ماذا أراد (همينغواي ) أن يقول عبر قصته الشهيرة (قطة تحت المطر) ؟
ربما قد يتطلب الأمر إراقة مداد كثير علي سطح الورق وبذل جهدٍ مضنٍ دون أن نتمكن من العثور علي إجابة شافية، فنصوص صاحب (العجوز والبحر) و(لمن تقرع الأجراس) وغيرهما من الأعمال الخالدة في تاريخ الأدب العالمي،كما نعلم،ماتزال منفتحة علي قراءات متنوعة وتأويلات مختلفة يأخذ بعضها برقاب البعض وتتداخل هذه القراءات في مابينها مثل دغل مليء بالأشجار المتشابكة ولذلك فإن النظرة العجلي غير المتأنية سوف تحجب عنا الكثير ولن تمكنا من سبر أغوار هذه العوالم السردية الساحرة. دفع الكاتب الكبير بقصته الموسومة قطة تحت المطر Cat in the Rain للنشر في أعقاب الحرب العالمية الأولي بنحو سبع سنوات حيث أنها ظهرت في العام 1925 إلي جانب أعمال آخري لاتقل روعةً وثراءاً وذلك ضمن إصدارة حملت عنوان (في وقتنا ) In our times وقد عد بعض النقاد أنذآك ومن بينهم الشاعر والناقد الكبير (عزرا بآوند) أحد أصدقاء همنغواي،هذه القصة علي وجه التحديد فتحا كبيرا في عالم الأدب السردي.ويذكر(همنغواي) نفسه بهذه المناسبة أنه كان قد كتب هذا النص شديد الجزالة تحت تأثير معاناة زوجته(هادلي) والتي كانت قد وقعت خلال سني زواجهما الأولي تحت وطأة الشعور بالحرمان من الأمومة حيث مكثت زمناً طويلا وهي لاتنجب حتي أضحت فريسة للوحشة والعزلة وقد نظر كثير من النقاد إلي النص من زوايا متعددة ولكن القراءة التي إستحوذت علي قدرٍ كبيرٍ من الاهتمام هي تلك القراءة التي ركزت علي وجهة نظر المدرسة النسوية Feminism حيث نشأ في إعتقاد أنصار هذه المدرسة النقدية أن همنغواي قد أراد بالفعل من خلال هذه القصة البديعة أن يعالج موضوعا يتصل بالدرجة الأولي بأسئلة الفمينيزم الجوهرية.تدور أحداث (قطة تحت المطر) في فندق صغير بإيطاليا حيث يقضي زوجان أميركيان عطلتهما الصيفية هناك و يحمل الزوج في القصة إسم (جورج) أما الزوجة فلا إسم لها رغم أنها تمثل الشخصية المحورية ويبدأ الكاتب قصته بوصف مطول للإطار السردي حيث يضعنا أمام لوحة دقيقة التكوين لملامح الزمان والمكان والبيئة الخارجية قبل أن يأخذنا إلي داخل غرفة صغيرة بأحد الفنادق حيث نري الزوج (جورج) منهمكاً في مطالعة كتاب وهو منصرف تماماً عن زوجته، لايبدي تجاهها الإهتمام اللائق ولايحفل بالحديث معها ولايكترث لمحاولاتها المتكررة في جذب انتباهه وهكذا وبينما ينخرط الزوج بكلياته في القراءة ،تبحث الزوجة عن شيء بإمكانه أن يبدد الملل والوحشة، فنراها تقف خلف زجاج النافذة وهي تبحلق في الشارع بينما المطر ينهمر بغزارة وفجأةً تلمحُ قطةً صغيرة ترتعش وهي تحاول أن تلوذ بمكانٍ يقيها وابل المطر ويثير منظر هذه القطة المسكينة في نفس الزوجة مشاعر الأسي والضياع والحاجة إلي الامان وتتحرك في دواخلها نزعة قوية لإنقاذ القطة وتتحدث إلي بعلها المتجهم الذي مازال علي فراشه يواصل القراءة صامتاً بشأن هذه المسألة، وعندما تتيقن أنه لن يفعل شيئا تندفع نحو الخارج لإنقاذ القطة بنفسها.وحينما عبرت الزوجة الأميركية البهو وقف صاحب الفندق وإنحني يحييها في لطف فشعرت تجاهه بقدر كبير من الإرتياح خصوصا حينما أبدي قلقه من تعرضها لموجة الطقس السيء وقد حاول أن يثني عزمها عن المجازفة بالخروج معرضة نفسها للثلوج والبرد لكنها لم تأبه لهذا الأمر بل ركضت نحو المكان الذي كانت تتواجد فيه القطة فأسرع الرجل خلفها ثم أمر خادمة الفندق أن تتبعها لتبسط فوق رأسها مظلة المطر وتعتني بها،وفي نهاية الأمر لم تفلح الزوجة العنيدة في الإمساك بالقطة التي ظلت تقفز من موضع لآخر حتي إعتلت سطح القرميد وإستقرت هناك.عادت الزوجة إلي غرفتها في الطابق العلوي وهي تشعر بخيبة أمل كبيرة وبعاطفةٍ غريبة تجاه صاحب الفندق المسن الذي كان قد أظهر مودة كبيرة تجاهها وكانت صورة القطة ماتفتأ تسيطر علي كيانها حتي أنها لم تكف لحظة واحدة عن ترديد عبارة واحدة أمام زوجها ( أريد تلك القطة الصغيرة..كم أرغب بهذه القطة ) ،لقد تحولت عاطفتها في تلك اللحظة إلي رغبة عارمة في الاستحواذ علي القطة الشريدة الضائعة ولم يتمالك زوجها الذي كان يقلب صفحات الكتاب أعصابه فصرخ فيها قائلا:( كفي عن هذا أرجوك..تناولي كتاباً وإقرئي) لكن الزوجة لم تلتفت إلي حديثه بل جلست أمام المرآة وهومت ببصرها في فضاءات بعيدة ثم صارت تتحسس شعرها القصير الذي كان مصففاً علي هيئة شعر فتي مراهقٍ وقالت لزوجها: (كم أود أن أجعل شعري يطول ويسترسل علي كتفي..ربما صففته علي هيئة ذيل الحصان، فهل سيعجبك ذلك ياعزيزي؟)ولكن الزوج لايكترث للأمر بل يقول لها في اقتضاب شديد (هكذا أحبه أنا ...) وعندها تثبُ من مقعدها أمام المرآة متضجرةً من ردود أفعاله الباردة لتقف مرةً ثانية خلف النافذة تثرثر قائلة:(أريد تلك القطة ..أريدها حقا.. يجب أن أحصل علي هذه القطة..اذا لم يكن مقدراً لي أن أحصل علي شعر طويل فلأحصل إذن علي قطة جميلة ذات فراء ناعم، أضعها علي حجري كل مساء وأداعبها بأناملي..كم أرغب في أن أجلس لأتناول طعامي علي ضوء الشموع في طقس ربيعي خلاب بينما قطتي الرائعة تتقافز حولي، وأريد أن يكون شعري طويلاً ،كما إنني أود أن أحصل علي ثياب جديدة فاخرة!)ولايكاد (جورج) يرفع بصره عن الكتاب،ولايأبه لهيجان خواطرها المشتعلة وعند تلك الأثناء يسمع الزوجان طرقاً علي باب الغرفة وتدخل عليهما خادمة الفندق حاملةً بين ذراعيها قطةً صغيرة وتنحني أمام السيد جورج قائلة: (لقد كلفني سيدي الباردون بأن أحضر هذه القطة للسنيورة) .وعلي الرغم من أن القصة تحكي علي لسان سارد مادة الحكي الخارجي- أي وفقاً لضمير الشخص الثالث third person omniscient - الا أننا نلحظ أن الزوجة الأميركية وهي الشخصية المركزية المحكي عنها تستأثر بتعاطف القاريء إلي حدٍ بعيد ،بينما لايكاد الزوج(جورج) يظهر إلا باعتباره شخصية ثانوية إصطنعها المؤلف لإلقاء الضوء علي شخصية الزوجة التي تتضجر من إهمال زوجها لها ولرغباتها ومشاعرها.وإن كان هنالك ثمة فرق جوهري بين هاتين الشخصيين فهو يتمثل بلاشك في تلك النزعة الرومانسية التواقة للإنفلات من أسر العالم المادي لدي الزوجة في مقابل التصحر العاطفي الذي يكتنف شخصية (جورج) المتجهم والمنزوي في صمته كما يجب التنويه إلي مسألة آخري تتعلق بالبناء النفسي للشخصيات في هذه القصة وهي التلقائية الشديدة في تصرفات الزوجة وميلها للتعبير عن نفسها بشكل أكثر طلاقة وإن بدت هذه التصرفات طفولية إلي حد بعيد وذلك في مقابل حالة الجمود والإنكماش الوجداني في شخصية الزوج
.أ نصٌ في مناهضة الأيدولوجيا البطرياركية؟
إن ماذكرناه سابقا ليس هو مايعنينا الوقوف عنده ،حيث أننا لانرمي هنا بالدرجة الأولي إلي التعريف بالنص وكاتبه ، وإنما نقصد سبيلاً آخر يتمثل في محاولة الكشف عن بعض جوانب القراءة النسوية بالنسبة للعمل المشار إليه وتلك مهمة وإن إكتنفها شيء من العسر إلا أنها ليست مستحيلة تماماً حيث سبقنا إليها كبار النقاد في تاريخ الأدب العالمي ويجدر بنا بهذه المناسبة أن نذكر أن السرديات الأنجلو- أميركية لم تكن تخلو في معظمها خصوصا في أعقاب الحرب العالمية الثانية من ملامسة قضايا الجندرة والنسوية ودوننا في هذا الشأن نصوص كثيرة لفيرجينا وولف وغيرها من الكتاب. إن هنالك جملة من الصعوبات التفسيرية التي تجعل مسألة استجلاء قصدية المؤلف author intention في أي عمل أدبي هي مسألة شديدة التعقيد وذلك ببساطة لأن العملية الإبداعية نفسها هي عملية ذات أبعاد نفسية مركبة يعتريها الغموض وتتداخل هذه العوامل النفسية مع عوامل آخري اجتماعية وثقافية وينجم عن هذا الكم الهائل من التداخل والإشتباك عالم نفسي كثيف التلاحم ينعكس بالضرورة علي النص الإبداعي ولذلك كله فمن الصعوبة بمكان بالنسبة للقاريء وربما بالنسبة للناقد المحترف أيضاً سبر شخصية المؤلف وإستكناه مقصديته التي أراد أن يعبر عنها في النص بدرجةعالية من الموثوقية.ولكن، وعلي أية حال ومهما يكن الأمر ،فإن هنالك جملةً من الإشارات النصية والإحالات السياقية والمعرفية التي من شأنِها أن تجعل نص همنغواي(قطة تحت المطر) نصاً نسوياًبإمتياز يمكن قراءته وفقاً لقواعد منهج التحليل النسوي،حيث تكاد مواقف هذا النص تجاه مسائل بعينها مثل الجنوسة والجندرة والحياة الجنسية والعائلية تبدو واضحةً للعيان ،فالكاتب الكبير-وكما سبقت الإشارة إلي ذلك سلفاً- يكرس شخصية(الزوجة الأميركية) كشخصية محورية لكنه لايجعلها صوتاً سارداً للأحداث في الوقت نفسه وهذا مما يدل بالطبع علي موضوع تهميش المرأة بصورة عامة وهذه إذن هي إحدي الإشارات. يمكن القول عموماً بأن همنغواي ينطلق في طرح رؤيته النصية حول العلاقات البطرياركية داخل المجتمعات الغربية عبر رحلة عكسية تبدأ بالهامش وصولاً إلي المركز،حيث تشكل المرأة بكافة تجلياتها الاجتماعية والثقافية هامشاً كبيراً بينما يمثل الرجل كنوع اجتماعي وجوداً مركزياً متعالياً يقوم بصياغة المفاهيم والقيم ويضبط حركة الوجود الاجتماعي استناداً إلي مباديء الايدولوجية الذكورية. وبرغم أن همنغواي كمؤلف هو إنسان حقيقي ينتمي لعالم الرجال ،إلا أننا لا نري ثمة ممانعة كبيرة لنصه المشار إليه في الخروج عن أعراف الشكل الموروث للأدب الذكوري والذي تنطلق فيه القراءات من المركز الذي يقوم بالتحديق نحو هامشه المترامي الاطراف في بلاهة،بل نري همنغواي علي العكس من ذلك يتحدي في ثبات وجرأة كل هذه الأعراف والتقاليد الأدبية التي منحت نفسها حق النطق والتعبير عن المرأة بلسان ذكوري مبين. والواقع أن همنغواي ليس هو أول من برز للحرب في هذا الميدان منحازاً للتعبير عن قضايا النوع والجندرة،فالناقدة والباحثة الأميركية (لويز تايسون)(1) تحدثنا عن محاولات باكرة في الكتابة حاولت دحض المفاهيم الذكورية حول المرأة وترصد تايسون في هذا الخصوص عدداً من الأعمال الكبيرة في تاريخ الأدب العالمي،أشهرها رواية(فرانكشتاين) لمآري شيللر والتي تعبر حسب وجهة نظر تايسون عن رؤية شديدة الوضوح بشأن المجتمعات البطرياركية ونظرتها للمرأة كمخلوق ضعيف مستسلم لإرادة الرجل وتمضي (لويز تايسون) في محاولة الكشف عن هذه الرؤية في نص (فراكنشتاين) عبر تحليلها لشخصية (الشبح-المسخ) والتي تري أنها قد وظفت للإحالة الي مكانة المرأة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فالمرأة كانت تتبدي في (فرنكنشتاين) وربما في نصوص آخري غيرها كمسخ شبحي مهمته الأساسية هي الاستجابة لرغبات الرجل ومن ناحية اخري تتصور (لويز نايسون) أن رائعة ماري شيللر تنطوي أيضا علي فلسفة ذكورية تعزز قيم الثقافة البطرياركية الي حد بعيد حيث تظهر شخصيات (كارولين) و(أغاثا) و(جوستين) و(اليزابيث) في الرواية وهن أكثر تماهياً مع الادوار الجندرية التقليدية المتوارثة عن المجتمع الأبوي.وبالعودة إلي المشهد الأدبي خلال عشرينيات القرن المنصرم حين نشر همنغواي قصته (قطة تحت المطر) نجد أن هذا المشهد كان قد تأثر بشكلٍ مباشر بجملة من التحولات العميقة التي طالت بنية المجتمع الأميركي عقب إنجلاء الحرب العالمية الأولي وقد شملت هذه التغيرات الأوضاع الحقوقية للمرأة بالدرجة الأولي حيث نالت المرأة الأميركية حق التصويت والمشاركة في الحياة السياسية لأول مرة في العام 1920 أي بعد مضي عامين فقط علي انتهاء الحرب وقبل نحو خمس سنوات من ظهور نص همنغواي الذي نحن بصدده. إن تلك التحولات العميقة في الفكر والثقافة والحقوق قد تركت أثرها دون شك علي موجة الكتابة الجديدة المضادة للفكر البطرياركي ،فظهرت علي سبيل المثال كتابات (فيرجينيا وولف) و (كايت تشوبين) وغيرهما وقد حاولت تلك الكتابات التصدي لمختلف جوانب النظرة الذكورية والتي كانت تري بان الحفاظ علي البنية الأخلاقية والدينية للمجتمع الأميركي رهين الي حد كبير بالحفاظ علي الأدوار الجندرية الموروثة التي تسعي نحو تكريس سلطة الأمومة داخل أسوار المنزل تاركة فضاء الحياة العام تحت هيمنة الرجل.سعت كاتبات النسوية الأنجلو-اميريكة بالاضافة الي رصيفاتهن في المدرسة الفرنسية الي تقديم مفاهيم آخري جديدة في ذلك الوقت عن الجنوسة والجندرة حيث تم ربط مفهومي الذكورة masculinity والأنوثة femininity بالناحية البيولوجية البحتة وذلك في مقابل مفهوم الجندرة الذي يقوم علي مبدأ التقسيم الإجتماعي للنوع علي أساس (رجل ) في مقابل (إمرأة) وهكذا ووفقاً لهذه الرؤية الجديدة والتي إبتدرتها كاتبة عظيمةمثل (سيمون دي بوفوار) فإن المرأة لاتولد كإمرأة وإنما تتم صناعتها من قبل المجتمع عبر عدد من آليات الثقافة.وفي خضم هذا الزخم التاريخي ولد نص(قطة تحت المطر) وتلقفه المشتغلون بالنظرية النسوية علي أساس أنه يمثل طفرةً في الخطاب النسوي الذي يسعي لإبراز صوت المرأة،فاذا ذهبنا نحو تحليل عناصر هذا العمل بصورة جادة وجدنا أن شخصية البطلة التي تتذمر عبر أفعالها وتصرفاتها من بقاءها رهينة لمؤسسة الزواج،تكاد تمثل صورة عن المرأة في تلك الحقبة من التاريخ، كما أن النص نفسه ينقل إلينا صورة اخري عن مؤسسة الزواج الموروثة عن النظم الكلاسيكية والتي لاتلبي رغبات المرأة بل لاتكاد تستوعبها إلا كمجرد ادأة لاشباع رغبات الرجل. وللتدليل علي الجوانب الفمينيزية المرتبطة بنص همنغواي الباذخ دعونا ننظر في عدد من الرموز التي قام المؤلف بتوظيفها للتعبير عن الصراعات الداخلية للأنثي ،فرغبة الزوجة في النص علي سبيل المثال في أن تمتلك تلك القطة الصغيرة البائسة ماهي اسقاط رمزي للتعبير عن رغبتها في الإنجاب وفي أن يكون لديها طفل يسبغ معني علي حياتها ويسد ثلمة فراغها العريض وهنا لابد من التذكير مرةً آخري بحديث همنغواي عن الدافع وراء إنجازه لهذا العمل والذي أشرنا إليه آنفاً حيث قلنا أن زوجته (هآدلي) كانت تعيش فراغاً قاتلاً وهي تتطلع إلي الإنجاب وقد كان هو متعاطفاً معها بصورة كبيرة،ولايجب أن يغيب عن بالنا هنا أن نشير إلي القيمة التعبيرية لرمزية(القطة) الضائعة والشريدة تحت المطر فهي بلاريب تمثل المرأة ككائن ضائع وتائه وسط وحشة التقاليد الإجتماعية وهكذا وببساطة يمكن القول أنه وبينما يشكل المطر معادلا رمزياً لمعني الثقافة الذكورية يعمل المؤلف علي تجسيد صورة أخري للمرأة التي تبحث عن الآمان والحماية وذلك في هيئة قطة صغيرة ترتعش من البرد وترتعد خوفاً من صوت الرعد.ومن الرموز الأخري التي صنعها همنغواي في النص رمز النصب التذكاري لأبطال الحرب الموضوع في الشارع الذي يقع فيه الفندق و نري ذلك في معرض وصفه المطول للإطار السردي او عناصر البيئة الخارجية وقد فسر النقاد وجود هذا الرمز علي أساس أنه يمثل إحالة علي موضوع الصراع الذي يحفل به النص وهو صراع مرتبط في جوهره بتاريخ العلاقات الزوجية المضطربة بسبب هيمنة الرجل علي مؤسسة الزواج وتوظيفها لمصلحته وليس همنغواي بالطبع هو أول من أشار الي هذا الموضوع الحيوي في الأدب النسائي، فسجل الأدب الغربي قد حفل بمثل هذه الثيمة منذ بواكير القرن الثامن عشر وتكفي الإشارة هنا إلي رائعة (جوستاف فلوبير) المعروفة (مدآم بوفاري) رعشة الحضور وسط فداحة الغياب:تبرز المرأة في نص (قطة تحت المطر) ككيانٍ غائبٍ وحاضرٍ في الآن نفسه، فهي حاضرة من خلال تفاصيل الحكاية وموضوعها الرئيس ولكنها غائبة أيضاً لأن الصوت الذي يعبر عنها وينقل إلينا الآمها وأحساسيها هو صوت مستعار، فالتسريد في القصة ،كما نعلم، يجري علي لسان الشخص الثالث أو الراوي كلي المعرفة ولعل همنغواي قد قصد هنا عن عمدٍ أن يسلب شخصية الزوجة الأميركية صوتها حتي يشير إلي معني غيابها القسري وإلي رضوخها إلي سلطة أبوية قاسية لاتمنحها حق الكلام حتي عن نفسها.واذا كان الحضور في عالم النص لايتم الا بإرادة الكاتب-المؤلف الذي ينتمي إلي عالم الذكور،فإن الغياب كفعل لايجري وفقاً لإرادة المرأة ولكنه بالضرورة يشكل تعبيراً عن نزعة رغائيبية تعتري الطرف الأخر للعملية النصية وهو القاريء الإفتراضي أو المخاطب السردي الذي يتوجه إليه (همنغواي) ونحن نفترض هنا أن الكاتب الكبير قد أراد فعلاً أن يعضد دور الأنثي في الحياة الإجتماعية وأن يجعلها تثور علي القيم الأبوية ولكنه في الوقت نفسه لم يكن علي درجة عالية من الجرأة التي تجعله يطلق العنان لشخصيته الأنثوية فتصرخ بصوتها هي لابصوت الأخر وهذا هو الشيء الذي قامت به كاتبة مثل (فيرجينيا وولف) في نصوص كثيرة ،حيث نري الأنثي وحدها هي التي تقتحم عوالم الأنثي.لكن لاينبغي أن نعتقد أن (همنغواي) وحده من كان يغيب صوت المرأة السردي في أعماله فهنالك كاتبات من جنس النساء كن يفعلن الشيء ذاته ويمكن هنا أن نشير إلي القاصة الأميركية الشهيرة (كيت تشوبين) في قصتها المعروف (أحداث ساعة من الزمان ) Story of an Hour فالبطلة في القصة وإسمها (لوسي) لاتتحدث عن نفسها وإنما هنالك سارد عليم يخبرعنها وعن أحوالها ومشاعرها ساعة تلقت نبأ مصرع زوجها في إحدي حوادث القطارات فلم نراها تنفعل كثيراً لموته بل شعرت ببعض الإرتياح لأنها سوف تتخلص أخيراً من قيودالحياة الزوجية ولكن وحينما ظهر زوجها السيد (مارلآد) أمامها بعد ذلك بشحمه ولحمه وإتضح لها عدم صحة الخبر صعقت ثم قضت نحبها وهي جالسة علي كرسيها وقد حسب الآخرون أنها ماتت لفرط الفرحة بنجاة زوجها من الموت!إننا فعلاً إزاء عالم شديد التعقيد،لايصح فيه إطلاق الأحكام التسطيحية البسيطة،فلربما أراد همنغواي من خلال تغييب صوت المرأة السردي في عمله كما قلنا سابقاً أن يدلل علي تغييبها الفعلي في حركة التاريخ والحضارة ولربما أراد أن يجعلها تصدح بصوتها فعلاً لكنه آثر أن يحمل الأمر علي درجات وهو يتوجه إلي قارئه الإفتراضي والذي كان في آن العشرينيات من القرن المنصرم مازال واقعاً تحت هيمنة عالم برؤوس ذكورية مفخخة ولربما كان صوت الراوي/السارد كلي المعرفة في النص هو صوت أنثوي يحكي عن معاناة إحدي النساء الواقعات تحت عسف وبطش مؤسسة الزواج، من يدري،فلا أحد قد ولج إلي عقل همنغواي ساعة كتب النص فرأه كيف يختلق الأصوات والشخصيات
.نظرة مضادة/ أسئلة بلانهاية:
وثمة سؤال مهم ينهض هنا وهو:هل يمكن إفتراض العكس،أي أن نعتبر هذا النص نفسه (قطة تحت المطر) بمثابة رؤية مضادة لمشروع الفمينيزم؟وحتي نجيب عن هذا السؤال بشكل صحيح، دعونا نستعرض أولاً بعض الأسئلة المحورية التي يتم طرحها في العادة من قبل المشتغلين بالنقد النسوي للسرد وذلك اعتماداً علي ماقدمه روبن راؤول(2) و(لويز تايسون) التي سبقت الإشارة إليها في موضعٍ سابق. من بين أهم الأسئلة التي يتم طرحها في هذا الجانب سؤال في غاية الحيوية وهو إلي أي درجة يمثل المحمول الفكري للعمل تعبيرا صريحاً أو مستتراً عن مباديء الأيدولوجيا الذكوري،وبمعني أخر فإننا إذا أردنا فحص عملٍ ما علي هدي النظرية النسوية فإنه يتوجب علينا أن نتساءل هل هذا العمل يعمل علي تعزيز القيم والأفكار الذكورية عن قضايا الجنوسة والجندرة واللون والعرق والطبقة أم أنه يعري مثل هذه الأفكار وينتقدها.وبالنسبة لنص (قطة تحت المطر) فإننا نري أنه قد ينزع بعض الشيء إلي جوانب القراءة المضادة،حيث مكن للقراء حاملي الرؤوس الذكورية أن ينظروا لشخصية الزوجة الأميريكية التي تناولها العمل علي أساس أنها تمثل صورة عن إمرأة لعوب لاهية تهدر وقتها في أمور فارغة ولاتتحلي بروح المسؤولية ولاتهتم إلا باشباع نزواتها العقيمة وبالتالي فهي غير ناضجة ولاتقدر مشغوليات زوجها وحاجته إلي الراحة والإستجمام.ان منطق القراءة الذكورية للعمل المشار إليه قد يقودنا إلي الإعتقاد بان (همنغواي) كان يكتب نصاً ذكورياً بإمتياز أراد من خلاله أن ينقل لنا شغف النساء الأميركيات في العقد الثاني من القرن العشرين بالمظاهر الزائفة للحياة الرومانسية ولايكاد الأمر يقف عند هذا الحد بل هنالك ثمة أمر آخر قد يضع همنغواي في حرب ضروس مع الحركة النسوية وهذا الأمر يمكن إلتماسه في تناول الكاتب لشخصية (جورج) الذي يصوره لنا الكاتب وهو منغمس في مطالعة كتابٍ ما، منذ بداية القصة وحتي نهايتها بينما يصور لنا المرأة وهي تنصرف نحو الإهتمام بقطة صغيرة تسعي في اجواء المطر الباردة ثم تجلس بعد ذلك لتثرثر حول ثيابها و حول الطريقة المفضلة لتصفيف شعرها. إن هذا الأمر قد يلقي في روع متلقي العمل أن قيمة التفكير والعقل ترتبط بالرجل أكثر من إرتباطها بالمرأة وإلا لماذا نري همنغواي في هذه القصة يجعل الرجل يمارس عادة القراءة دون زوجته اللعوب المتصابية؟ هل أراد همنغواي العظيم أن يقول لنا بصورة غير مباشرة أن النساء ناقصات عقلٍ؟وأخيراً............لسنا نعضد الرؤية القائلة بقابلية نص همنغواي(قطة تحت المطر) للاستجابة لتطلعات النقد النسوي للسرد أوننفي عنه تحيزاته ضد المرأة أو شيء من هذا القبيل ولكننا فقط أردنا أن نلقي بعض الضوء علي عمل أدبي رائع وأن نحاول قراءته وفق منطق النظرية النسوية وماأحسب أننا قد إنتهينا إلي شيءٍ ذي بال!
هامش:1/Tyson, Louis(2015).Critical theory today.Routledge –Oxford2/ راؤول،روبن مع مجموعة من المؤلفين (نظرية السرد-مفاهيم أساسية ومناظراتنقدية) ترجمة د.أحمد نضال المنصور-دار جامعة الملك سعود للنشر-2020
ربما قد يتطلب الأمر إراقة مداد كثير علي سطح الورق وبذل جهدٍ مضنٍ دون أن نتمكن من العثور علي إجابة شافية، فنصوص صاحب (العجوز والبحر) و(لمن تقرع الأجراس) وغيرهما من الأعمال الخالدة في تاريخ الأدب العالمي،كما نعلم،ماتزال منفتحة علي قراءات متنوعة وتأويلات مختلفة يأخذ بعضها برقاب البعض وتتداخل هذه القراءات في مابينها مثل دغل مليء بالأشجار المتشابكة ولذلك فإن النظرة العجلي غير المتأنية سوف تحجب عنا الكثير ولن تمكنا من سبر أغوار هذه العوالم السردية الساحرة. دفع الكاتب الكبير بقصته الموسومة قطة تحت المطر Cat in the Rain للنشر في أعقاب الحرب العالمية الأولي بنحو سبع سنوات حيث أنها ظهرت في العام 1925 إلي جانب أعمال آخري لاتقل روعةً وثراءاً وذلك ضمن إصدارة حملت عنوان (في وقتنا ) In our times وقد عد بعض النقاد أنذآك ومن بينهم الشاعر والناقد الكبير (عزرا بآوند) أحد أصدقاء همنغواي،هذه القصة علي وجه التحديد فتحا كبيرا في عالم الأدب السردي.ويذكر(همنغواي) نفسه بهذه المناسبة أنه كان قد كتب هذا النص شديد الجزالة تحت تأثير معاناة زوجته(هادلي) والتي كانت قد وقعت خلال سني زواجهما الأولي تحت وطأة الشعور بالحرمان من الأمومة حيث مكثت زمناً طويلا وهي لاتنجب حتي أضحت فريسة للوحشة والعزلة وقد نظر كثير من النقاد إلي النص من زوايا متعددة ولكن القراءة التي إستحوذت علي قدرٍ كبيرٍ من الاهتمام هي تلك القراءة التي ركزت علي وجهة نظر المدرسة النسوية Feminism حيث نشأ في إعتقاد أنصار هذه المدرسة النقدية أن همنغواي قد أراد بالفعل من خلال هذه القصة البديعة أن يعالج موضوعا يتصل بالدرجة الأولي بأسئلة الفمينيزم الجوهرية.تدور أحداث (قطة تحت المطر) في فندق صغير بإيطاليا حيث يقضي زوجان أميركيان عطلتهما الصيفية هناك و يحمل الزوج في القصة إسم (جورج) أما الزوجة فلا إسم لها رغم أنها تمثل الشخصية المحورية ويبدأ الكاتب قصته بوصف مطول للإطار السردي حيث يضعنا أمام لوحة دقيقة التكوين لملامح الزمان والمكان والبيئة الخارجية قبل أن يأخذنا إلي داخل غرفة صغيرة بأحد الفنادق حيث نري الزوج (جورج) منهمكاً في مطالعة كتاب وهو منصرف تماماً عن زوجته، لايبدي تجاهها الإهتمام اللائق ولايحفل بالحديث معها ولايكترث لمحاولاتها المتكررة في جذب انتباهه وهكذا وبينما ينخرط الزوج بكلياته في القراءة ،تبحث الزوجة عن شيء بإمكانه أن يبدد الملل والوحشة، فنراها تقف خلف زجاج النافذة وهي تبحلق في الشارع بينما المطر ينهمر بغزارة وفجأةً تلمحُ قطةً صغيرة ترتعش وهي تحاول أن تلوذ بمكانٍ يقيها وابل المطر ويثير منظر هذه القطة المسكينة في نفس الزوجة مشاعر الأسي والضياع والحاجة إلي الامان وتتحرك في دواخلها نزعة قوية لإنقاذ القطة وتتحدث إلي بعلها المتجهم الذي مازال علي فراشه يواصل القراءة صامتاً بشأن هذه المسألة، وعندما تتيقن أنه لن يفعل شيئا تندفع نحو الخارج لإنقاذ القطة بنفسها.وحينما عبرت الزوجة الأميركية البهو وقف صاحب الفندق وإنحني يحييها في لطف فشعرت تجاهه بقدر كبير من الإرتياح خصوصا حينما أبدي قلقه من تعرضها لموجة الطقس السيء وقد حاول أن يثني عزمها عن المجازفة بالخروج معرضة نفسها للثلوج والبرد لكنها لم تأبه لهذا الأمر بل ركضت نحو المكان الذي كانت تتواجد فيه القطة فأسرع الرجل خلفها ثم أمر خادمة الفندق أن تتبعها لتبسط فوق رأسها مظلة المطر وتعتني بها،وفي نهاية الأمر لم تفلح الزوجة العنيدة في الإمساك بالقطة التي ظلت تقفز من موضع لآخر حتي إعتلت سطح القرميد وإستقرت هناك.عادت الزوجة إلي غرفتها في الطابق العلوي وهي تشعر بخيبة أمل كبيرة وبعاطفةٍ غريبة تجاه صاحب الفندق المسن الذي كان قد أظهر مودة كبيرة تجاهها وكانت صورة القطة ماتفتأ تسيطر علي كيانها حتي أنها لم تكف لحظة واحدة عن ترديد عبارة واحدة أمام زوجها ( أريد تلك القطة الصغيرة..كم أرغب بهذه القطة ) ،لقد تحولت عاطفتها في تلك اللحظة إلي رغبة عارمة في الاستحواذ علي القطة الشريدة الضائعة ولم يتمالك زوجها الذي كان يقلب صفحات الكتاب أعصابه فصرخ فيها قائلا:( كفي عن هذا أرجوك..تناولي كتاباً وإقرئي) لكن الزوجة لم تلتفت إلي حديثه بل جلست أمام المرآة وهومت ببصرها في فضاءات بعيدة ثم صارت تتحسس شعرها القصير الذي كان مصففاً علي هيئة شعر فتي مراهقٍ وقالت لزوجها: (كم أود أن أجعل شعري يطول ويسترسل علي كتفي..ربما صففته علي هيئة ذيل الحصان، فهل سيعجبك ذلك ياعزيزي؟)ولكن الزوج لايكترث للأمر بل يقول لها في اقتضاب شديد (هكذا أحبه أنا ...) وعندها تثبُ من مقعدها أمام المرآة متضجرةً من ردود أفعاله الباردة لتقف مرةً ثانية خلف النافذة تثرثر قائلة:(أريد تلك القطة ..أريدها حقا.. يجب أن أحصل علي هذه القطة..اذا لم يكن مقدراً لي أن أحصل علي شعر طويل فلأحصل إذن علي قطة جميلة ذات فراء ناعم، أضعها علي حجري كل مساء وأداعبها بأناملي..كم أرغب في أن أجلس لأتناول طعامي علي ضوء الشموع في طقس ربيعي خلاب بينما قطتي الرائعة تتقافز حولي، وأريد أن يكون شعري طويلاً ،كما إنني أود أن أحصل علي ثياب جديدة فاخرة!)ولايكاد (جورج) يرفع بصره عن الكتاب،ولايأبه لهيجان خواطرها المشتعلة وعند تلك الأثناء يسمع الزوجان طرقاً علي باب الغرفة وتدخل عليهما خادمة الفندق حاملةً بين ذراعيها قطةً صغيرة وتنحني أمام السيد جورج قائلة: (لقد كلفني سيدي الباردون بأن أحضر هذه القطة للسنيورة) .وعلي الرغم من أن القصة تحكي علي لسان سارد مادة الحكي الخارجي- أي وفقاً لضمير الشخص الثالث third person omniscient - الا أننا نلحظ أن الزوجة الأميركية وهي الشخصية المركزية المحكي عنها تستأثر بتعاطف القاريء إلي حدٍ بعيد ،بينما لايكاد الزوج(جورج) يظهر إلا باعتباره شخصية ثانوية إصطنعها المؤلف لإلقاء الضوء علي شخصية الزوجة التي تتضجر من إهمال زوجها لها ولرغباتها ومشاعرها.وإن كان هنالك ثمة فرق جوهري بين هاتين الشخصيين فهو يتمثل بلاشك في تلك النزعة الرومانسية التواقة للإنفلات من أسر العالم المادي لدي الزوجة في مقابل التصحر العاطفي الذي يكتنف شخصية (جورج) المتجهم والمنزوي في صمته كما يجب التنويه إلي مسألة آخري تتعلق بالبناء النفسي للشخصيات في هذه القصة وهي التلقائية الشديدة في تصرفات الزوجة وميلها للتعبير عن نفسها بشكل أكثر طلاقة وإن بدت هذه التصرفات طفولية إلي حد بعيد وذلك في مقابل حالة الجمود والإنكماش الوجداني في شخصية الزوج
.أ نصٌ في مناهضة الأيدولوجيا البطرياركية؟
إن ماذكرناه سابقا ليس هو مايعنينا الوقوف عنده ،حيث أننا لانرمي هنا بالدرجة الأولي إلي التعريف بالنص وكاتبه ، وإنما نقصد سبيلاً آخر يتمثل في محاولة الكشف عن بعض جوانب القراءة النسوية بالنسبة للعمل المشار إليه وتلك مهمة وإن إكتنفها شيء من العسر إلا أنها ليست مستحيلة تماماً حيث سبقنا إليها كبار النقاد في تاريخ الأدب العالمي ويجدر بنا بهذه المناسبة أن نذكر أن السرديات الأنجلو- أميركية لم تكن تخلو في معظمها خصوصا في أعقاب الحرب العالمية الثانية من ملامسة قضايا الجندرة والنسوية ودوننا في هذا الشأن نصوص كثيرة لفيرجينا وولف وغيرها من الكتاب. إن هنالك جملة من الصعوبات التفسيرية التي تجعل مسألة استجلاء قصدية المؤلف author intention في أي عمل أدبي هي مسألة شديدة التعقيد وذلك ببساطة لأن العملية الإبداعية نفسها هي عملية ذات أبعاد نفسية مركبة يعتريها الغموض وتتداخل هذه العوامل النفسية مع عوامل آخري اجتماعية وثقافية وينجم عن هذا الكم الهائل من التداخل والإشتباك عالم نفسي كثيف التلاحم ينعكس بالضرورة علي النص الإبداعي ولذلك كله فمن الصعوبة بمكان بالنسبة للقاريء وربما بالنسبة للناقد المحترف أيضاً سبر شخصية المؤلف وإستكناه مقصديته التي أراد أن يعبر عنها في النص بدرجةعالية من الموثوقية.ولكن، وعلي أية حال ومهما يكن الأمر ،فإن هنالك جملةً من الإشارات النصية والإحالات السياقية والمعرفية التي من شأنِها أن تجعل نص همنغواي(قطة تحت المطر) نصاً نسوياًبإمتياز يمكن قراءته وفقاً لقواعد منهج التحليل النسوي،حيث تكاد مواقف هذا النص تجاه مسائل بعينها مثل الجنوسة والجندرة والحياة الجنسية والعائلية تبدو واضحةً للعيان ،فالكاتب الكبير-وكما سبقت الإشارة إلي ذلك سلفاً- يكرس شخصية(الزوجة الأميركية) كشخصية محورية لكنه لايجعلها صوتاً سارداً للأحداث في الوقت نفسه وهذا مما يدل بالطبع علي موضوع تهميش المرأة بصورة عامة وهذه إذن هي إحدي الإشارات. يمكن القول عموماً بأن همنغواي ينطلق في طرح رؤيته النصية حول العلاقات البطرياركية داخل المجتمعات الغربية عبر رحلة عكسية تبدأ بالهامش وصولاً إلي المركز،حيث تشكل المرأة بكافة تجلياتها الاجتماعية والثقافية هامشاً كبيراً بينما يمثل الرجل كنوع اجتماعي وجوداً مركزياً متعالياً يقوم بصياغة المفاهيم والقيم ويضبط حركة الوجود الاجتماعي استناداً إلي مباديء الايدولوجية الذكورية. وبرغم أن همنغواي كمؤلف هو إنسان حقيقي ينتمي لعالم الرجال ،إلا أننا لا نري ثمة ممانعة كبيرة لنصه المشار إليه في الخروج عن أعراف الشكل الموروث للأدب الذكوري والذي تنطلق فيه القراءات من المركز الذي يقوم بالتحديق نحو هامشه المترامي الاطراف في بلاهة،بل نري همنغواي علي العكس من ذلك يتحدي في ثبات وجرأة كل هذه الأعراف والتقاليد الأدبية التي منحت نفسها حق النطق والتعبير عن المرأة بلسان ذكوري مبين. والواقع أن همنغواي ليس هو أول من برز للحرب في هذا الميدان منحازاً للتعبير عن قضايا النوع والجندرة،فالناقدة والباحثة الأميركية (لويز تايسون)(1) تحدثنا عن محاولات باكرة في الكتابة حاولت دحض المفاهيم الذكورية حول المرأة وترصد تايسون في هذا الخصوص عدداً من الأعمال الكبيرة في تاريخ الأدب العالمي،أشهرها رواية(فرانكشتاين) لمآري شيللر والتي تعبر حسب وجهة نظر تايسون عن رؤية شديدة الوضوح بشأن المجتمعات البطرياركية ونظرتها للمرأة كمخلوق ضعيف مستسلم لإرادة الرجل وتمضي (لويز تايسون) في محاولة الكشف عن هذه الرؤية في نص (فراكنشتاين) عبر تحليلها لشخصية (الشبح-المسخ) والتي تري أنها قد وظفت للإحالة الي مكانة المرأة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فالمرأة كانت تتبدي في (فرنكنشتاين) وربما في نصوص آخري غيرها كمسخ شبحي مهمته الأساسية هي الاستجابة لرغبات الرجل ومن ناحية اخري تتصور (لويز نايسون) أن رائعة ماري شيللر تنطوي أيضا علي فلسفة ذكورية تعزز قيم الثقافة البطرياركية الي حد بعيد حيث تظهر شخصيات (كارولين) و(أغاثا) و(جوستين) و(اليزابيث) في الرواية وهن أكثر تماهياً مع الادوار الجندرية التقليدية المتوارثة عن المجتمع الأبوي.وبالعودة إلي المشهد الأدبي خلال عشرينيات القرن المنصرم حين نشر همنغواي قصته (قطة تحت المطر) نجد أن هذا المشهد كان قد تأثر بشكلٍ مباشر بجملة من التحولات العميقة التي طالت بنية المجتمع الأميركي عقب إنجلاء الحرب العالمية الأولي وقد شملت هذه التغيرات الأوضاع الحقوقية للمرأة بالدرجة الأولي حيث نالت المرأة الأميركية حق التصويت والمشاركة في الحياة السياسية لأول مرة في العام 1920 أي بعد مضي عامين فقط علي انتهاء الحرب وقبل نحو خمس سنوات من ظهور نص همنغواي الذي نحن بصدده. إن تلك التحولات العميقة في الفكر والثقافة والحقوق قد تركت أثرها دون شك علي موجة الكتابة الجديدة المضادة للفكر البطرياركي ،فظهرت علي سبيل المثال كتابات (فيرجينيا وولف) و (كايت تشوبين) وغيرهما وقد حاولت تلك الكتابات التصدي لمختلف جوانب النظرة الذكورية والتي كانت تري بان الحفاظ علي البنية الأخلاقية والدينية للمجتمع الأميركي رهين الي حد كبير بالحفاظ علي الأدوار الجندرية الموروثة التي تسعي نحو تكريس سلطة الأمومة داخل أسوار المنزل تاركة فضاء الحياة العام تحت هيمنة الرجل.سعت كاتبات النسوية الأنجلو-اميريكة بالاضافة الي رصيفاتهن في المدرسة الفرنسية الي تقديم مفاهيم آخري جديدة في ذلك الوقت عن الجنوسة والجندرة حيث تم ربط مفهومي الذكورة masculinity والأنوثة femininity بالناحية البيولوجية البحتة وذلك في مقابل مفهوم الجندرة الذي يقوم علي مبدأ التقسيم الإجتماعي للنوع علي أساس (رجل ) في مقابل (إمرأة) وهكذا ووفقاً لهذه الرؤية الجديدة والتي إبتدرتها كاتبة عظيمةمثل (سيمون دي بوفوار) فإن المرأة لاتولد كإمرأة وإنما تتم صناعتها من قبل المجتمع عبر عدد من آليات الثقافة.وفي خضم هذا الزخم التاريخي ولد نص(قطة تحت المطر) وتلقفه المشتغلون بالنظرية النسوية علي أساس أنه يمثل طفرةً في الخطاب النسوي الذي يسعي لإبراز صوت المرأة،فاذا ذهبنا نحو تحليل عناصر هذا العمل بصورة جادة وجدنا أن شخصية البطلة التي تتذمر عبر أفعالها وتصرفاتها من بقاءها رهينة لمؤسسة الزواج،تكاد تمثل صورة عن المرأة في تلك الحقبة من التاريخ، كما أن النص نفسه ينقل إلينا صورة اخري عن مؤسسة الزواج الموروثة عن النظم الكلاسيكية والتي لاتلبي رغبات المرأة بل لاتكاد تستوعبها إلا كمجرد ادأة لاشباع رغبات الرجل. وللتدليل علي الجوانب الفمينيزية المرتبطة بنص همنغواي الباذخ دعونا ننظر في عدد من الرموز التي قام المؤلف بتوظيفها للتعبير عن الصراعات الداخلية للأنثي ،فرغبة الزوجة في النص علي سبيل المثال في أن تمتلك تلك القطة الصغيرة البائسة ماهي اسقاط رمزي للتعبير عن رغبتها في الإنجاب وفي أن يكون لديها طفل يسبغ معني علي حياتها ويسد ثلمة فراغها العريض وهنا لابد من التذكير مرةً آخري بحديث همنغواي عن الدافع وراء إنجازه لهذا العمل والذي أشرنا إليه آنفاً حيث قلنا أن زوجته (هآدلي) كانت تعيش فراغاً قاتلاً وهي تتطلع إلي الإنجاب وقد كان هو متعاطفاً معها بصورة كبيرة،ولايجب أن يغيب عن بالنا هنا أن نشير إلي القيمة التعبيرية لرمزية(القطة) الضائعة والشريدة تحت المطر فهي بلاريب تمثل المرأة ككائن ضائع وتائه وسط وحشة التقاليد الإجتماعية وهكذا وببساطة يمكن القول أنه وبينما يشكل المطر معادلا رمزياً لمعني الثقافة الذكورية يعمل المؤلف علي تجسيد صورة أخري للمرأة التي تبحث عن الآمان والحماية وذلك في هيئة قطة صغيرة ترتعش من البرد وترتعد خوفاً من صوت الرعد.ومن الرموز الأخري التي صنعها همنغواي في النص رمز النصب التذكاري لأبطال الحرب الموضوع في الشارع الذي يقع فيه الفندق و نري ذلك في معرض وصفه المطول للإطار السردي او عناصر البيئة الخارجية وقد فسر النقاد وجود هذا الرمز علي أساس أنه يمثل إحالة علي موضوع الصراع الذي يحفل به النص وهو صراع مرتبط في جوهره بتاريخ العلاقات الزوجية المضطربة بسبب هيمنة الرجل علي مؤسسة الزواج وتوظيفها لمصلحته وليس همنغواي بالطبع هو أول من أشار الي هذا الموضوع الحيوي في الأدب النسائي، فسجل الأدب الغربي قد حفل بمثل هذه الثيمة منذ بواكير القرن الثامن عشر وتكفي الإشارة هنا إلي رائعة (جوستاف فلوبير) المعروفة (مدآم بوفاري) رعشة الحضور وسط فداحة الغياب:تبرز المرأة في نص (قطة تحت المطر) ككيانٍ غائبٍ وحاضرٍ في الآن نفسه، فهي حاضرة من خلال تفاصيل الحكاية وموضوعها الرئيس ولكنها غائبة أيضاً لأن الصوت الذي يعبر عنها وينقل إلينا الآمها وأحساسيها هو صوت مستعار، فالتسريد في القصة ،كما نعلم، يجري علي لسان الشخص الثالث أو الراوي كلي المعرفة ولعل همنغواي قد قصد هنا عن عمدٍ أن يسلب شخصية الزوجة الأميركية صوتها حتي يشير إلي معني غيابها القسري وإلي رضوخها إلي سلطة أبوية قاسية لاتمنحها حق الكلام حتي عن نفسها.واذا كان الحضور في عالم النص لايتم الا بإرادة الكاتب-المؤلف الذي ينتمي إلي عالم الذكور،فإن الغياب كفعل لايجري وفقاً لإرادة المرأة ولكنه بالضرورة يشكل تعبيراً عن نزعة رغائيبية تعتري الطرف الأخر للعملية النصية وهو القاريء الإفتراضي أو المخاطب السردي الذي يتوجه إليه (همنغواي) ونحن نفترض هنا أن الكاتب الكبير قد أراد فعلاً أن يعضد دور الأنثي في الحياة الإجتماعية وأن يجعلها تثور علي القيم الأبوية ولكنه في الوقت نفسه لم يكن علي درجة عالية من الجرأة التي تجعله يطلق العنان لشخصيته الأنثوية فتصرخ بصوتها هي لابصوت الأخر وهذا هو الشيء الذي قامت به كاتبة مثل (فيرجينيا وولف) في نصوص كثيرة ،حيث نري الأنثي وحدها هي التي تقتحم عوالم الأنثي.لكن لاينبغي أن نعتقد أن (همنغواي) وحده من كان يغيب صوت المرأة السردي في أعماله فهنالك كاتبات من جنس النساء كن يفعلن الشيء ذاته ويمكن هنا أن نشير إلي القاصة الأميركية الشهيرة (كيت تشوبين) في قصتها المعروف (أحداث ساعة من الزمان ) Story of an Hour فالبطلة في القصة وإسمها (لوسي) لاتتحدث عن نفسها وإنما هنالك سارد عليم يخبرعنها وعن أحوالها ومشاعرها ساعة تلقت نبأ مصرع زوجها في إحدي حوادث القطارات فلم نراها تنفعل كثيراً لموته بل شعرت ببعض الإرتياح لأنها سوف تتخلص أخيراً من قيودالحياة الزوجية ولكن وحينما ظهر زوجها السيد (مارلآد) أمامها بعد ذلك بشحمه ولحمه وإتضح لها عدم صحة الخبر صعقت ثم قضت نحبها وهي جالسة علي كرسيها وقد حسب الآخرون أنها ماتت لفرط الفرحة بنجاة زوجها من الموت!إننا فعلاً إزاء عالم شديد التعقيد،لايصح فيه إطلاق الأحكام التسطيحية البسيطة،فلربما أراد همنغواي من خلال تغييب صوت المرأة السردي في عمله كما قلنا سابقاً أن يدلل علي تغييبها الفعلي في حركة التاريخ والحضارة ولربما أراد أن يجعلها تصدح بصوتها فعلاً لكنه آثر أن يحمل الأمر علي درجات وهو يتوجه إلي قارئه الإفتراضي والذي كان في آن العشرينيات من القرن المنصرم مازال واقعاً تحت هيمنة عالم برؤوس ذكورية مفخخة ولربما كان صوت الراوي/السارد كلي المعرفة في النص هو صوت أنثوي يحكي عن معاناة إحدي النساء الواقعات تحت عسف وبطش مؤسسة الزواج، من يدري،فلا أحد قد ولج إلي عقل همنغواي ساعة كتب النص فرأه كيف يختلق الأصوات والشخصيات
.نظرة مضادة/ أسئلة بلانهاية:
وثمة سؤال مهم ينهض هنا وهو:هل يمكن إفتراض العكس،أي أن نعتبر هذا النص نفسه (قطة تحت المطر) بمثابة رؤية مضادة لمشروع الفمينيزم؟وحتي نجيب عن هذا السؤال بشكل صحيح، دعونا نستعرض أولاً بعض الأسئلة المحورية التي يتم طرحها في العادة من قبل المشتغلين بالنقد النسوي للسرد وذلك اعتماداً علي ماقدمه روبن راؤول(2) و(لويز تايسون) التي سبقت الإشارة إليها في موضعٍ سابق. من بين أهم الأسئلة التي يتم طرحها في هذا الجانب سؤال في غاية الحيوية وهو إلي أي درجة يمثل المحمول الفكري للعمل تعبيرا صريحاً أو مستتراً عن مباديء الأيدولوجيا الذكوري،وبمعني أخر فإننا إذا أردنا فحص عملٍ ما علي هدي النظرية النسوية فإنه يتوجب علينا أن نتساءل هل هذا العمل يعمل علي تعزيز القيم والأفكار الذكورية عن قضايا الجنوسة والجندرة واللون والعرق والطبقة أم أنه يعري مثل هذه الأفكار وينتقدها.وبالنسبة لنص (قطة تحت المطر) فإننا نري أنه قد ينزع بعض الشيء إلي جوانب القراءة المضادة،حيث مكن للقراء حاملي الرؤوس الذكورية أن ينظروا لشخصية الزوجة الأميريكية التي تناولها العمل علي أساس أنها تمثل صورة عن إمرأة لعوب لاهية تهدر وقتها في أمور فارغة ولاتتحلي بروح المسؤولية ولاتهتم إلا باشباع نزواتها العقيمة وبالتالي فهي غير ناضجة ولاتقدر مشغوليات زوجها وحاجته إلي الراحة والإستجمام.ان منطق القراءة الذكورية للعمل المشار إليه قد يقودنا إلي الإعتقاد بان (همنغواي) كان يكتب نصاً ذكورياً بإمتياز أراد من خلاله أن ينقل لنا شغف النساء الأميركيات في العقد الثاني من القرن العشرين بالمظاهر الزائفة للحياة الرومانسية ولايكاد الأمر يقف عند هذا الحد بل هنالك ثمة أمر آخر قد يضع همنغواي في حرب ضروس مع الحركة النسوية وهذا الأمر يمكن إلتماسه في تناول الكاتب لشخصية (جورج) الذي يصوره لنا الكاتب وهو منغمس في مطالعة كتابٍ ما، منذ بداية القصة وحتي نهايتها بينما يصور لنا المرأة وهي تنصرف نحو الإهتمام بقطة صغيرة تسعي في اجواء المطر الباردة ثم تجلس بعد ذلك لتثرثر حول ثيابها و حول الطريقة المفضلة لتصفيف شعرها. إن هذا الأمر قد يلقي في روع متلقي العمل أن قيمة التفكير والعقل ترتبط بالرجل أكثر من إرتباطها بالمرأة وإلا لماذا نري همنغواي في هذه القصة يجعل الرجل يمارس عادة القراءة دون زوجته اللعوب المتصابية؟ هل أراد همنغواي العظيم أن يقول لنا بصورة غير مباشرة أن النساء ناقصات عقلٍ؟وأخيراً............لسنا نعضد الرؤية القائلة بقابلية نص همنغواي(قطة تحت المطر) للاستجابة لتطلعات النقد النسوي للسرد أوننفي عنه تحيزاته ضد المرأة أو شيء من هذا القبيل ولكننا فقط أردنا أن نلقي بعض الضوء علي عمل أدبي رائع وأن نحاول قراءته وفق منطق النظرية النسوية وماأحسب أننا قد إنتهينا إلي شيءٍ ذي بال!
هامش:1/Tyson, Louis(2015).Critical theory today.Routledge –Oxford2/ راؤول،روبن مع مجموعة من المؤلفين (نظرية السرد-مفاهيم أساسية ومناظراتنقدية) ترجمة د.أحمد نضال المنصور-دار جامعة الملك سعود للنشر-2020