية ، غير ان هذه الحتمية التاريخية ليست آلية والاكانت هناك خيانة للجدل ، بل هي حتمية بمعنى ، ان الذي يصنع حتميتها ، هو الوعي الحر للافراد والشعوب التي تختار بارادتها القانون ، لا ليكون خانقا ، بل ليصبح مساعدا اياها على مزيد من التنفس
************
العام 1841 ، تستقبل باريس الشاب ماركس الذي جاء اليها ليجرِّب حظه في الصحافة ، يصادف شاباً اصغر منه بعامين ، يرتبطان منذ اللحظة الاولى بصداقة تنتج عشرات المؤلفات انه فريدريك انجلز ، في تلك السنة يقرأ ماركس كتاب هيغل الشهير " في الحقوق " ، فينشر ردا بعنوان " نقد فلسفة هيغل في الحقوق " حيث يقترح قلب الجدل الهيغلي لوضعه على قدميه أي الانطلاق ليس من النظريات ، وانما من ظروف الحياة الواقعية ويصوغ لاول مرة فكرة ان الوظيفة التاريخية للبروليتاريا هي قلب الرأسمالية ويكرر على خلاف هيغل ان الدولة ليست هي التي تُسيِّر التاريخ ، بل التاريخ هو الذي يُشكل الدولة ، وان الانسان لا يتمكن من التحرر الا بأفعاله وليس بنزوة مُحسن او بارادة دكتاتور متنور إذ لا يمكن للثورة ان تأتي إلا من خلال طبقة اجتماعية محررة بامتياز.