"إن جل ما نفعله كل صباح هو أن نتجاهل الحقيقة لكي نمضي نحو اليوم التالي"
هذا ملخص لمسرح بيكيت، فقد يبدو أن مسرح العبث ينطلق من الوجودية السارترية لأن سارتر وكامو وغيرهم تأثروا بتلك الفلسفة، لكن الفارق بين الفلسفة الوجودية ومسرح العبث البيكتي هي أن هذا الاخير لم يهتم ببعض المبادئ الوجودية، بل ربما قوضها ووقف ضدها، مثل المبدأ المتفائل بأن الإنسان يتعرف على ماهيته او يختارها بعد وجوده. إن مسرح العبث وخاصة صمويل بيكيت يسخر من ذلك تماماً، كما في مسرحية الأيام السعيدة على وجه التحديد ومسرحيات أقل منها كدخول وخروج ولعبة النهاية..الخ، حيث يبدو أن الإنسان غير قادر على صناعة ماهيته بل تتجاور الماهية إلى الوجود في تزمُّن مستمر. كانت هذه المفارقة هي التي أبحث عنها حينما اقرأ عن الوجودية واقرا في مسرح العبث. لذلك أرى أن مسرح بيكيت وربما آدموف ايضاً هو مسرح عدمي لا عبثي فقط. وهو مسرح حتمي، لا تلعب فيه الإرادة أي دور. بل تظل سطوة الإنوجاد في مظاهره المتعدد تحت اشتراطات إذعانية كامنة فيه.. فالماهية لا تلعب أي دور لأنها كامنة في الإنوجاد نفسه. بلا اي اختيار.. ليس هذا فحسب، بل أن الشخصيات نفسها ممسوخة تفتقر لأي ماهية، ولا يمكننا أن نتفاءل تجاه تطورها البتة. وتعم القذارة في كل شيء.. القذارة الوجودية، التي تعني الافتقار إلى المعنى والجدوى.
صوت المرأة الناحبة:
كنت أجلس في الحافلة، وأمامي امرأة شابة وامها الطاعنة في السن، لم أكن أرى وجهيهما، ولكنني كنت أسمع صوت المرأة الشابة وهو صوت كعواء الذئب، صوت من يراقب شخصاً يموت، كانت تسأل أمها كل بضع دقائق عن صحتها. كانت تسألها بصوت خائف يجعل الملائكة نفسها تموت. لقد أرعبت كل الجالسين. لكن ذلك الصوت ذكرني بمسرحيات بيكيت، وكان هناك فارق واضح، وهو ان بيكيت لم يكن قاسياً بل قاسياً وفردانياً أيضاً. كان كلاهما -أي صوت الفتاة ومسرحيات بيكيت- يعبران عن الجزع من وجود مؤقت، غير أن صوت المرأة كان يستصحب ماهية تاريخية، يفتقر إليها بيكيت. كانت هنا "وصلة" زمنية روحية بين الماضي (الأم الطاعنة)، والحاضر (الشابة)، بما يعبر عن (حدث ما في الزمان) له تشبعه العاطفي، وهذا منعدم في مسرح بيكيت، حتى عندما تتحدث "ويني" بطلة مسرحية الأيام السعيدة بصيغ الماضي فلا يبدو أنها تملك تشبعاً تاريخياً يجعلها قابضة على الراهن. وهنا يحطم بيكيت تلك (الوصلة) تماماً عبر التكرار والدفن، التكرار والدفن. وهكذا فهو ينفي أي قدرة على رسم الإنسان لماهيته ساخراً من فلسفة سارتر. وهذا تقويض يجب أن ننظر له بعين الاعتبار، لأنه يفضي بنا إلى الحتمية determinism . لكنها حتمية اللا معنى، أي أنها حتمية في نظام الفوضى المستقر بسبب القصور الذاتي. فهي - إذاً- حتمية سطوع الحقيقة التي لا نستطيع إلا أن نحاول منع أنفسنا من تذكرها كي نتمكن من المضي نحو اليوم التالي، أي نحو التكرار والدفن، التكرار والدفن، وهكذا. إلى جانب ويني، هناك ويلي، وهو كسائر الشخصيات في مسرحيات بيكيت، تتحرك خارج الإطار، أي إطار الذات. إن كل من نعرفهم هم أصحاب حضور ثانوي، أو.. أن مصيرهم أن يكونوا كذلك. وعليه فإن بكيت يقهر نحيب المرأة الشابة، لأنه نحيب لا يقف على أساس صلب، وهو الاعتراف بالحقيقة. ما الذي يعنيه كل ذلك؟ يعني أن بيكيت اقتحم الفلسفة، اقتحم فلسفة الأنا والآخر، وقوضها، لأنه لا يعترف بالآخر، بل يجعله عالق فضولي مؤقت العبور في مسرى زمن الأنا؛ فما الحوجة إلى النحيب. يمكننا إذاً أن نقول بأن مسرح بيكيت ليس عبثياً بل مسرح عدمي ومسرح قسوة ولكن قسوة من نوع مختلف. إنها قسوة كشف الحقيقة باستمرار، وبدون أي تفاؤل محتمل.
هذا ملخص لمسرح بيكيت، فقد يبدو أن مسرح العبث ينطلق من الوجودية السارترية لأن سارتر وكامو وغيرهم تأثروا بتلك الفلسفة، لكن الفارق بين الفلسفة الوجودية ومسرح العبث البيكتي هي أن هذا الاخير لم يهتم ببعض المبادئ الوجودية، بل ربما قوضها ووقف ضدها، مثل المبدأ المتفائل بأن الإنسان يتعرف على ماهيته او يختارها بعد وجوده. إن مسرح العبث وخاصة صمويل بيكيت يسخر من ذلك تماماً، كما في مسرحية الأيام السعيدة على وجه التحديد ومسرحيات أقل منها كدخول وخروج ولعبة النهاية..الخ، حيث يبدو أن الإنسان غير قادر على صناعة ماهيته بل تتجاور الماهية إلى الوجود في تزمُّن مستمر. كانت هذه المفارقة هي التي أبحث عنها حينما اقرأ عن الوجودية واقرا في مسرح العبث. لذلك أرى أن مسرح بيكيت وربما آدموف ايضاً هو مسرح عدمي لا عبثي فقط. وهو مسرح حتمي، لا تلعب فيه الإرادة أي دور. بل تظل سطوة الإنوجاد في مظاهره المتعدد تحت اشتراطات إذعانية كامنة فيه.. فالماهية لا تلعب أي دور لأنها كامنة في الإنوجاد نفسه. بلا اي اختيار.. ليس هذا فحسب، بل أن الشخصيات نفسها ممسوخة تفتقر لأي ماهية، ولا يمكننا أن نتفاءل تجاه تطورها البتة. وتعم القذارة في كل شيء.. القذارة الوجودية، التي تعني الافتقار إلى المعنى والجدوى.
صوت المرأة الناحبة:
كنت أجلس في الحافلة، وأمامي امرأة شابة وامها الطاعنة في السن، لم أكن أرى وجهيهما، ولكنني كنت أسمع صوت المرأة الشابة وهو صوت كعواء الذئب، صوت من يراقب شخصاً يموت، كانت تسأل أمها كل بضع دقائق عن صحتها. كانت تسألها بصوت خائف يجعل الملائكة نفسها تموت. لقد أرعبت كل الجالسين. لكن ذلك الصوت ذكرني بمسرحيات بيكيت، وكان هناك فارق واضح، وهو ان بيكيت لم يكن قاسياً بل قاسياً وفردانياً أيضاً. كان كلاهما -أي صوت الفتاة ومسرحيات بيكيت- يعبران عن الجزع من وجود مؤقت، غير أن صوت المرأة كان يستصحب ماهية تاريخية، يفتقر إليها بيكيت. كانت هنا "وصلة" زمنية روحية بين الماضي (الأم الطاعنة)، والحاضر (الشابة)، بما يعبر عن (حدث ما في الزمان) له تشبعه العاطفي، وهذا منعدم في مسرح بيكيت، حتى عندما تتحدث "ويني" بطلة مسرحية الأيام السعيدة بصيغ الماضي فلا يبدو أنها تملك تشبعاً تاريخياً يجعلها قابضة على الراهن. وهنا يحطم بيكيت تلك (الوصلة) تماماً عبر التكرار والدفن، التكرار والدفن. وهكذا فهو ينفي أي قدرة على رسم الإنسان لماهيته ساخراً من فلسفة سارتر. وهذا تقويض يجب أن ننظر له بعين الاعتبار، لأنه يفضي بنا إلى الحتمية determinism . لكنها حتمية اللا معنى، أي أنها حتمية في نظام الفوضى المستقر بسبب القصور الذاتي. فهي - إذاً- حتمية سطوع الحقيقة التي لا نستطيع إلا أن نحاول منع أنفسنا من تذكرها كي نتمكن من المضي نحو اليوم التالي، أي نحو التكرار والدفن، التكرار والدفن، وهكذا. إلى جانب ويني، هناك ويلي، وهو كسائر الشخصيات في مسرحيات بيكيت، تتحرك خارج الإطار، أي إطار الذات. إن كل من نعرفهم هم أصحاب حضور ثانوي، أو.. أن مصيرهم أن يكونوا كذلك. وعليه فإن بكيت يقهر نحيب المرأة الشابة، لأنه نحيب لا يقف على أساس صلب، وهو الاعتراف بالحقيقة. ما الذي يعنيه كل ذلك؟ يعني أن بيكيت اقتحم الفلسفة، اقتحم فلسفة الأنا والآخر، وقوضها، لأنه لا يعترف بالآخر، بل يجعله عالق فضولي مؤقت العبور في مسرى زمن الأنا؛ فما الحوجة إلى النحيب. يمكننا إذاً أن نقول بأن مسرح بيكيت ليس عبثياً بل مسرح عدمي ومسرح قسوة ولكن قسوة من نوع مختلف. إنها قسوة كشف الحقيقة باستمرار، وبدون أي تفاؤل محتمل.