ـ سُخرية برناد شو مما حدث:
هزت حادثة دنشواي مَشاعر الكاتب الأيرلندي الحُر "برنارد شو" وخفَق قلبه للقسوة والبطش اللذين أنزلهما الإنجليز بأهالي دنشواي، وتصرفهم تصرفًا يُنافي الحق والعدل، ويُجافي المَدنية والإنسانية، فكتبَ ست عشرة صفحة في مُقدمة كتابه "جزيرة جون بول الأخرى" جاء فيها: "إن الفلاحين لم يَتصرفوا في هذا الحادث غير التصرف الذي كان مُنتظرًا من جمهرة الفلاحين الإنجليز لو أنهم أُصيبوا بمثل مَصابهم في المال والحُرمات، وأن الضباط لم يكونوا في الخدمة يوم وقوع الحادث، بل كانوا لاعبين عابثين، وأساءوا اللعب، وأساءوا المُعاملة، وأن الفلاح الإنجليزي ربما احتمل عَبثًا كهذا لأنه على ثقة من التعويض، ولكن القرويين لم تكن لهم هذه الثقة بالتعويض ولا بالإنصاف، وأن أحد المشنوقين كان شيخًا في الستين، يبدو من الضَعف كابن السبعين، ولو لم يُشنق لجاز أن يَموت في السجن، قبل انقضاء خمس سنوات"( ).
ونحَا باللائمة على الوزارة والبرلمان الإنجليزي، إذ لم يَمنعا تنفيذ الحكم بعد تبليغه، ثم قال: "إن الإفراج عن المسجونين من أهل القرية، أقل تكفير مُنتظر عن هذه الكارثة"!( ).
- كتب "برنارد شو" يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دنشواي، هي قرية مصرية صغيرة في دلتا النيل، وفيها إلى جانب
الأكواخ المُتداعية وبعض الأعشاب النامية على جوانب الطرق وأشجار النخيل، أبراج من اللَّبِن يأوي إليها الحمام.
حاوِل أن تَتَخيل شعور قرية إنجليزية فاجأها جماعة من الضباط الصينيين، وبدأوا يصطادون البط والأوز والدجاج والديَكة الرومية، ويعودون بها حيث أتوا، مُتأكدين من أنها طيور برية لا صاحب لها، كما يجري العُرف على زعمهم في الصين، وأن غضب القرويين لم يكن إلا ادعاءً يُخفون وراءه كراهيتهم للصينيين، وربما كان مُؤامرة لهدم ديانة كونفوشيوس وإقامة تعالم الكنيسة الإنجليزية مكانها، هذا هو عين ما حدث في دنشواي من أولئك الضباط الإنجليز الذين ظهروا فجأة في دنشواي وراحوا يصيدون حمامها في السنة الماضية "1906".
- واستطرد "برنارد شو" يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما ذهبَت جماعة من الضباط يَصطادون الحَمام هناك سنة 1904 حدث أن شَكا الأهلون وقدموا العرائض، فلم يظفروا بطائل، خذلهم القانون في ساعة الشدة، وتَملك اليأس عائلة بارزة من المُزارعين أصحاب الحمام تُدعى عائلة محفوظ، وآلى عميدها حسن محفوظ وهو في الستين من عمره ألا يَسمح بتكرار هذا الاعتداء الصارخ.
وصدر الأمر للضباط الإنجليز ألا يصطادوا الحمام في القُرى إلى بعد رضاء العُمدة، دون أن يُقرر الأمر ما قد يَحدث للعُمدة إذا جَرُؤ على الرفض.
قدِّر شعور دنشواي يوم 13 يونيو سنة 1906 عندما نزل القرية أربعة من الضباط البريطانيين بملابسهم الكاكي وبنادقهم، منهم ضابط من صيادي العام الماضي يَصحبه ضابط آخر على حصان وتُرجمان وأومباشي، فقد غَلَى دم محفوظ الشرقي، وأنذرهم أن الصيد غير مسموح به وضاع الإنذار سُدًى لأنهم لم يفهموا لغته، فأرسلوا ترجمانهم يطلب الإذن بالصيد من العُمدة ولكنه كان مُتغيبيًا، وكل ما استطاع أن يصل إليه الترجمان مع كاتب العمدة - الذي أدرك سوء المصير لو رفض الطلب رفضًا باتًا - أنهم يستطيعون الصيد لو ابتعدوا عن القرية بُعدًا كافيًا.
واستغلوا ذلك فابتعدوا عن المساكن من ثلاثين إلى مائة متر، وقُدرت المسافة بمائة وستين مترًا، وبدأوا يصيدون حمام القرية، فصاح القرويون وأمسكوا ببندقية الضابط الصغير فانطلقت أثناء النزاع وأصابت ثلاثة رجال وزوجة عبد النبي، وهو شاب في الخامسة والعشرين.
وتوهمت السيدة المُصابة أنها ماتت، ولو أنه ثبت فيما بعد أنها أُصيبت بالبارود في أرق جزء من جسدها، وكان شعور القرية المصرية كشعور القرية الإنجليزية إذا قَتل أحد الضباط الصينيين - الذين تخيلناهم يصطادون الدِيَكة - زوجة أحد المزارعين الإنجليز.
غضب عبد النبي، ويجب أن نَعترف بأنه كتان مُحقًا، وأشعل (بيدر) غِلالِه بطريقة ما، ونظرية الإنجليز الرسمية أنه تَعمد إشعال النار لتقوم الثورة في العالم الإسلامي كله ضد الإنجليز!
وسرعان ما أقبل جمع من الصِبيان والمُتسكعين ورأى الضباط زميلهم في مأزق فهُرعوا إليه، وضَرب عبد النبي قاتل زوجته المزعوم بعصَا، وكذلك فعل حسن محفوظ، وبدأ الصبيان والمتسكعون يقذفون الأحجار، ولو كان هؤلاء الخمسة شرطة في لندن لرأوا أنهم في مثل هذا الظرف لا يستطيعون أن يفعلوا أكثر من الهرب، فمِن العبَث مناقشة جمهور مُهتاج، وبخاصة لو كنتَ تجهل لغته، ولو كان على رأس فرقة الصيد صف ضابط قدير لأخرجها من المأزق في أمان، ولكن الضباط أرادوا المُهادنة بإشارات وحركات مُضحكة وسلموا بنادقهم، وقدموا للجمهور ساعات ونقودًا، وهُم يصيحون: بقشيش! وأمسك رئيسهم بالفعل بخِناق المُعتدي، وادعى أنه يقبض عليه لقتل المرأة.
وبعد أن أساء الضباط التصرف وأصبحوا في خطر شديد، انطلقوا نحو عرباتهم، فحِيل بينهم وبينها وأُخرجوا منها قسرًا وضُرب سائق إحدى العربات حتى فقد شعوره، وقرَّ رأيهم أخيرًا على الجَري، على أن يَسبق اثنان منهم إلى المُعسكر ويعودا بالنجدة، ولكن أحد السابقين، وهو أصغر الجميع رُتبة، عاد فانضمَّ إلى زميليه المُتخلفَين، وبعد سِباق طويل تحت شمس مصر، وصل أحد الهاربين إلى قرية مجاورة ثم سقط مصابًا بضربة شمس مات بسببها، وقابَل الثاني فرقة من العَسَس "داورية" خفَّت معه للإنقاذ.
وفي نفس الوقت عمِل كبار أهل القرية والخفراء على تخليص الضباط الثلاثة الآخرين من أيدي الصبيان والمُتسكعين وعبد النبي وحسن محفوظ، وكفُوهم شرهم بعد أن ضُربوا ضربًا مُبرِّحًا، وكُسرت عظام ذراع واحد منهم، ثم عادوا إلى المعسكر بعرباتهم، وانتهى حادث اليوم.
- ويتابع "برنارد شو":
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو كان الجمهور انجليزيًا لما كان تَصرفه أفضل من هذا في مثل هذه الظروف، ومنذ شهور قلائل ضَرب الجمهور في لندن رجلاً مُسنًا ليس أجنبيًا ولا كافرًا، ضربًا أفضى إلى الموت، لأن الشرطي ظن أنه أتى فعلا فاضحًا في الحديقة العامة، وفي دنشواي لم يكن الضباط في مهمة رسمية، وقد اعتدوا بصفتهم الشخصية وفي وقت نُزهتهم على قرية صغيرة وفقيرة.
وفي الحق، إن الضباط استفزوا أهل القرية، ولما وقعت الواقعة التي أثاروها هُم، لم يُظهروا حزمًا في التصرف ولا صِدقًا في الحُكم، فكانت المُصيبة، ويجب بعد ذلك أن يُؤَنبوا تأنيبًا قاسيًا وأن يلوموا أنفسهم على ما حدث، فقد كانوا هُم السبب فيه، كما كان يجب أن يُعامَل القرويون بالرحمة، وأن يُؤَكد لهم أنه لن يُسمح بصيد الحمام في المستقبل.
- ويسخر "برنارد شو" من الحكم فيقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا ما كان يجب أن يَحدث، ولكن انظر ما حدث بالفعل:
فقد اكتُفى بالحكم على عبد النبي بالسجن المؤبد، مراعاة لما لحق بزوجته من ضَرر، ولم تقف الرحمة عند هذا الحد، فإن زوجته لم تُعاقب، بل إنها لم تُتهم بسرقة البارود الإنجليزي الذي وُجد في جِسمها!
وخشية أن يَشعر عبد النبي بوحشة السجن المؤبد الذي يَبدؤه في سن الخامسة والعشرين، جعلوا له رفيقًا آخر في سِن العشرين، ولم تَبدُ هذه العاطفة الرحيمة نحو حسن محفوظ، صاحب الحمام المصري الذي اعترض على صيد الإنجليز، وهدد أسياده الضباط البريطانيين عندما اصطادوا حمامه وضَرب فعلاً بعصا عادية، فهو إذن أفَّاق يجب أن يُمثَّلَ به، وعقوبة السجن المؤبد لا تكون لرجل في الستين يبدو في السبعين، وربما مات قبل أن يَقضي في السجن على سبيل التكريم الخاص لأسرته وليَتمتع زوجات أولاده وأحفاده بهذا المشهد الرائع من فوق السطوح.
وخشية أن يَدُب الحسد في نفوس أهل البيوت الأخرى شَنقوا معه ثلاثة آخرون، تتراوح أعمارهم بين العشرين والخمسين، ولكن هذا كان أقل العقوبات العلنية استثارة للنفوس، إذ ينقصه عُنصر الدم والتعذيب الذي يَشتهي خيال العسكريين والموظفين.
ولما كانت المِشنقة لا تتسع لأكثر من شخص ينبغي أن يظل مُعلقًا نصف ساعة على الأقل ضمانًا للنتيجة، وإطالةً لتَمتع أهله بمَرآه وهو يَتمرجَح ويدور حول نفسه في بُطء، وشَنق الرجال الأربعة يَستغرق ساعتين ينبغي أن يَستمر الحفل فيهما قويًا رائعًا، فقد جَلدوا ثمانية رجال لكل منهم خمسون جَلدة، وهو قدر يزيد عن الحد الذي يَسمح به قانون موسى السماوي بإحدى عشرة جَلدة، وقد وُضع هذا القانون في زمن يُعده جيش الاحتلال - بدون أدنى شك - وحشيًا.
ومن المُطمئن جدا أن تَعلم من التقارير البريطانية التي رُفعت للبرلمان، أنَّ تنفيذ الأحكام تم بكل وقار وبكل إنسانية مُمكنة، وأن الإجراءات كانت رائعة إلى حد يَحمل على الثقة بالقائمين بالأمر، ويبدو أن هذه الشهادة لا تُشير إلى الضحايا، فالواقع أنهم لم يَعتبروا ذوي شأن في الموضوع كله.
وأخيرًا يَشهد اللورد كرومر بأن الإنجليزي المسئول عن هذه الإجراءات، رجل ينفرد بإنسانيته وهو محبوب جدا من المواطنين المصريين للعطف الكبير الذي يُظهره دائما نحوهم.
- ويستمر "برنارد شو" في سخريته فيقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجَلِيّ أنَّ الوثائق البرلمانية رقم 3 / 4 (مصر 1906) لا تخلو من الفُكاهة، فقد أطلقوا سراح رجل واحد، رغم ما قد يكون في ذلك من الخطر الجسيم على الإمبراطورية البريطانية، وقد كان مَصروعًا وغشيَته النوبة عدة مرات في أثناء المحاكمة، حتى نصَح الطبيب بإطلاق سراحه فهرَب، وهذا أمر يُضايق، فقد قدروا أن عدد المجلودين يملأ فراغ الوقت اللازم للشنق بمُعدل مَجلودَين اثنين لكل مَشنوق، فاختلَّ هذا الإجراء بسبب فساد ذوق سعيد سليمان خير الله المصروع، مما جعل تنفيذ الحكم في درويش أمرًا مُتعبًا، فقد ظل مَشنوقًا ربع ساعة من غير أن يُجلد أحد لتسلية زملائه القرويين والضباط البريطانيين والبوليس الحربي الخيَّال والمُشاة الراكبين، وكان يجب الاحتفاظ بعدة أحكام جَلد احتياطية لمُواجهة مثل هذه الحالات الطارئة.
وعلى كل حال، لم يكن هناك وقت لجَلد كل إنسان، بل إن ثلاثة من المُذنبين لم يُجلدوا إلى الحد الكافي، ولذلك حَكموا على كل منهم بسنة أشغال شاقة بعد الجَلد، والسبعة الذين لم يُجلدوا أُرسلوا للأشغال الشاقة سبع سنوات، وآخَر خمس عشرة سنة، ومجموع عمل هذا الصباح، شَنق أربعة، أشغال شاقة مؤبدة لاثنين، و15 سنة لواحد، وسبع سنوات لستة أشخاص، وسنة واحدة لثلاثة، بالإضافة إلى خمسين جلدة، وخمسين جلدة لخمسة أشخاص، وشهد اللورد كرومر أن هذه الإجراءات كانت عادلة، ومشروعة لأسباب بيَّنها.
- ويستمر "برنارد شو" في السُخرية من عدالة بريطانيا فيقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويبدو أنَّ العدالة التي يَتشدق الإنجليز بإدخالها في مصر سنة 1882 كانت خيالية، وأنَّ العمل الحقيقي لمُناهضة الفوضَى المصرية كان منوطًا بلجان مؤقتة من المصريين أشبه بهيئات قُطاع الطُرق، فكانت هذه اللجان عند التبليغ بحدوث مخالفة ما، تَسقط على القرية المذنبة وتقبض على كل شخص له دخل في المخالفة وتأخذهم بالتعذيب الذي يَنصَب عليهم على حد سواء، حتى يَتهموا كل إنسان يُطلب منهم اتهامه، ثم تُعذِب المتهمين حتى يَعترفوا بأي شيء، بل بكل شيء يُتهمون به، وبعدئذٍ يُقتلون أو يُجلدون أو يُرسلون إلى السجن المؤبد.
ونُصبت المحاكم الوطنية - ذات القفار الأبيض - ولكن القاضي البلجيكي الذي عُين مدعيًا عموميًا فضَح الأمر كله، وكان لابد من مواجهة الموقف، ولابد من استقرار النظام على أي حال، ولكن المحاكم الوطنية التي أنقذت سُمعة الاحتلال البريطاني لم تف بالغرض المطلوب، وفضلا عن ذلك فقد كان مستر "بلنت" يشُن الغارة على الاستبداد والتعذيب، مُهددًا بتقديم الأسئلة للبرلمان، فكان لابد من ابتكار محكمة جديدة تُماثل المحاكم العسكرية البسيطة استحال قيامها بالأمر بسبب غَيرة المصريين الموالين لإنجلترا، وهذا النوع من الناس يجب أن يُشترى لأنه ليس طبيعيًا، والثمن هو وظيفة رسمية ذات مركز ومُرتب، ومن ثم تألفت سنة 1895 محكمة من ثلاثة موظفين إنجليز بدون مُحلفين أو نقض أو استئناف، وهم جميعا يُمثلون أحسن ما في وظائفنا القضائية والعسكرية، وهذا الأحسن يبدو فيما صدر من أحكام على أهالي دنشواي.
ويُبرر اللورد كرومر وجود هذه المحكمة بأنها - على سيئها - أفضل من لجان اللصوص، وبأن المصريين ألِفوا أن يَربطوا القانون والنظام بالجَلد والتعذيب والشَنق، وأنهم لا يَحترمون أية محكمة لا تَستمر في اصطناع هذه الأحكام.
وهذه دعوى لها نتائج بعيدة المَدى، فهي مثلا تُوصي بأنه يجوز لمُرسلي كنيسة إنجلترا أن يُقدموا القرابين البشرية إذا بَشروا بدينهم بين القبائل المُتوحشة التي لا يَفصل خيالها بين القتل والدين، وتُوصي كذلك بأن السبب الوحيد في عدم التجاء محكمة دنشواي لتعذيب المتهمين - حتى يعترفوا ويُقدموا الدليل على إدانتهم - هو مُجرد خشية عدم موافقة البرلمان الإنجليزي على هذا الإجراء، ولو أنَّ البرلمان الذي أقرَّ هذه الأحكام يستطيع في الحق أن يُقر أي شيء، ومن المؤكد أن المحكمة لم يكن في نيتها السماح للشهود بتجريح الضباط الإنجليز.
وقد حدث أن أحمد زقزوق وهو الأومباشي الذي صاحَب الضباط الإنجليز في رحلتي الصيد، أصر على أن الضباط أطلقوا النار على الجمهور مرتين بعد أن أصابوا المرأة، وظهر هذا في تقرير البرلمان، ولكن جريدة "مصر الفرنسية" قررت أن أحد القضاة الإنجليز سأل زقزوق إن كان لا يَخشى أن يقول هذا، فأجاب: لا يستطيع أحد في الدنيا أن يُخيفني، والحق هو الحق، فأمرَته المحكمة بالجلوس فورًا، ويُقرر المستر "بلنت" أنه حوكم بعدئذ بأيام لسوء مَسلكه في المَحكمة أمام مجلس تأديب وحُكم عليه بالسجن سنتين وخمسين جلدة، ومن غير أن نُسمي هذا بجفاء وغلظة، تعذيبًا لتخويف الذين شَهدوا ضد البريطانيين، فقد يوافقني أغلب العُقلاء عندما أقول إن زقزوق استفاد من هذا الدرس أن يَجعل شهادته مُستقبلا في صالح الاحتلال.
- وينتقد "برنارد شو" الدفاع والقاضي و "كرومر" فيقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يكن هناك مُحلفون فحسب، بل ولا ما هو أقل من الدفاع، فقد نُدب للدفاع عن المَسجونين مُحامون لا تَسمح لهم مراكزهم الملحوظة بإغضاب الاحتلال، لذلك كانوا أبعَد ما يكونون عن الدفاع، إنهم امتدحوا الاحتلال، قائلين إنه أكبر نِعمة أنزلها الله على بلادهم، وطلبوا الرحمة لمُوكليهم البائسين، لمسلكهم الذي أجمع المصريون على استهجانه، وقالوا: الرحمة فوق العدل.
وذكرت المحكمة في حيثيات الحكم، إنها استمعت للدفاع استماعًا كليًا، ومع ذلك فقد انهار الدفاع كله، وكل ما قاله المحامون في صالح المسجونين هو مجرد طلب الرحمة، ولو قُدِّم الدفاع المُناسب، فلربما اقتنع اللورد كرومر بأنه لا شيء يَحفظ الإمبراطورية البريطانية غير حرق القرية وصَلب جميع سكانها.
ويتلخص الدفاع في أن خمسة أجانب مُسلحين هاجموا القرية المصرية محاولين للمرة الثانية أن يصطادوا حمامها ويعودوا به إلى معسكرهم، وحاول أهل القرية أن ينزعوا سلاحهم، فجُرح أربعة منهم، وفقَد القرويون صوابهم واعتدوا على المُعتدين، ثم تدخل كبار القرية والخفراء فأنقذوا المُعتدين وأعادوهم إلى مُعسكرهم، وما كان يمكن أن يكون نصيبهم أسوأ من هذا لو أنهم ارتكبوا هذه الفِعال في أي مكان آخر.
ويستطيع الإنسان أن يتخيل ما كان يَحدث لأي مسجون أو محام يجرؤ على قول الحق على هذه الصورة، وأدرك المسجونون ذلك فلم يحاولوا.
لقد اتجه درويش نحو بيته وهو على المِشنقة، وسأل الله أن يعوضهم عن الوضاعة والظلم والقسوة في هذه الدنيا، ولو جَرؤ في المحكمة على أن يُقابل بين الله وهيئة المحكمة بما يُسئ إليها، لكان نصيبه بلا شك خمسون جلدة قبل الإعدام، حتى يُعلموه عَظمة الإمبراطورية، ولكنه أبقى رأيه لنفسه حتى اللحظة الأخيرة التي لا يستطيعون فيها أن يَفعلوا به شيئا غير الشَنق، وفي المحكمة فعل ما فعله الآخرون، فقد كذبوا وأنكروا واحتجوا بأنهم كانوا في غير مكان الحادثة في القرى المجاورة، وكانوا يَرعَون الماشية أو يَحصدون القمح، أو ما لم يكن، وأجاب واحد منهم - وكان أعور - عندما تعرفوا عليه، إن الناس جميعًا يُشبه بعضهم بعضًا، وأنكر درويش - وكان قد احتفظ ببندقية أحد الضباط - بأن أعداءه دفنوها ليلا بمنزله نِكاية فيه.
إنه أمرٌ يدعو للرثاء والشَفقة، لكن ليس إلى حد الامتعاض والحط من قاضي الشَنق الذي حَكم على نفسه - بحُكمه عليهم - أنه مُزور ومنافق وعاتٍ وجبان من الطراز الأول.
وقد اعتذر اللورد كرومر عن قاضي الشَنق الذي حَكم على المتهمين بأنهم حُوكموا محاكمة عادلة كل العدل، ولاحظ أنه لم يَقُل محاكمة عادلة بقدر ما يَسمح به ضَعف الإنسان، وهو أكثر ما يُمكن أن يُقال عن أية محاكمة على وجه الأرض، ولا رَيب أنه كان يعتقد فيما يقول، ولكن رأيه يهمنا فقط كمثال لحالته العقلية، والمدى الذي يفقد فيه الإنسان المَعنى البسيط للكلمات الإنجليزية بعد ثلاثين سنة من حياة الوظيفة في مصر.
واللورد كرومر يذكر أن مُديرًا في أوائل الاحتلال البريطاني هدد رجلاً بالكرباج في حضرة السير "كلود ماكدونالد" فقال الرجل: لا تستطيع أن تجلدني والإنجليز هنا، فماذا كان يقول هذا الرجل الآن؟ وماذا يقول اللورد كرومر بعد أن ألقى الرعب في القلوب بالكرباج والمشنقة؟ لقد ألغى اللورد "دوفرين" عقوبة الضرب بالعصَا سنة 1883 لأنها عقوبة فظيعة ومنافية للخُلق، وفي سنة 1906 يرى اللورد كرومر أن عقوبة الجلد المتوحشة ضرورية وعادلة، وليس في تنفيذها ما يَستوجب المؤاخذة، ويزيد على ذلك قوله: إنني قضيتُ ثلاثين سنة من حياتي أحاول جديًا أن أرفع مستوى الأخلاق والمَعيشة للشعب المصري، وعاونني في ذلك عدد من أكفأ الموظفين تحدوهم نفس الرغبة.
إن مصر لتَهتز غضبًا عندما تقرأ هذه الكلمات، وإذا كانت حادثة دنشواي تتوج الثلاثين عاما الأولى، فكيف تكون مصر بعد ثلاثين سنة أخرى من النهضة الأخلاقية التي تحدوها نفس الروح؟!
لعله يكون أكثر تسلية وسُرورا لو عدنا لخطاب اللورد كرومر الأول الذي أرسله للسير "ادوارد جراي" عن دنشواي إذ يقول فيه:
"سيُصدر القائد العام عما قريب أمرًا بمنع الضباط عن صيد الحمام في المُستقبل، مهما كانت الظروف" وأرجوك أن تسـأل لماذا هذا المَنع، إذا كانت المحكمة قررت أن الضباط كانوا ضيوفًا - ضيوفا بالفعل - ولم يفعلوا شيئًا يستوجب اللوم، والمستر "فندلاي" مراسل رسمي آخر للسير ادوارد، جدير بالاهتمام، فبعد أن استحال على المحكمة أن تدفع بالتقرير الطبي إلى أكثر من القول بأن ضرب الفلاحين والجري تحت شمس مصر قد مَهدا لضربة الشمس التي مات بسببها الضابط، في حين أن الضباط الذين كانوا عاجزين عن الدفاع ووقعوا في أيدي الفلاحين، حضروا المحكمة أحياء أصحاء، يقول المستر "فندلاي" أن الأربعة الذين شُنقوا ثبت أنهم ارتكبوا جريمة القتل بوحشية وإصرار، ثم يَشكون من أن الصحافة الوطنية تُغفل الحقائق وتُحاول أن تُدلل على أن هناك مبالغ طائلة أنفقت.
والمستر "فندلاي" فيلسوف بعض الشيء، فهو يقول إن المصري قَدَري مُتواكل، لا يَخشى الموت، فالجَلد له ما يُبرره كعقوبة قانونية، وهذا المَنطق يقضي بأن الأربعة الذين شُنقوا كان يجب أن يُعاقبوا بالجلد لا بالشَنق، ولكن المستر "فندلاي" لا يهرف بهذه النتيجة، فالمنطق ليس من نواحيه القوية، وإنما هو رجل مشعور، مضطرب الأعصاب، فهو يقول: لا أعتقد أن لهذا الهجوم الوحشي على الضباط البريطانيين أية صلة مباشرة بالكُره السياسي، وإنما هو يَرجع إلى روح عدم الخضوع التي تَعودها المُهيجون المغرضون غير الحصيفين في العام الماضي، ومن واجبي أن أحذركم من النتيجة المُؤسفة التي ترتبت في مصر على اهتمام أعضاء البرلمان بمناقشة الحكم الاجتماعي الذي أصدرته محكمة مُشكلة قانونًا وأعضاؤها من خيرة القضاة الإنجليز والوطنيين، هذا الاهتمام سيصبح في يد المُهيجين السَفلة الذين يرأسون ما يُسمى الحزب الوطني أداة كانت تنقصهم للآن.
إن مستر "فندلاي" لا يقاوم، فهو يُعطينا مقياس السلطة الحكومية وطعمها، ويستمر يقول: وبعد دنشواي بأيام قلائل قذف الوطنيون أحد مفتشي الري بالأحجار وألحقوا به أذًى شديدًا، ومنذ يومين أنزَل وطنيان جنديًا من على حماره ورفسوه في بطنه، والدافع في هذه الحالة الثانية كان السرقة، وهدفي من ذِكر هذه الحوادث أن أظهر النتائج المُنتظرة إذا ما بدأ الناس يترددون في احترام القانون، ولو استمرت هذه الحال وخاصة إذا وَجد الهياج في هذه البلاد أنصارًا في إنجلترا، فلن يطول الوقت حتى تَظهر الحاجة لإصدار قانون الصحافة وزيادة جيش الاحتلال إلى حد كبير.
تأمل هذا القول! كثير جدا أن يُضرب مفتش واحد للري في بلد يَسكنه عشرة ملايين، فمجزرة دنشواي إذا كان الغرض منها تعليم المصريين احترام القانون، ويَعتدي ثلاثة من الوطنيين على جندي فيُسقطونه عن حماره ويَسلبونه نقوده، فيَجزع المستر "فندلاي" لإفلاس المدنية، ولا يرى علاجًا غير مصادرة الصحف الوطنية، وزيادة جيش الاحتلال، ويكتب اللورد كرومر: غاية ما أقول إني مُقر لملاحظات المستر "فندلاي" بوجه عام، ولو بقيتُ في مصر لاتخذتُ نفس الإجراء الذي يشير به.
- ويضيف "برنارد شو":
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن يجب أن أنتهي من هذه الوثيقة البرلمانية الغنية، فقد استخرجتُ منها ما يكفي لرسم الصورة، فإذا كانت إنجلترا تنوي أن تحكم امبراطوريتها في العالم كما حكمت دنشواي سنة 1906 - وأخشى أن يكون هذا هو معنى الإمبراطورية عند الطبقة الارستقراطية العسكرية - فلن يكون هناك واجب سياسي أقدس ولا ألزم على الأرض من تَفكيك أوصال هذه الإمبراطورية وهزيمتها ورد شكيمتها، ومن ناحية عَرضية إعادة أنصارها إلى حظيرة الإنسانية.
أما عن المصريين، فكل رجل نشأ في مَهد النيل، يخضع طواعية للحكم البريطاني بعد حادثة دنشواي، أو يقبل منها أي عهد ورابطة، غير رابطة الأمم الحرة المتساوية يستحق أسوأ ما يعتبره اللورد كرومر عدلا وضروريا وهو الشنق، هذا هو ما تجنيه لو حاولت أن تثبت تفوقك بالإكثار من الجنود الخائفين والموظفين المخالفين للطبيعة بدلا من المساعدة الجريئة والتفوق الخلقي.
وعلى أية حال، لا ندع إنجليزيا يرضى أن يترك عبد النبي ورفيقه ابن العشرين في السجن المؤبد، ويُفاخر بأنه استطاع أن يفعل ذلك، ثم يدَّعي أنه أهل لحُكم بلدك أو بلاده هو، ولا يمكن أن تُحصر المسئولية في المحكمة، وموظفي الاحتلال فاقدي الأخلاق، فقد أُخطر مجلس العموم قبل الحكم بأربع وعشرين ساعة بتلغراف تحت يد السير "ادوارد جراي" بمطالبة المجلس بإظهار بريطانيا بمظهر الدولة المتمدينة التي لا ترضى بالجلد الوحشي، وأحكام الشنق الانتقامية.
ومع ذلك فقد ذهب احتجاج أحد النواب الأيرلنديين عبثًا، وكان النائب الإيرلندي يَعرف تمامًا معنى الاحتلال البريطاني، وما يعنيه المستر "فندلاي" بالولاء لبريطانيا، أما السير "ادوارد" - نيابة عن حكومة الأحرار الجديدة - فلم يكتف بتأييد أحكام دنشواي والدفاع عنها، بل ناشد المجلس بانفعال زائد أن لا يَنقدها أو يرفضها، على أساس أن عبد النبي وحسن محفوظ ودرويش والباقين هم طلائع مؤامرة إسلامية هائلة ضد المسيحية باسم الدين، وستُكسح المسيحية في إفريقيا وآسيا، وقد وقف في البرلمان من قبل يُندد بجلد الصينيين والعقوبات العسكرية في جنوب إفريقيا التي نفذتها الحكومة الإمبراطورية الأخيرة في حضور أقارب الضحايا.
وهذه أكذوبة غبية، سخيفة، عجيبٌ جدا أن تجوز على أي إنسان ذكي له خبرة بالسياسة، ولن تُغر الإنسانية لوزير خارجية بريطانيا عجزه عن أن يرى أن هذه المؤامرة لو كانت حقا قائمة، لكان من واجب بريطانيا أن تواجهها وتحاربها بوسائل شريفة، بدلا من جلب عدد من الفلاحين الفقراء، لا يُجاوز أصابع اليد، وشنقهم، ظنا أن هذا يُخيف الإسلام ويحمله على الخضوع، ولو كنت منحطا - إلى درجة أنسب فيها للسير "ادوارد" موهبة التفكير الامبراطوري - لقلتُ له: "إذا قُدر لنا جميعًا أن نُقتل، فيجب على الأقل أن نموت أشرافًا".
ولعلي أتناول الأمر من ناحية شخصية، فأقولُ إنه حصل على مركزه الاجتماعي وفرصة السياسة التي لم تُتح لغيره، لأن المفروض فيه أنه يُدرك أكثر من غيره، أنَّ الحياة لا قيمة لها بغير شرف، وما دام الجُبن سريع العدوَى، فهلاَّ يكون من المرغوب فيه أن نُبعد الموظفين الذين عجزوا عن إخفاء مَخاوفهم بعد أن خدموا في الشرق مدة طويلة.
هزت حادثة دنشواي مَشاعر الكاتب الأيرلندي الحُر "برنارد شو" وخفَق قلبه للقسوة والبطش اللذين أنزلهما الإنجليز بأهالي دنشواي، وتصرفهم تصرفًا يُنافي الحق والعدل، ويُجافي المَدنية والإنسانية، فكتبَ ست عشرة صفحة في مُقدمة كتابه "جزيرة جون بول الأخرى" جاء فيها: "إن الفلاحين لم يَتصرفوا في هذا الحادث غير التصرف الذي كان مُنتظرًا من جمهرة الفلاحين الإنجليز لو أنهم أُصيبوا بمثل مَصابهم في المال والحُرمات، وأن الضباط لم يكونوا في الخدمة يوم وقوع الحادث، بل كانوا لاعبين عابثين، وأساءوا اللعب، وأساءوا المُعاملة، وأن الفلاح الإنجليزي ربما احتمل عَبثًا كهذا لأنه على ثقة من التعويض، ولكن القرويين لم تكن لهم هذه الثقة بالتعويض ولا بالإنصاف، وأن أحد المشنوقين كان شيخًا في الستين، يبدو من الضَعف كابن السبعين، ولو لم يُشنق لجاز أن يَموت في السجن، قبل انقضاء خمس سنوات"( ).
ونحَا باللائمة على الوزارة والبرلمان الإنجليزي، إذ لم يَمنعا تنفيذ الحكم بعد تبليغه، ثم قال: "إن الإفراج عن المسجونين من أهل القرية، أقل تكفير مُنتظر عن هذه الكارثة"!( ).
- كتب "برنارد شو" يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دنشواي، هي قرية مصرية صغيرة في دلتا النيل، وفيها إلى جانب
الأكواخ المُتداعية وبعض الأعشاب النامية على جوانب الطرق وأشجار النخيل، أبراج من اللَّبِن يأوي إليها الحمام.
حاوِل أن تَتَخيل شعور قرية إنجليزية فاجأها جماعة من الضباط الصينيين، وبدأوا يصطادون البط والأوز والدجاج والديَكة الرومية، ويعودون بها حيث أتوا، مُتأكدين من أنها طيور برية لا صاحب لها، كما يجري العُرف على زعمهم في الصين، وأن غضب القرويين لم يكن إلا ادعاءً يُخفون وراءه كراهيتهم للصينيين، وربما كان مُؤامرة لهدم ديانة كونفوشيوس وإقامة تعالم الكنيسة الإنجليزية مكانها، هذا هو عين ما حدث في دنشواي من أولئك الضباط الإنجليز الذين ظهروا فجأة في دنشواي وراحوا يصيدون حمامها في السنة الماضية "1906".
- واستطرد "برنارد شو" يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما ذهبَت جماعة من الضباط يَصطادون الحَمام هناك سنة 1904 حدث أن شَكا الأهلون وقدموا العرائض، فلم يظفروا بطائل، خذلهم القانون في ساعة الشدة، وتَملك اليأس عائلة بارزة من المُزارعين أصحاب الحمام تُدعى عائلة محفوظ، وآلى عميدها حسن محفوظ وهو في الستين من عمره ألا يَسمح بتكرار هذا الاعتداء الصارخ.
وصدر الأمر للضباط الإنجليز ألا يصطادوا الحمام في القُرى إلى بعد رضاء العُمدة، دون أن يُقرر الأمر ما قد يَحدث للعُمدة إذا جَرُؤ على الرفض.
قدِّر شعور دنشواي يوم 13 يونيو سنة 1906 عندما نزل القرية أربعة من الضباط البريطانيين بملابسهم الكاكي وبنادقهم، منهم ضابط من صيادي العام الماضي يَصحبه ضابط آخر على حصان وتُرجمان وأومباشي، فقد غَلَى دم محفوظ الشرقي، وأنذرهم أن الصيد غير مسموح به وضاع الإنذار سُدًى لأنهم لم يفهموا لغته، فأرسلوا ترجمانهم يطلب الإذن بالصيد من العُمدة ولكنه كان مُتغيبيًا، وكل ما استطاع أن يصل إليه الترجمان مع كاتب العمدة - الذي أدرك سوء المصير لو رفض الطلب رفضًا باتًا - أنهم يستطيعون الصيد لو ابتعدوا عن القرية بُعدًا كافيًا.
واستغلوا ذلك فابتعدوا عن المساكن من ثلاثين إلى مائة متر، وقُدرت المسافة بمائة وستين مترًا، وبدأوا يصيدون حمام القرية، فصاح القرويون وأمسكوا ببندقية الضابط الصغير فانطلقت أثناء النزاع وأصابت ثلاثة رجال وزوجة عبد النبي، وهو شاب في الخامسة والعشرين.
وتوهمت السيدة المُصابة أنها ماتت، ولو أنه ثبت فيما بعد أنها أُصيبت بالبارود في أرق جزء من جسدها، وكان شعور القرية المصرية كشعور القرية الإنجليزية إذا قَتل أحد الضباط الصينيين - الذين تخيلناهم يصطادون الدِيَكة - زوجة أحد المزارعين الإنجليز.
غضب عبد النبي، ويجب أن نَعترف بأنه كتان مُحقًا، وأشعل (بيدر) غِلالِه بطريقة ما، ونظرية الإنجليز الرسمية أنه تَعمد إشعال النار لتقوم الثورة في العالم الإسلامي كله ضد الإنجليز!
وسرعان ما أقبل جمع من الصِبيان والمُتسكعين ورأى الضباط زميلهم في مأزق فهُرعوا إليه، وضَرب عبد النبي قاتل زوجته المزعوم بعصَا، وكذلك فعل حسن محفوظ، وبدأ الصبيان والمتسكعون يقذفون الأحجار، ولو كان هؤلاء الخمسة شرطة في لندن لرأوا أنهم في مثل هذا الظرف لا يستطيعون أن يفعلوا أكثر من الهرب، فمِن العبَث مناقشة جمهور مُهتاج، وبخاصة لو كنتَ تجهل لغته، ولو كان على رأس فرقة الصيد صف ضابط قدير لأخرجها من المأزق في أمان، ولكن الضباط أرادوا المُهادنة بإشارات وحركات مُضحكة وسلموا بنادقهم، وقدموا للجمهور ساعات ونقودًا، وهُم يصيحون: بقشيش! وأمسك رئيسهم بالفعل بخِناق المُعتدي، وادعى أنه يقبض عليه لقتل المرأة.
وبعد أن أساء الضباط التصرف وأصبحوا في خطر شديد، انطلقوا نحو عرباتهم، فحِيل بينهم وبينها وأُخرجوا منها قسرًا وضُرب سائق إحدى العربات حتى فقد شعوره، وقرَّ رأيهم أخيرًا على الجَري، على أن يَسبق اثنان منهم إلى المُعسكر ويعودا بالنجدة، ولكن أحد السابقين، وهو أصغر الجميع رُتبة، عاد فانضمَّ إلى زميليه المُتخلفَين، وبعد سِباق طويل تحت شمس مصر، وصل أحد الهاربين إلى قرية مجاورة ثم سقط مصابًا بضربة شمس مات بسببها، وقابَل الثاني فرقة من العَسَس "داورية" خفَّت معه للإنقاذ.
وفي نفس الوقت عمِل كبار أهل القرية والخفراء على تخليص الضباط الثلاثة الآخرين من أيدي الصبيان والمُتسكعين وعبد النبي وحسن محفوظ، وكفُوهم شرهم بعد أن ضُربوا ضربًا مُبرِّحًا، وكُسرت عظام ذراع واحد منهم، ثم عادوا إلى المعسكر بعرباتهم، وانتهى حادث اليوم.
- ويتابع "برنارد شو":
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو كان الجمهور انجليزيًا لما كان تَصرفه أفضل من هذا في مثل هذه الظروف، ومنذ شهور قلائل ضَرب الجمهور في لندن رجلاً مُسنًا ليس أجنبيًا ولا كافرًا، ضربًا أفضى إلى الموت، لأن الشرطي ظن أنه أتى فعلا فاضحًا في الحديقة العامة، وفي دنشواي لم يكن الضباط في مهمة رسمية، وقد اعتدوا بصفتهم الشخصية وفي وقت نُزهتهم على قرية صغيرة وفقيرة.
وفي الحق، إن الضباط استفزوا أهل القرية، ولما وقعت الواقعة التي أثاروها هُم، لم يُظهروا حزمًا في التصرف ولا صِدقًا في الحُكم، فكانت المُصيبة، ويجب بعد ذلك أن يُؤَنبوا تأنيبًا قاسيًا وأن يلوموا أنفسهم على ما حدث، فقد كانوا هُم السبب فيه، كما كان يجب أن يُعامَل القرويون بالرحمة، وأن يُؤَكد لهم أنه لن يُسمح بصيد الحمام في المستقبل.
- ويسخر "برنارد شو" من الحكم فيقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا ما كان يجب أن يَحدث، ولكن انظر ما حدث بالفعل:
فقد اكتُفى بالحكم على عبد النبي بالسجن المؤبد، مراعاة لما لحق بزوجته من ضَرر، ولم تقف الرحمة عند هذا الحد، فإن زوجته لم تُعاقب، بل إنها لم تُتهم بسرقة البارود الإنجليزي الذي وُجد في جِسمها!
وخشية أن يَشعر عبد النبي بوحشة السجن المؤبد الذي يَبدؤه في سن الخامسة والعشرين، جعلوا له رفيقًا آخر في سِن العشرين، ولم تَبدُ هذه العاطفة الرحيمة نحو حسن محفوظ، صاحب الحمام المصري الذي اعترض على صيد الإنجليز، وهدد أسياده الضباط البريطانيين عندما اصطادوا حمامه وضَرب فعلاً بعصا عادية، فهو إذن أفَّاق يجب أن يُمثَّلَ به، وعقوبة السجن المؤبد لا تكون لرجل في الستين يبدو في السبعين، وربما مات قبل أن يَقضي في السجن على سبيل التكريم الخاص لأسرته وليَتمتع زوجات أولاده وأحفاده بهذا المشهد الرائع من فوق السطوح.
وخشية أن يَدُب الحسد في نفوس أهل البيوت الأخرى شَنقوا معه ثلاثة آخرون، تتراوح أعمارهم بين العشرين والخمسين، ولكن هذا كان أقل العقوبات العلنية استثارة للنفوس، إذ ينقصه عُنصر الدم والتعذيب الذي يَشتهي خيال العسكريين والموظفين.
ولما كانت المِشنقة لا تتسع لأكثر من شخص ينبغي أن يظل مُعلقًا نصف ساعة على الأقل ضمانًا للنتيجة، وإطالةً لتَمتع أهله بمَرآه وهو يَتمرجَح ويدور حول نفسه في بُطء، وشَنق الرجال الأربعة يَستغرق ساعتين ينبغي أن يَستمر الحفل فيهما قويًا رائعًا، فقد جَلدوا ثمانية رجال لكل منهم خمسون جَلدة، وهو قدر يزيد عن الحد الذي يَسمح به قانون موسى السماوي بإحدى عشرة جَلدة، وقد وُضع هذا القانون في زمن يُعده جيش الاحتلال - بدون أدنى شك - وحشيًا.
ومن المُطمئن جدا أن تَعلم من التقارير البريطانية التي رُفعت للبرلمان، أنَّ تنفيذ الأحكام تم بكل وقار وبكل إنسانية مُمكنة، وأن الإجراءات كانت رائعة إلى حد يَحمل على الثقة بالقائمين بالأمر، ويبدو أن هذه الشهادة لا تُشير إلى الضحايا، فالواقع أنهم لم يَعتبروا ذوي شأن في الموضوع كله.
وأخيرًا يَشهد اللورد كرومر بأن الإنجليزي المسئول عن هذه الإجراءات، رجل ينفرد بإنسانيته وهو محبوب جدا من المواطنين المصريين للعطف الكبير الذي يُظهره دائما نحوهم.
- ويستمر "برنارد شو" في سخريته فيقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجَلِيّ أنَّ الوثائق البرلمانية رقم 3 / 4 (مصر 1906) لا تخلو من الفُكاهة، فقد أطلقوا سراح رجل واحد، رغم ما قد يكون في ذلك من الخطر الجسيم على الإمبراطورية البريطانية، وقد كان مَصروعًا وغشيَته النوبة عدة مرات في أثناء المحاكمة، حتى نصَح الطبيب بإطلاق سراحه فهرَب، وهذا أمر يُضايق، فقد قدروا أن عدد المجلودين يملأ فراغ الوقت اللازم للشنق بمُعدل مَجلودَين اثنين لكل مَشنوق، فاختلَّ هذا الإجراء بسبب فساد ذوق سعيد سليمان خير الله المصروع، مما جعل تنفيذ الحكم في درويش أمرًا مُتعبًا، فقد ظل مَشنوقًا ربع ساعة من غير أن يُجلد أحد لتسلية زملائه القرويين والضباط البريطانيين والبوليس الحربي الخيَّال والمُشاة الراكبين، وكان يجب الاحتفاظ بعدة أحكام جَلد احتياطية لمُواجهة مثل هذه الحالات الطارئة.
وعلى كل حال، لم يكن هناك وقت لجَلد كل إنسان، بل إن ثلاثة من المُذنبين لم يُجلدوا إلى الحد الكافي، ولذلك حَكموا على كل منهم بسنة أشغال شاقة بعد الجَلد، والسبعة الذين لم يُجلدوا أُرسلوا للأشغال الشاقة سبع سنوات، وآخَر خمس عشرة سنة، ومجموع عمل هذا الصباح، شَنق أربعة، أشغال شاقة مؤبدة لاثنين، و15 سنة لواحد، وسبع سنوات لستة أشخاص، وسنة واحدة لثلاثة، بالإضافة إلى خمسين جلدة، وخمسين جلدة لخمسة أشخاص، وشهد اللورد كرومر أن هذه الإجراءات كانت عادلة، ومشروعة لأسباب بيَّنها.
- ويستمر "برنارد شو" في السُخرية من عدالة بريطانيا فيقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويبدو أنَّ العدالة التي يَتشدق الإنجليز بإدخالها في مصر سنة 1882 كانت خيالية، وأنَّ العمل الحقيقي لمُناهضة الفوضَى المصرية كان منوطًا بلجان مؤقتة من المصريين أشبه بهيئات قُطاع الطُرق، فكانت هذه اللجان عند التبليغ بحدوث مخالفة ما، تَسقط على القرية المذنبة وتقبض على كل شخص له دخل في المخالفة وتأخذهم بالتعذيب الذي يَنصَب عليهم على حد سواء، حتى يَتهموا كل إنسان يُطلب منهم اتهامه، ثم تُعذِب المتهمين حتى يَعترفوا بأي شيء، بل بكل شيء يُتهمون به، وبعدئذٍ يُقتلون أو يُجلدون أو يُرسلون إلى السجن المؤبد.
ونُصبت المحاكم الوطنية - ذات القفار الأبيض - ولكن القاضي البلجيكي الذي عُين مدعيًا عموميًا فضَح الأمر كله، وكان لابد من مواجهة الموقف، ولابد من استقرار النظام على أي حال، ولكن المحاكم الوطنية التي أنقذت سُمعة الاحتلال البريطاني لم تف بالغرض المطلوب، وفضلا عن ذلك فقد كان مستر "بلنت" يشُن الغارة على الاستبداد والتعذيب، مُهددًا بتقديم الأسئلة للبرلمان، فكان لابد من ابتكار محكمة جديدة تُماثل المحاكم العسكرية البسيطة استحال قيامها بالأمر بسبب غَيرة المصريين الموالين لإنجلترا، وهذا النوع من الناس يجب أن يُشترى لأنه ليس طبيعيًا، والثمن هو وظيفة رسمية ذات مركز ومُرتب، ومن ثم تألفت سنة 1895 محكمة من ثلاثة موظفين إنجليز بدون مُحلفين أو نقض أو استئناف، وهم جميعا يُمثلون أحسن ما في وظائفنا القضائية والعسكرية، وهذا الأحسن يبدو فيما صدر من أحكام على أهالي دنشواي.
ويُبرر اللورد كرومر وجود هذه المحكمة بأنها - على سيئها - أفضل من لجان اللصوص، وبأن المصريين ألِفوا أن يَربطوا القانون والنظام بالجَلد والتعذيب والشَنق، وأنهم لا يَحترمون أية محكمة لا تَستمر في اصطناع هذه الأحكام.
وهذه دعوى لها نتائج بعيدة المَدى، فهي مثلا تُوصي بأنه يجوز لمُرسلي كنيسة إنجلترا أن يُقدموا القرابين البشرية إذا بَشروا بدينهم بين القبائل المُتوحشة التي لا يَفصل خيالها بين القتل والدين، وتُوصي كذلك بأن السبب الوحيد في عدم التجاء محكمة دنشواي لتعذيب المتهمين - حتى يعترفوا ويُقدموا الدليل على إدانتهم - هو مُجرد خشية عدم موافقة البرلمان الإنجليزي على هذا الإجراء، ولو أنَّ البرلمان الذي أقرَّ هذه الأحكام يستطيع في الحق أن يُقر أي شيء، ومن المؤكد أن المحكمة لم يكن في نيتها السماح للشهود بتجريح الضباط الإنجليز.
وقد حدث أن أحمد زقزوق وهو الأومباشي الذي صاحَب الضباط الإنجليز في رحلتي الصيد، أصر على أن الضباط أطلقوا النار على الجمهور مرتين بعد أن أصابوا المرأة، وظهر هذا في تقرير البرلمان، ولكن جريدة "مصر الفرنسية" قررت أن أحد القضاة الإنجليز سأل زقزوق إن كان لا يَخشى أن يقول هذا، فأجاب: لا يستطيع أحد في الدنيا أن يُخيفني، والحق هو الحق، فأمرَته المحكمة بالجلوس فورًا، ويُقرر المستر "بلنت" أنه حوكم بعدئذ بأيام لسوء مَسلكه في المَحكمة أمام مجلس تأديب وحُكم عليه بالسجن سنتين وخمسين جلدة، ومن غير أن نُسمي هذا بجفاء وغلظة، تعذيبًا لتخويف الذين شَهدوا ضد البريطانيين، فقد يوافقني أغلب العُقلاء عندما أقول إن زقزوق استفاد من هذا الدرس أن يَجعل شهادته مُستقبلا في صالح الاحتلال.
- وينتقد "برنارد شو" الدفاع والقاضي و "كرومر" فيقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يكن هناك مُحلفون فحسب، بل ولا ما هو أقل من الدفاع، فقد نُدب للدفاع عن المَسجونين مُحامون لا تَسمح لهم مراكزهم الملحوظة بإغضاب الاحتلال، لذلك كانوا أبعَد ما يكونون عن الدفاع، إنهم امتدحوا الاحتلال، قائلين إنه أكبر نِعمة أنزلها الله على بلادهم، وطلبوا الرحمة لمُوكليهم البائسين، لمسلكهم الذي أجمع المصريون على استهجانه، وقالوا: الرحمة فوق العدل.
وذكرت المحكمة في حيثيات الحكم، إنها استمعت للدفاع استماعًا كليًا، ومع ذلك فقد انهار الدفاع كله، وكل ما قاله المحامون في صالح المسجونين هو مجرد طلب الرحمة، ولو قُدِّم الدفاع المُناسب، فلربما اقتنع اللورد كرومر بأنه لا شيء يَحفظ الإمبراطورية البريطانية غير حرق القرية وصَلب جميع سكانها.
ويتلخص الدفاع في أن خمسة أجانب مُسلحين هاجموا القرية المصرية محاولين للمرة الثانية أن يصطادوا حمامها ويعودوا به إلى معسكرهم، وحاول أهل القرية أن ينزعوا سلاحهم، فجُرح أربعة منهم، وفقَد القرويون صوابهم واعتدوا على المُعتدين، ثم تدخل كبار القرية والخفراء فأنقذوا المُعتدين وأعادوهم إلى مُعسكرهم، وما كان يمكن أن يكون نصيبهم أسوأ من هذا لو أنهم ارتكبوا هذه الفِعال في أي مكان آخر.
ويستطيع الإنسان أن يتخيل ما كان يَحدث لأي مسجون أو محام يجرؤ على قول الحق على هذه الصورة، وأدرك المسجونون ذلك فلم يحاولوا.
لقد اتجه درويش نحو بيته وهو على المِشنقة، وسأل الله أن يعوضهم عن الوضاعة والظلم والقسوة في هذه الدنيا، ولو جَرؤ في المحكمة على أن يُقابل بين الله وهيئة المحكمة بما يُسئ إليها، لكان نصيبه بلا شك خمسون جلدة قبل الإعدام، حتى يُعلموه عَظمة الإمبراطورية، ولكنه أبقى رأيه لنفسه حتى اللحظة الأخيرة التي لا يستطيعون فيها أن يَفعلوا به شيئا غير الشَنق، وفي المحكمة فعل ما فعله الآخرون، فقد كذبوا وأنكروا واحتجوا بأنهم كانوا في غير مكان الحادثة في القرى المجاورة، وكانوا يَرعَون الماشية أو يَحصدون القمح، أو ما لم يكن، وأجاب واحد منهم - وكان أعور - عندما تعرفوا عليه، إن الناس جميعًا يُشبه بعضهم بعضًا، وأنكر درويش - وكان قد احتفظ ببندقية أحد الضباط - بأن أعداءه دفنوها ليلا بمنزله نِكاية فيه.
إنه أمرٌ يدعو للرثاء والشَفقة، لكن ليس إلى حد الامتعاض والحط من قاضي الشَنق الذي حَكم على نفسه - بحُكمه عليهم - أنه مُزور ومنافق وعاتٍ وجبان من الطراز الأول.
وقد اعتذر اللورد كرومر عن قاضي الشَنق الذي حَكم على المتهمين بأنهم حُوكموا محاكمة عادلة كل العدل، ولاحظ أنه لم يَقُل محاكمة عادلة بقدر ما يَسمح به ضَعف الإنسان، وهو أكثر ما يُمكن أن يُقال عن أية محاكمة على وجه الأرض، ولا رَيب أنه كان يعتقد فيما يقول، ولكن رأيه يهمنا فقط كمثال لحالته العقلية، والمدى الذي يفقد فيه الإنسان المَعنى البسيط للكلمات الإنجليزية بعد ثلاثين سنة من حياة الوظيفة في مصر.
واللورد كرومر يذكر أن مُديرًا في أوائل الاحتلال البريطاني هدد رجلاً بالكرباج في حضرة السير "كلود ماكدونالد" فقال الرجل: لا تستطيع أن تجلدني والإنجليز هنا، فماذا كان يقول هذا الرجل الآن؟ وماذا يقول اللورد كرومر بعد أن ألقى الرعب في القلوب بالكرباج والمشنقة؟ لقد ألغى اللورد "دوفرين" عقوبة الضرب بالعصَا سنة 1883 لأنها عقوبة فظيعة ومنافية للخُلق، وفي سنة 1906 يرى اللورد كرومر أن عقوبة الجلد المتوحشة ضرورية وعادلة، وليس في تنفيذها ما يَستوجب المؤاخذة، ويزيد على ذلك قوله: إنني قضيتُ ثلاثين سنة من حياتي أحاول جديًا أن أرفع مستوى الأخلاق والمَعيشة للشعب المصري، وعاونني في ذلك عدد من أكفأ الموظفين تحدوهم نفس الرغبة.
إن مصر لتَهتز غضبًا عندما تقرأ هذه الكلمات، وإذا كانت حادثة دنشواي تتوج الثلاثين عاما الأولى، فكيف تكون مصر بعد ثلاثين سنة أخرى من النهضة الأخلاقية التي تحدوها نفس الروح؟!
لعله يكون أكثر تسلية وسُرورا لو عدنا لخطاب اللورد كرومر الأول الذي أرسله للسير "ادوارد جراي" عن دنشواي إذ يقول فيه:
"سيُصدر القائد العام عما قريب أمرًا بمنع الضباط عن صيد الحمام في المُستقبل، مهما كانت الظروف" وأرجوك أن تسـأل لماذا هذا المَنع، إذا كانت المحكمة قررت أن الضباط كانوا ضيوفًا - ضيوفا بالفعل - ولم يفعلوا شيئًا يستوجب اللوم، والمستر "فندلاي" مراسل رسمي آخر للسير ادوارد، جدير بالاهتمام، فبعد أن استحال على المحكمة أن تدفع بالتقرير الطبي إلى أكثر من القول بأن ضرب الفلاحين والجري تحت شمس مصر قد مَهدا لضربة الشمس التي مات بسببها الضابط، في حين أن الضباط الذين كانوا عاجزين عن الدفاع ووقعوا في أيدي الفلاحين، حضروا المحكمة أحياء أصحاء، يقول المستر "فندلاي" أن الأربعة الذين شُنقوا ثبت أنهم ارتكبوا جريمة القتل بوحشية وإصرار، ثم يَشكون من أن الصحافة الوطنية تُغفل الحقائق وتُحاول أن تُدلل على أن هناك مبالغ طائلة أنفقت.
والمستر "فندلاي" فيلسوف بعض الشيء، فهو يقول إن المصري قَدَري مُتواكل، لا يَخشى الموت، فالجَلد له ما يُبرره كعقوبة قانونية، وهذا المَنطق يقضي بأن الأربعة الذين شُنقوا كان يجب أن يُعاقبوا بالجلد لا بالشَنق، ولكن المستر "فندلاي" لا يهرف بهذه النتيجة، فالمنطق ليس من نواحيه القوية، وإنما هو رجل مشعور، مضطرب الأعصاب، فهو يقول: لا أعتقد أن لهذا الهجوم الوحشي على الضباط البريطانيين أية صلة مباشرة بالكُره السياسي، وإنما هو يَرجع إلى روح عدم الخضوع التي تَعودها المُهيجون المغرضون غير الحصيفين في العام الماضي، ومن واجبي أن أحذركم من النتيجة المُؤسفة التي ترتبت في مصر على اهتمام أعضاء البرلمان بمناقشة الحكم الاجتماعي الذي أصدرته محكمة مُشكلة قانونًا وأعضاؤها من خيرة القضاة الإنجليز والوطنيين، هذا الاهتمام سيصبح في يد المُهيجين السَفلة الذين يرأسون ما يُسمى الحزب الوطني أداة كانت تنقصهم للآن.
إن مستر "فندلاي" لا يقاوم، فهو يُعطينا مقياس السلطة الحكومية وطعمها، ويستمر يقول: وبعد دنشواي بأيام قلائل قذف الوطنيون أحد مفتشي الري بالأحجار وألحقوا به أذًى شديدًا، ومنذ يومين أنزَل وطنيان جنديًا من على حماره ورفسوه في بطنه، والدافع في هذه الحالة الثانية كان السرقة، وهدفي من ذِكر هذه الحوادث أن أظهر النتائج المُنتظرة إذا ما بدأ الناس يترددون في احترام القانون، ولو استمرت هذه الحال وخاصة إذا وَجد الهياج في هذه البلاد أنصارًا في إنجلترا، فلن يطول الوقت حتى تَظهر الحاجة لإصدار قانون الصحافة وزيادة جيش الاحتلال إلى حد كبير.
تأمل هذا القول! كثير جدا أن يُضرب مفتش واحد للري في بلد يَسكنه عشرة ملايين، فمجزرة دنشواي إذا كان الغرض منها تعليم المصريين احترام القانون، ويَعتدي ثلاثة من الوطنيين على جندي فيُسقطونه عن حماره ويَسلبونه نقوده، فيَجزع المستر "فندلاي" لإفلاس المدنية، ولا يرى علاجًا غير مصادرة الصحف الوطنية، وزيادة جيش الاحتلال، ويكتب اللورد كرومر: غاية ما أقول إني مُقر لملاحظات المستر "فندلاي" بوجه عام، ولو بقيتُ في مصر لاتخذتُ نفس الإجراء الذي يشير به.
- ويضيف "برنارد شو":
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن يجب أن أنتهي من هذه الوثيقة البرلمانية الغنية، فقد استخرجتُ منها ما يكفي لرسم الصورة، فإذا كانت إنجلترا تنوي أن تحكم امبراطوريتها في العالم كما حكمت دنشواي سنة 1906 - وأخشى أن يكون هذا هو معنى الإمبراطورية عند الطبقة الارستقراطية العسكرية - فلن يكون هناك واجب سياسي أقدس ولا ألزم على الأرض من تَفكيك أوصال هذه الإمبراطورية وهزيمتها ورد شكيمتها، ومن ناحية عَرضية إعادة أنصارها إلى حظيرة الإنسانية.
أما عن المصريين، فكل رجل نشأ في مَهد النيل، يخضع طواعية للحكم البريطاني بعد حادثة دنشواي، أو يقبل منها أي عهد ورابطة، غير رابطة الأمم الحرة المتساوية يستحق أسوأ ما يعتبره اللورد كرومر عدلا وضروريا وهو الشنق، هذا هو ما تجنيه لو حاولت أن تثبت تفوقك بالإكثار من الجنود الخائفين والموظفين المخالفين للطبيعة بدلا من المساعدة الجريئة والتفوق الخلقي.
وعلى أية حال، لا ندع إنجليزيا يرضى أن يترك عبد النبي ورفيقه ابن العشرين في السجن المؤبد، ويُفاخر بأنه استطاع أن يفعل ذلك، ثم يدَّعي أنه أهل لحُكم بلدك أو بلاده هو، ولا يمكن أن تُحصر المسئولية في المحكمة، وموظفي الاحتلال فاقدي الأخلاق، فقد أُخطر مجلس العموم قبل الحكم بأربع وعشرين ساعة بتلغراف تحت يد السير "ادوارد جراي" بمطالبة المجلس بإظهار بريطانيا بمظهر الدولة المتمدينة التي لا ترضى بالجلد الوحشي، وأحكام الشنق الانتقامية.
ومع ذلك فقد ذهب احتجاج أحد النواب الأيرلنديين عبثًا، وكان النائب الإيرلندي يَعرف تمامًا معنى الاحتلال البريطاني، وما يعنيه المستر "فندلاي" بالولاء لبريطانيا، أما السير "ادوارد" - نيابة عن حكومة الأحرار الجديدة - فلم يكتف بتأييد أحكام دنشواي والدفاع عنها، بل ناشد المجلس بانفعال زائد أن لا يَنقدها أو يرفضها، على أساس أن عبد النبي وحسن محفوظ ودرويش والباقين هم طلائع مؤامرة إسلامية هائلة ضد المسيحية باسم الدين، وستُكسح المسيحية في إفريقيا وآسيا، وقد وقف في البرلمان من قبل يُندد بجلد الصينيين والعقوبات العسكرية في جنوب إفريقيا التي نفذتها الحكومة الإمبراطورية الأخيرة في حضور أقارب الضحايا.
وهذه أكذوبة غبية، سخيفة، عجيبٌ جدا أن تجوز على أي إنسان ذكي له خبرة بالسياسة، ولن تُغر الإنسانية لوزير خارجية بريطانيا عجزه عن أن يرى أن هذه المؤامرة لو كانت حقا قائمة، لكان من واجب بريطانيا أن تواجهها وتحاربها بوسائل شريفة، بدلا من جلب عدد من الفلاحين الفقراء، لا يُجاوز أصابع اليد، وشنقهم، ظنا أن هذا يُخيف الإسلام ويحمله على الخضوع، ولو كنت منحطا - إلى درجة أنسب فيها للسير "ادوارد" موهبة التفكير الامبراطوري - لقلتُ له: "إذا قُدر لنا جميعًا أن نُقتل، فيجب على الأقل أن نموت أشرافًا".
ولعلي أتناول الأمر من ناحية شخصية، فأقولُ إنه حصل على مركزه الاجتماعي وفرصة السياسة التي لم تُتح لغيره، لأن المفروض فيه أنه يُدرك أكثر من غيره، أنَّ الحياة لا قيمة لها بغير شرف، وما دام الجُبن سريع العدوَى، فهلاَّ يكون من المرغوب فيه أن نُبعد الموظفين الذين عجزوا عن إخفاء مَخاوفهم بعد أن خدموا في الشرق مدة طويلة.