بيدرو ساليناس Pedro Salinas - الأميّون الجُدد..

ماذا بعد تعلُّم القراءة والكتابة؟ أُثيرت في هذا المقال أسئلةٌ عديدة، وعلى الرغم من مرور ما يقارب النصف قرن على نشر المقال للمرة الأولى إلا أنَّ هذه الأسئلة لا تزال محورية، كما كانت دائما..

تضرب الأميّة بجذورها في التاريخ عبر قرون عديدة، وبفضل الرب فقد بزغ الفجر رويداً رويداً، وحتَّى اليوم لدينا تعليم إبتدائي إلزامي. قد يتفق أغلب الناس -ومنهم المدرسون- على أن إكتساب مهارات التعلّم أو حتَّى القدرة على القراءة، تُمثل حدّاً فارقاً يُشار به بوضوح إلى تقسيم الجنس البشري إلى مجموعتين بينهما اختلاف تام.

في الجانب الأول من هذا التقسيم، تقبعُ جَمهرة بائسة من الناس يعتريها العجز عن خوص غِمار الكلمة المطبوعة، لتظل منعزلة بالخارج عن العالم أجمع. كما لو أنهم قد اصطفوا على شاطئ بحرٍ سيصلون بعده إلى حدائق غنّاء، لو أنهم فقط يمتلكون سُفن تُعينهم على سبر أغواره.

على الجانب الآخر، هناك حشود من أهل التميّز ممن نالوا حظاً وفيراً ليصلوا إلى تلك الحالة المُبارَكة التي يعلمون فيها يقيناً أنَّ "ك" و "و" تُكوِّنان "كو" و أن "ك" و "ا" تُكوِّنان "كا" فالمعرفة لها كل الفضل في كشف الغموض عن المصلقات التي تُروّج لتلك الكلمة السحرية "كوكاكولا".

إلا أنني لابد وأن أعترف بالشكوك التي تراودني حتَّى الأن حول موثوقية هذا التقسيم الصارم الذي يصنّف البشرية إلى "أُميّين" و "متعلّمين"، وخاصة استخدامه -أي هذا التصنيف- كأداة لتقييم الناس.

إن عدم القدرة على القراءة والكتابة هو شئ طبيعي، فكلنا قد خُلِقنا على هذا الحال. لم يولد أيّ منَّا متعلماً. أعني بذلك أن الإنسان عند ولادته يكون في حالته الطبيعية "أُميّا" لكن ما أن يكتسب القدرة على القراءة حتَّى يصبح متعلّماً بدرجة محتملة.

لأسباب عديدة -لن أتطرق إليها هنا- يقرر المجتمع تحويل هذه "الإحتمالية" إلى "حقيقة مؤكَدة". بعبارة أخرى، فإنهم يُحوّلون ذلك "الإستيعاب الفطريّ" لدى الإنسان على فهم الحروف والإشارات والنظر إليها على أنها "براعة" في فن القراءة. يحدث ذلك عبر عدة وسائل ضمن عملية مُعقّدة تبدأ بشئ بديهي وتستمر إلى نهاية لا يعلم مداها إلا الرب. وبنهاية ذلك المطاف الذي يُشار إليه بـ"التعليم الإبتدائي" يُشاع عن ذلك الهدف بكل فخر أنه أصبح شخصاً مُتعلِّما ذو امتياز رفيع، وهو كذلك بلا ريب.

ولا خلاف حتَّى الأن. لكن القدرة على القراءة أمرٌ يحمل بين طيّاته شئ من الإحتمال. فكونك "تعرف كيف تقرأ" هذا شئ، و "أن تقرأ" حقا هذا شئ آخر. فإذا ما كان المتعلم حديثا لا يتدرب على توظيف مهاراته بالقراءة، فما فائدة أمر تعلُّم القراءة برمَّته؟! لنمض إذاً إلى المرحلة التالية من هذا التحليل الذي يتناول القيمة الحقيقية لتعلُّم القراءة والكتابة. لنفترض أن القارئ المُحتمَل يتخذ من الخطوات ما يجعله قارئاً حقيقياً، هل يعني ذلك أنه يمكننا القول بأن أهداف التعلُّم قد تحققت؟! على الإطلاق، لأنه بهذه المرحلة توشِك قصة جديدة أن تبدأ. لقد أصبح الأُميّ مُتعلِّماً، وأصبح المُتعلِّم قارئاً، والقارئ قد انخرط بعملية القراءة، لكن مدار الأمر حول ماذا وكيف يقرأ المرء؟

يقفز السؤال ذاته إلى الذهن مرة أخرى. كل قارئ هو قارئ جيد بدرجة مُحتمَلة. لكن هل حقا سيصبح كذلك أم لا؟! إن كانت الإجابة: نعم. فيمكننا القول بأن هدف التعلُّم قد تحقق وهو القدرة على القراءة القيِّمة التى تصير فيها الكلمة روحاً وتدُب الحياة في النصوص.

لقد بات جليا أن أهداف التعلّم نادراً ما تتحقق بشكل كامل. ويجب أن يسترعي انتباهنا وجود أولئك الذين أُطلِقُ عليهم "الأميّين الجُدد". أولئك الذين فُكَّت أصفاد الجهل الكامل عن معاصمهم، لكنهم لم يرتقوا بعد إلى سمو القراءة، لكنهم يرزحون في ردهة ما بمنتصف الطريق.

لا أُشير بحديثي هنا عن هؤلاء الذين لا يستطيعون القراءة لنقص في الكتب أو المكتبات. فهذا النوع من المشكلات ذات الطابع العملي يسهل حلّه. بل إنَّ حديثي عن أولئك الذين يستطيعون القراءة ولا يفعلون ذلك لأسباب أكثر عمقاً وتعقيداً من مجرد عدم وجود كتاب بين أيديهم.

إنني أود أن أُشير إلي صنفين من الأُميّين لنتدبر حالهم. الأول، هم الأميون طبيعةً وبشكل تقليدي بحت ولسبب ما لا يعرفون كيف يقرأون. ويصطبغ حال هؤلاء بالمأساة نظراً لقدرتهم على بلوغ روابي الكمال، لكنهم يفتقرون إلى حافز عقلي لإدراك هذه القدرة فيعتريهم السكون لنقصٍ في المعرفة والثقافة. ينتابني شعور بالاحترام والتعاطف والإعجاب تجاه هذا النوع من الأُميّين. في بلادي، ما عليك سوى أن تجوب هِضاب قشتالة أو بساتين الزيتون في الأندلس حتى تلتقي بهم. وما إن تتعرف عليهم حتَّى تتجلّى لك إنسانيتهم ويتدثر سلوكهم بالوقار وتتسم قراراتهم بالحكمة وكأنهم مِثل أولئك الناس الذين اعتمرت عقولهم بأُسس المعرفة.

أما الصنف الثاني من الأميّين، فيمكنك وصف أميتهم بالهجينة والمزيّفة، فهي نتاج التعليم الحديث، وبشكل عفويّ هم تجسيدٌ لخطاياه. هؤلاء هم الذين يعرفون كيف يقرأون. لكنهم على الرغم من نواياهم وما يطمحون إليه؛ يظلّون أميّين، وأنا أسمّيهم "الأميّين الجدد".

ذلك النوع من "الأمية الجديدة" ربما يكون كُليّا أو جزئيّا. الأميّون الجدد بشكل كليّ هم الذين ينتهون من تعلّم القراءة والكتابة بالمدارس ثم يختارون عدم استخدام مهارات القراءة هذه إلا عند الضرورة كقراءة خطاب ما، أو مطالعة تذكرة سينما أو برنامج مسرحي، أو مراجعة دليل الهاتف. بعض من هؤلاء ربما يسترق النظر في صفحات الرياضة وبذلك هم يستمتعون بشكل ما من أشكال الصحافة التي تستحق التقدير حقاً من حيث أنها المنفذ الوحيد لبعض الناس للإقبال على القراءة. كثيرٌ من هؤلاء نشِطٌ وعمليّ -وباستعارة ذلك المصطلح الرابط بين أسرار الإغريق ومثيلاتها الهندسية- ومفعم بالحيوية.

هناك أيضا نوع من الأُميّين الجدد بشكل جزئي، فتراهم يحومون حول أكشاك الصحف كالنحل الذي يصدر طنينا حول زهرة رائقة الرحيق في رحلتهم للبحث عن مكونات لصنع عسل حياتهم الروحية. لا يطالعون الكتب أبداً، لكنهم منسحِقون في فتنة تكاثر المجلات والموضوعات التي تغطيها. هم مثيرون للشفقة، لأنهم وبعيدا عن إدخار جهودهم كقراء؛ فهم مسرفون جداً فيها مع هذه المجلات. هم يقرأون بِنَهَم تلك الأطروحات الضعيفة، عائدين لمنازلهم مُثقَلين بتلك المجلات ويدورون بالحرث فيها لمدة ساعات وبالنهاية لا يحصلون إلا على ما يمكن أن يحصل عليه طفل يلهو بأُحجيَته ولا يتمكن من حلها. ويعجزون عن رؤية الصورة الكاملة التي يتواجد كل جزء فيها بموضِعه الصحيح.

هذا النوع من القراء يثيرون شفقتنا حقاً. فكلّما يقرأ كثيرا؛ تنجرِف أقدامه في بحر لا حدود له من هذا النوع من المطبوعات، يزداد منسوبه بضعة أمتار كل أسبوع. من يقرأ كتابا؛ يعلم أين تبدأ رحلته وأين تنتهي، يحصل على قسط من الراحة، أو يأخذ أجازة. أما قارئ المجلة، خاصة إن كان من أصحاب الاشتراكات، فسيشعر بغضبات تلك المخلوفات الأسبوعية، نصف أسبوعية أو الشهرية. وإن أبدى تقاعسا عنها؛ ابتلعته أمواج المطبوعات الصحفية المتلاطمة. وحتَّى يظل مطّلِعا على المحتوى الذي ينبع من المطابع؛ فعلى هذا القارئ أن يبذل جهدا خارقاً. فمئات الكُتّاب يُسطّرون المقالات لعدد كبير من المجلات لتلاحق القارئ أينما يخطو وكأنها كلاب صيد لا يعتريها التعب ولا تترك لفريستها أي قسط من الراحة.

خلاصات عديدة يمكن أن تتبادر إلى الأذهان عبر هذه اللوحة المنقوصة بالضرورة في معرض الأمية الجديدة. أولا، علينا ألا ننسى أن كلمة "يقرأ" هي كلمة غامضة وبالتبعية تعبيرات ومصطلحات مثل "يتعلم أن يقرأ" و "يعرف كيف يقرأ". هذه تعبيرات معقدة ولا ينبغي أن تؤخذ بمقصودها الحرفي ولا معناها السطحي الذي يشير إلى الوصف البسيط للقدرة على فهم أوضح معاني الكلمة المكتوبة. لا شك أن إجادة ذلك الأمر ينتزع الإنسان من قاع الأمية البدائية وتتفتح أمامه آفاق جديدة. لكن ماذا لو أن هذه القدرة على رفع مَلكَات النفس لم تُستخدَم للإشباع الروحي؟ حينئذ سيجد الإنسان نفسه في حالة تبدو متناقضة، لكنها مع ذلك واقعية جدا، كهذا الأميّ الذي يعرف كيف يقرأ. لقد انتُزِع من قبضة الأمية البدائية، إلا أنَّ هجران مَلكَة القراءة أو إهمالها يؤدي بالشخص إلى مَسلَك ناكص متقهقر ينتهي به إلي حيث بدأ و أسوء.. إلي الأمية الروحية.

ورغم قسوة تلك الحقيقة إلَّا أنَّ الإحصائيات والمواثيق المجتمعية تدعم حتمية النظر إلى هؤلاء على أنهم متعلّمين! وأنهم ينتمون إلى الفئة المميزة التي تعرف كيف تقرأ. وفي هذا الشأن -ككثير من الشئون الأخرى- لا يتوانى العالم عن قبول نصف الحقيقة بابتهاج لا ينبغي أن يُمنَح إلا للحقيقة الكاملة. في الوقت نفسه يسود شعور غامض بأن كل شخص هو ضحية لوهم الثقة الكاذبة بالنفس لكنه لا يتوانى عن ارتكاب الخطأ ذاته. إنَّ الرقعة التي تحتلها هذه المجموعة تتسع ببطء، وقد حان الوقت لوضع مُسمّى لهم وبحث ما تنطوي عليه طبيعتهم. إنهم الأميّون الجُدد، وهم أكثر خطورة وتهديد من أصحاب الأميّة البحتة. فهم لا يلتحِفون ظلال الجهل مع الشيطان ولا تطمح نفوسهم إلى نور المعرفة الإلهية. لديهم القدرة على فِعل كل شئ ولا يجازفون بأي شئ.

هناك توابع أخرى لتزايد أعدادهم، لذا فقد صار لِزاما علينا أن نهجر حالة التعامي والتكاسل تجاه ما يقال عنها "مشكلة الأمية" فسياسة التعليم الحديث تُظهِر قداسةً لِوَثن مُلطّخ بالدماء وتُضحّي من أجله بكل شئ رغم إنتفاء أي ضمانات بأي شئ لأشد عِبادِه لهفةً وحماسة. "مكافحة الأمية" تلك العبارة التي يُعاد تداولها مراراً وتكراراً في الصحف والمجلات والخطاب السياسي؛ تبث الذعر في قلوب الناس.

بعض من يطالعون ما أكتب قد تنتابهم حالة من السخط تجاه ذلك المُهرطِق الذي تجرأ على إثارة الشكوك حول "مكافحة الأمية". وعلى الرغم من ذلك فإن حجّتي في هذا الأمر تقوم على قاعدة راسخة -أو ربما تكون كذلك على الأقل- أقصد بها أن تعليم الناس أن يقرأوا ليس كافياً -في أغلب الأحيان- أن ينتشلهم من فقرهم الروحي المتجذّر، أو كما قال ت.اس. إليوت: " في أضيق نطاق يمكننا القول بأن التعليم يُنتج ثقافة". وربما سيُفهم من كلامي أن مسعاي هو أن تأخذ تلك العبارة وهذا الشعار -محو الأمية- روحا جديدة.

ولا أقصد بذلك التقليل من هول مأساة الأمية، بل على النقيض تماماً، إنني أؤمن أننا نتعرض لهجوم من اثنين من أعتى الخصوم. الأول، معرفتنا به قديمة العهد وهو عدو نُدرك على الفور حالته وإليه نُصوّب أسلحتنا التعليمية الكبرى. لكن إلى جانب ذلك، هناك عدو آخر ذو حال مختلف، يتخفّى خلف قناع التعلُّم، يخدعنا ويهوى بنا بين براثن إيمان مُزيّف بأنه "لا يُمثّل مشكلة على الإطلاق" وأنه جزء منّا وعامل بنّاء في محراب العقل. بيد أنه بالحقيقة طابور خامس في غزو الأمية الشاملة لنا، وعدو لدود إن واجهناه بمقاومة كلامية غير فعّالة؛ فسوف يصير منا في موضع الروح..

لا جدال في أن انتزاع الألاف المؤلفة من نيران الأمية في التعليم الإبتدائي؛ أمر جدير بالثناء. لكن هؤلاء الناجون حديثاً من ظلام الأمية ولهيب الجهل الحارق لابد من رعايتهم بعناية. فثمّة صدمات مؤلمة خلف جدران التراخي. يخوض هؤلاء الأطفال غِمار الحياة وسلاحهم الوحيد هو أساسيات مهارات القراءة والكتابة، والثقة المُضللة بأنفسهم مُعتقدين أنهم قد دكّوا حصون الجهل بالفعل! ثم يجدون ذلك الخصم شديد البأس في الجهة المقابلة.

تلك الدائرة التي تنصب لهم الفِخاخ حتَّى يدخلونها، فتحوّلهم إلى كائنات أقل قيمة؛ إلى أُميّين جُدد، يُقبلِون حينها على العيش بهناء في سجون ضيّقة من الجهل، مستمتعين بكل ملذات العصر الحديث ومحكومين بحياة أبدية على تخوم شكل أخر من أشكال الجهل، ولن يكون زادهم في هذه الحياة ثِمار البلّوط من شجرة الحكمة النبيلة عند هوميروس، بل إمدادت اصطناعية هي في ذاتها أكبر ناتج مُعجِز من التقدم العصري


منقول
أعلى