الطيب صالح - جمال محمد أحمد

الحديث عن جمال محمد أحمد ليس سهلا ، فأنت لا تعرف من أين تبدأ . أنه بالنسبة للناس الذين عرفوه عن قرب وأحبوه ، لم يكن شخصا بالمعنى المعروف للكلمة ، ولكنه كان عالما متكاملا قائما بذاته . كان مثل زعماء الأحـزاب ، أو قادة المدارس الفكرية ، له حواريون وأتباع وأنصار . وكان بالنسبة لي ، كما لكثيرين ، علما من أعلام الخرطوم ، من القلة الذين أسعى للقائهم أول وصولي ، وإذا وجدته مسافرا ، أشعر أن ثمة فراغا هائلا . والآن وقد رحل إلى الأبد ، فان الخرطوم قد قلت بهذا المعنى إلى الأبد .
عاد جمال محمد أحمد من إنجلترا أواخر الأربعينات بعد أن أكمل تعليمه في جامعة اكسفورد . وكان يدرس التاريخ واللغة الإنجليزية في مدرسة وادي سيدنا الثانوية حين كنت طالبا فيها . كان واضحا بنشاطه وآرائه المتحررة . وحين التحقت بكلية الخرطوم الجامعية التي أصبحت بعد ذلك جامعة الخرطوم ، كان جمال محمد أحمد قد عين مسؤولا عن شئون الطلبة بها ، فعرفته أكثر ولكنني لم أكن واحدا من حوارييه وأنصاره ، فإنني لم أكن قد بلغت النضج الذي يمكنني من تقدير مواهبه العقلية الفذة . ذلك حدث لي بعد أن ذهبت إلى لندن . كان هو سفيرا للسودان في أديس أبابا ، فأرسل لي عن طريق أحد أصدقائه المقربين يثنى على قصة نشرت لي . قال أن القصة أعجبته وأغاظته في آن واحد . وكانت تلك عادتـه ، لا يثنى عليك ثناء صرفا ، ولا يثنى عليك وجها لوجه ، ولكن عن طريق شخص آخر . وفي آخر لقاء لي معه ، صيف العام الماضي ، كان يحدثني أن أخاه محجوبا ، وقد توفى قبله بأربعين يوما ، قضى إجازته في قبرص . ثم قال عرضا : " ناس محجوب يروحوا قبرص يتفسحوا . وأنت رحت قبرص كتبت " الرجل القبرصي " . عجبت لأن القصة كان قد مضى على نشرها أكثر من عشرة أعوام ، ولم أكن أظن أنه قرأها . قلت له " هل أعجبتك " فضحك كأنه يستغرب سؤالي ولم يقل شيئا . كان موضوع القصة ، الموت ، ولا أدرى هل كان يفكر في الموت حينئذ . كان قد أدرك السبعين وكان صديقه الأثير محمد عمر بشير يتزعم حركة لإصدار كتاب يتضمن مقالات يكتبها عدد من أصدقائه المقربين احتفالا ببلوغه سن السبعين .
وجدناه ، عثمان محمد الحسن وأنا ، بين كتبه يقرأ ويكتب ويدخن الغليون مرة ، والسجائر مرة ، شربنا معه القهوة أواخر الصباح ، وتحدث معنا حديثه الودود . كانت طريقته عجيبة في الحديث . ينسج لك غلالة رقيقة من المحبة ، ويخلق مناخا من الألفة . يستحضر أصدقاءه الغائبين ، ويداعب الحاضرين ، ويذكر أفراد عائلته وأقاربه وأصهاره ، يصنع من كل هذا عائلة كبيرة ممتدة هو مركزها وقطبها . لا ينصح ولا ينتقد . وحين يسخر يسخر برقة ، وإذا أثنى أثنى بخفة حتى لا تكاد تتبين ثناءه إلا بعد حين . لا يغضب لشيء ولا يدهش لشيء ، متسامح مثل قلب رؤوم يتسع لكل المتناقضات . ورغم غزارة علمه وتوقد ذهنه ورحابة آفاقه الفكرية ، فإنه لم يكن يتحدث في الثقافة والأدب إلا نادرا ، وإذا فعل ، يلقى لك بالأفكار العميقة كأنما جزافا في ثنايا كلام عادى . كل ذلك بحركات لطيفة مميزة من البدين والوجه والعينين ، ولحظات صمت وضحكات صغيرة في ثنايا الجمل . كان إنسانا جذابا إلى حد أن عددا غير قليل من حوارييه أخذوا يقلدون طريقته في الكلام والمشي والسلوك . وكان في سلوكه ، على سجيته تمامـا ، لا يفعل شيئا لا تألفه نفسه . حتى وهو سفير ، لم يكن يفعل ما يفعله السفراء من مجاملات ، مثل استقبال القادمين في المطار وزيارة المرضى في المستشفيات . وقد عين سفيرا للسودان في لندن ثلاث مرات ، في كل مرة يحدث شئ يقطع عليه إقامته . في المرة الأخيرة جاءه وزير في زيارة خاصة فأرسل من يستقبله في المطار ويدبر أمر نزوله . واكتفى بذلك . لم يزره ولم يسأل عنه . وعاد الوزير غاضبا إلى الخرطوم ، وكان صاحب نفوذ تلك الأيام ، فأقنع الحكومة بعزل جمال محمد أحمد ، ليس نقله ولكن عزله كلية ، فعزلوه برسالة مقتضبة مكتوبة باليد . وكان ذلك العهد عهدا عجيبا ، واعجب ما فيه أنه لم يكن يعطى أي اعتبار لقيمة أحد مهما علا قدره . حاولنا أن نسرى عنه ، سيد أحمد الحردلو الشاعر المعروف ، الذي كان أيامئذ سكرتيرا في السفارة ، وأنا . ولكنه لم يكن غاضبا . كانت تغلب عليه الدهشة أن السودان الذي أحبه وساهم في بنائه آلـت مصائـره إلـى نفـر لا يحفلون بأحد ، حتى الرموز الكبيرة في حياة الأمة .
وكان وضع جمال في ذلك النظام خير مثال على مأساة الإنسان المتحضر المثقف في وضع همجي . لقد رحب جمال في البداية بذلك الانقلاب الذي سمى ثورة ، مؤملا أن يصنع أولئك الشباب تغييرا حقيقيا . وكان هو معجبا بتجربة الحزب الواحد كما صاغها جوليس نيريري . وكان يقول لنا في تبرير ذلك : " هل نظل رافضين أو متفرجين دائما ؟ علينا أن نشارك لعلنا نغير مسار الأحداث " . ولكن هيهات . فقد اتضح له أن فتانا ليس كمالك ، وأن نميري غير نيريري .
سألته : " ما حكاية فلان معك ؟ هل بينك وبينه شئ ؟ فقال " يا أخى مش دا الولد الكان في دفعتكم في وادي سيدنا ؟ " قلت له : نعم ، فقال : " يا أخى دا ولد عابر سبيل . أنا قلت لهم يرسلوا له السيارة ويحجزوا له في الهوتيل . تاني عاوز مني أيه ؟ " . ولا أدرى ماذا قصد بعبارة " عابر سبيل " فقد كان أحيانا يترجم العبارات الإنجليزية ترجمة طريفة . ولعله قصد أنه " رفيق سفر " كأن يقال أن فلانا شيوعي " رفيق سفر " أي أنه ليس شيوعيا ولكنه متعاطف مع الشيوعية . بمعنى أن هذا الوزير لم يكن من قادة النظام بل على هامشه ، وأن الأستاذ جمال كان يظن أن له من مكانته وصلاته بالرؤوس ما يغنيه عن مجاملة الفروع . ولكن الدنيا كانت قد تغيرت .
في هذه الفترة نفسها كان جمال يزور المرحوم محمد أحمد محجوب بانتظـام ، علما بأن محجوبا كان قد فقد منصبه كرئيس للوزراء نتيجة لانقلاب مايو فأقام في لندن . ذلك أن محجوبا كان صديقه وصفيه . وكان ذلك دأبه ، يحتفي بالناس الذين يحبـهم ، ولا يحفل بالناس الذين لا يحبهم مهما كانت مناصبهم . وكانت علاقته بالنميري علاقة غريبة . فقد فتن النميرى به أول الأمـر ، ثم ضاق به ذرعا ، وظل يبعده ويدنيه طوال فترة حكمه . وهكذا عين جمال بعد عودته من لندن ، رئيسا لتحرير الصحافة " ثم عاد مستشارا لوزير الخارجية . وتلك من مآثر منصور خالد الذي كان وقتها وزيرا للخارجية ، فقد كان جمال أستاذه في أمور كثيرة ، وهو من أكثر الناس تأثرا به ، فأعاده وفاء لتلك الصلة . ثم أصبح وزيرا للخارجية وانتهى به الأمر أن عينوه أمينا عاما للمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون . وكان منصبا أجوفا بلا معنى ، فإنهم لم يعطوه المال اللازم لإنجاز أي شئ وكانوا قد الغوا وزارة الأعلام والثقافة تلك الأيام والحقوها بوزارة الداخلية . وكان أستاذنا الجليـل ، عليه رحمة الله ، يحكى لنا ضاحكا كيف أنه كان يحضر اجتماعات يعقدها وزير الداخلية تناقش فيها قضايا الثقافة جنبا إلى جنب مع قضايا الشرطة والأمن ومكافحة المخدرات والدعارة .
حين صنعوا به ما صنعوا يوم عزلوه من منصبه في لندن . قمت بجهد المقل ، وكانوا يريدونني أن أعمل في وزارة الأعلام فكتبت إلى وزير الإعلام أقول : " أن حكومة لا تحترم رجلا مثل جمال محمد أحمد لا تستحق أن يعمل الإنسان معـها " . وكان صرخة ضعيفة في واد سحيق ، لم يسمعها أحد ولم يكتـرث لـها أحد . ولم يكن ذلك عملا بطوليا مني ، فقد كنت في مأمن عند الإنجليز في لندن . منصور خالد صرخ بعد ذلك صرخة مدوية حين قتلوا محمود محمد طه ، رحمه الله . وهي حسنة أرجو أن تحسب له حين يجد الجد ، فأنه يسير الآن في طريق وعر ، لا أحسب أستاذه جمال محمد أحمد يرضاه له .
أشهد أن جمال محمد أحمد كان من خيرة السفراء في لندن ، بل كان سفيرا نابغة بين السفراء . كان يعمل بأسلوب خاص به . لقد وظف علاقاته الواسعة منذ عهده في اكسفورد ، ومعرفته العميقة باللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية ، وجاذبية الشخصية ، كل ذلك وظفه في خدمة السودان والعرب أجمعين . وكان في أحسن حالاته خلال العهود الديمقراطية في السودان ، فإن من أصعب الأمور أن تكون سفيرا لنظام ديكتاتوري في بلد ديمقراطي كان إنسانا ، ليبراليا ، بحق وحقيقـي ، بالمعنى الحسن للكلمة . كان بين مثقفي الإنجليز كأنه واحد منهم ، وبين مثقفي إفريقيا كأنه واحد منهم . وكان بوسعه أن يتنقل بسهولة بين حالات متباينة من العيش ، فقد ولد ونشأ في قرية من قرى شمال السودان ، فظل قرويا في بساطته وحنوه . وكان من صفوة الصفوة بين السودانيين ، فعاش في المدينة كأنه نشأ فيـها . وتشبع بالثقافة الإنجليزية بشكل لم يتح إلا للقليلين ، فكان في لندن أو أكسفورد مثل السمكة في البحر . وكان عاشقا للعروبة ، ولمصر بصفة خاصة ، فكان في بغداد أو بيروت أو دمشق أو القاهرة كأنه في الخرطوم . فقد جمع جمال محمد أحمد كل هذه الصفات التي تبدو متناقضة بلا أدنى جهد أو مشقة . كانت شخصيته خالية تماما من التوتر والعنف . ليس معنى هذا أنه لم يكن يتعذب ويعانى . بلى ، ولكن أحزانه كانت بعيدة الأغوار . لابد أنه حزن لضياع الأرض التي ولد وتربى فيها ، وتشرد أهلها شمالا وجنوبا . ولابد أنه حزن لما حل بالسودان وبالأمة العربية . وعلى الصعيد الشخصي كان يحس لذعة فقدان الخلان أكثر من غيره . لقد حزن لموت أحمد الطيب وعبد الإله أبو سن والشيخ المرضي ومحمد أحمد محجوب وغيرهم . وحزن حين ألجم المرض صديقه القديم داؤد عبد اللطيف بعد أن كان ملء السمع ذكاء وفصاحة . وحين ألم المرض بمحمد عمر بشير قال لي في حزن بالغ : " يعني هل الناس الأخيار بهذه الكثرة حتى يضيع منا محمد عمر بشير ؟" ولكن الله لطف بمحمد عمر فشفاه من علته أطال الله عمره . أنه أشبه الناس بجمال محمد أحمد في علمه وثقافته وذكائه وسعة أفقه وطيبته . وقد كان بارا به إلى آخر لحظة ، خاصة في الأيام المظلمة أواخر عهد نميري حين ضاقت الدنيا بالناس ، وبدا كما لو أن السودان قد لبس وجها غير وجهه المألوف . أحس جمال محمد أحمد إحساسا عميقا بالمأساة . وكان محمد عمر بشير وآخرون إلى جواره يسرون عنه ويشدون أزره .
كان جمال محمد أحمد رحمه الله نسيج وحده بأدق معاني الكلمة ، في حياته وفي فكره . وكان أسلوبه في الكتابة من الأساليب المميزة في الأدب العربي المعاصر ، يمكن أن يوضع ، دون أدنى مبالغة ، جنبا إلى جنب مع الأساليب العظيمة كأسلوب طه حسين وأحمد زكى ومصطفى صادق الرافعي والمازني والمسعدي . كان إذا رثى الشاعر الإنجليزي لوى ماكنيس ، أو إذا وصف لقاءه للبابا ، أو إذا حدثك عن أيامه في جامعة هارفارد ، خلق لك عالما طريفا مدهشا ، تتماوج فيه الأضواء والظلال ، والابتسام والسخرية ، والفكرة والأحاسيس ، شأن كل أدب عظيم ، فإذا أنت تسمع وترى وكأنما لأول مرة ، وإذا روحك تنتعش كأنك سبحت في بركة صافية ذات صباح جميل ، هكذا كان : ضوء كأنه مجموعة أضواء . كان أخا وأبا ومعلما لرهط كثيرين . وسوف يكتسي حزننا لفقده ألوانا شتى فيما بقى لنا من أيام .


* نقلا عن كتاب :سيرة كاتب سرة شرق
اعداد :علي عتمان محمد صالح والبشير سهل
الطبعة الاولي 1988
أعلى