عبد العزيز المقالح - فتنة الشعر وغوايته المتجددة*

"الشعر علْم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه".
عمر بن الخطاب

"هل يكفي الشعر أن يحفر وعده في جوف الوقت؟".
أدونيس

" الشعر يقوّم الخطأ ويحرك السماء والأرض والأرواح والآلهة".
حكمة صينية

"لا يبقى العالم كما كان بعد أن تضاف إليه قصيدة جيدة".
ديلان توماس


لم تكن فتنته لغواً، ولا غوايته كلاماً في الهواء. ذلك هو الشعر، هذه الغواية الإبداعية التي شكلت -عبر التاريخ الضارب في القدم- حاجة روحية لا غنى للبشرية عنها تحت كل الظروف وعلى اختلاف الأحوال. وسيكون بإمكان الدارسين الكثيرين الذين ينكبون على تاريخ الشعر، أن يعثروا له على بداية ما. لكنهم سيكونون أعجز من أن يتنبأوا له بنهاية؛ وذلك لأنه من الفنون القليلة التي تعمل على اتساع مساحة الحلم وتعميق إحساسنا ووعينا بإنسانيتنا، والتي يصعب، بل يستحيل الحديث عما بعدها، كما هو الحال مع الأفكار والمبادئ الاقتصادية والسياسية والمذاهب الفكرية والأدبية، حيث نقرأ عما بعد الرأسمالية، وما بعد الحداثة والبنيوية، وما بعد الكلاسيكية والرومانسية، إلى آخر الماورائيات التي نتجاوز معها الأسئلة القديمة إلى أسئلة حديثة وأكثر حداثة.
ولعل أهم فاعلية يحققها الشعر للبشرية عبر موسيقى الإيقاع، أكانت خارجية أم داخلية، والتي ترتعش لها النفس ويهفو إليها الوجدان، تلك الغبطة اللذيذة والرغبة العميقة في مسايرة الشعراء في مغامراتهم اللغوية المدهشة، وتأويل ما يتوصلون إليه من رؤى وصور شعرية تستأثر باهتمام القراء على اختلاف حظوظهم من امتلاك متفاوت لما يسمى بآليات التلقي. ومن الميزات التي يحظى بها الشعر أنه الفن القولي الوحيد الذي يجد فيه القراء العاديون نصيبهم، كما يجد فيه خاصة القراء نصيبهم أيضاً. ومع تطور العلوم ووصول الإنسان إلى القمر، لم تنكسر رغبة الشعر في الحلم، ولم تنجح الاكتشافات العلمية المذهلة في تحطيم شهوة المغامرة الشعرية، التي تمضي من منطقة قصية إلى منطقة أقصى، مؤكدة أن الواقع وما وراء الواقع سيظلان يمدان الشعر بما لا يمكن حصره من الأخيلة.
ويبدو لي أن حاجات الإنسان الروحية غير الآنية، ومنها الشعر، ستظل تصحبه إلى ما شاء الله. وفي عتمة الأوضاع المتردية الراهنة، ستظل التجربة الشعرية قادرة على أن تضيء الوجدان وتنشر المزيد من الحب والأمل، وتعكس – في الوقت ذاته- أَرَقَ الكون وأحزانه تجاه ما يرتكبه الخارجون على قانون المحبة والعدل والحرية. وصحيح أن أكثرية ما ينشر ويقال باسم الشعر، يفتقر إلى المعنى الحقيقي للشعر، والقليل جداً من هذا الذي ينشر ويقال هو الذي يحمل الدفء الداخلي الخاص؛ إلاَّ أن ذلك لا ينفي حب الناس للشعر، وإقبالهم عليه، بوصفه التعبير الفني والجمالي الأعمق والأكثر نفاذاً إلى الروح، ولا يمكن لأي شكل إبداعي آخر أن يأخذ مكانه أو يغني عنه؛ لما له من خصوصية تعبيرية متوهجة في لغته وفي طريقة أدائه.
كثيرة هي تعريفات الشعر، وأكثر منها محاولات تفسيره أو الكشف عن ماهيته. وأقرب ما يسعفني منها الآن هذه الإشارات الغنية في دلالتها التي تميز الشعر عن غيره من الأنساق الفكرية والجمالية تلك التي يبدعها الإنسان "بكونه يمتح منها جميعاً، ولكن بطريقة تضمن له تأسيس خصوصيته الإبداعية الكائنة في القدرة على التحويل والصهر؛ فعودة الشعر إلى الأسطورة، مثلاً، لا تتم عبر محاكاة آلية لعوالمها، ولكن من خلال تركيزها وامتصاصها وإعادة إنتاجها وقد اكتسبت بعداً رمزياً جديداً يصلح للدلالة على أكثر من موقف وأكثر من تجربة. ومن هنا نستطيع القول: إن الشعر يعيد نحت التسميات بالإفراد والتركيب تبعاً للأشكال الجمالية الباذخة، وتبعاً لحرارة التجربة التي يؤججها طقس الكتابة ورهافة الأحاسيس العميقة المدعومة بحدوسها، وعندئذ يتحقق للنصوص الإبداعية وجودها القدسي المتعالي عن الميتافزيقيا والعلم في آن واحد"(1).
بهذه العلامات أو الإجابات المقترحة على طريق ارتياد موضوع "الشعر في حياتنا" يمكن القول إن الشعر كان وما يزال يشكل مجموعة من الإنعكاسات والأصداء في حياة الإنسان، ويرسم بالإيحاءات أو المحسوسات ملامح غير مباشرة من التاريخ بكوارثه ومباهجه. ويمكنني القول –دون مبالغة- إن الشعر ما يزال مصدر تأثير كبير وواسع في حياتنا الراهنة. وحين أقول هذا، فأنا لا أنظر إلى ما يصدر من دواوين مكتوبة بالفصحى والعامية، ولا إلى ما تنشره الصحف والمجلات وتقدمه الإذاعات والفضائيات، وإنما أمد النظر إلى أماكن أوسع وأكبر، قريبة وقصية، تتمثل في القرى والنجوع والواحات، حيث الشعر في صورته الأولى يتحسس أنفاس الإنسان وزفراته، ويرتوي بما في الأرياف من جمال وحيوية، ويعيش مع الناس في أعمالهم وفي استراحاتهم، يتناقلونه في الفضاء المفتوح بعيداً عن النوادي والقاعات والصالونات المكتظة بدخان السجاير والنميمة وبما لا يكاد يمتُّ إلى الشعر بأدنى صلة.
وفي هذا الصدد هناك شعر تصنعه الحياة، وشعر يصنع الحياة. شعر ينشده الإنسان وحيداً، وشعر ينشده الإنسان والدهر معاً. وسأمثل لهذا الشعر، الذي تصنعه الحياة، ببعض مما كتبه الشاعر طاهر رياض في ديوانه الرابع "حلاَّج الوقت":
على حين غرَّةْ
رماني
ولملمني
واصطفاني
وغيَّر فيَّ
وغيَّر بي
وابتلاني.
وحين تذكرته وحننتُ
شكاني إليَّ
إليه
وأفرغني مثل جرَّةْ
على حين غرّةْ!(2)
ومن الشعر الذي يصنع الحياة نماذج كثيرة لا تحصى، لشعراء لا يحصون عدداً، من الماضي البعيد والقريب، ومن الحاضر الراهن. وأقرب نموذج إلى هذا الشعر قصائد سعدي يوسف، وما تتمتع به من جاذبية الموضوع وجاذبية الأسلوب.
تطير الحمامات في ساحة الطيران
البنادق تتبعها، وتطير الحمامات
تسقط دائخة فوق أذرع من جلسوا في الرصيف
يبيعون أذرعهم.
للحمامة وجهان:
وجه الصبيّ الذي ليس يؤكل ميتاً،
ووجه النبيّ الذي تتأكَّله
خطوة في السماء القريبة.
تطير الحمامات في ساحة الطيران، ارتفعنا معاً..
في سماء الحمائم، قلنا لسعف النخيل وللسنبل الرطب:
هذا أوان الدموع التي تضحك الشمس فيها، وهذا
أوان الرحيل إلى المدن الفاضلةْ(3)
وكثير هو الشعر الذي ينشده الإنسان لنفسه ومع نفسه. ومنه هذا الحوار الذاتي المفترض بين شاعرين: من المنصف الوهايبي إلى زميله محمد الغزي في تونس:
قال: بيتي السماء.
قلت: إن العصافير أقرب مني إليه، إذاً!
قال: عرشي على الماء.
قلت: وهل سمَكُ النهر أقرب مني إليه، إذاً!؟
قال: فيكم أنا
والقلوب التي عميتْ سترى.
قلت: كيف؟! ألستُ بريئاً أنا كالندم؟!
قال: إن لم تكن، فشبيه بهِ.
قلتُ: إن مُتَّ؟
قال: لكم ملكوت السماء
لكم كل هذا العدم!(4)
أما الشعر الذي ينشده الإنسان والدهر معاً، فهو هذا الذي يأتي عاصفاً وصاعقاً على غرار صاحب هذا الصوت الجسور الممتلئ ثقة بالنفس وكبرياء لا يجارى:
وما الدهر إلاَّ من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمراً
وغنى به من لا يغني مغردا(5)
ولصاحب هذا الصوت أنداد وأشقاء، وله محاكون ومقلدون عبر القرون التي جعلته عالقاً في الذاكرة لا يبرحها. ومن الأنداد المعاصرين الذين يقفون على الضفة الأخرى من النهر الذي شقه صاحب ذلك الصوت، نذكر الشاعر نزار قباني، صاحب الشهرة الأوسع في تاريخ الشعر العربي الحديث، والذي ترك أهم أثر في حياة الشبان والشابات بموضوعاته شبه اليومية، وبلغته الموحية والمؤثرة.
عندما يمتزج الأخضر بالأسود، بالأزرق،
بالزيتي، بالوردي، في عينيك، يا سيدتي!
تعتريني حالةٌ نادرةٌ
هي بين الصحو والإغماء، بين الوحي والإسراء،
بين الكشف والإيماء، بين الموت والميلاد،
بين الورق المشتاق للحب، وبين الكلمات
وتناديني البساتين التي من خلفها أيضاً بساتين،
الفراديس التي من خلفها أيضاً فراديس،
الفوانيس التي من خلفها أيضاً فوانيس
التي من خلفها أيضاً زوايا، وتكايا، ومريدون
وأطفال يغنون، وشمعٌ، وموالد
وأرى نفسي ببستانٍ دمشقيٍ
ومن حولي طيورٌ من ذهبْ
وسماء من ذهب
ونوافير يثرثرن بصوت من ذهبْ(6)
وهناك –غير هذه النماذج – شعر يبني، وشعر يهدم. ويكون الشعر الذي يهدم، في وقت من الأوقات، أهم من الشعر الذي يبني؛ لأن الهدم وسيلة ناجعة من وسائل الإعداد للبناء الصحيح. وكثير من الشعر المبثوث في الأوراق لا يبني ولا يهدم، ولا يستحق أن يقال له شعر؛ لأنه رديء في لغته، ورديء في معانيه، ورديء في شكله، ورديء في تأثيره. والشاعر العربي المعاصر الأكثر شهرة بالهدم هو أدونيس، هذا المتمرد في شعره، وفي لغته، وفي حياته، وفي كتاباته، كما في أفكاره. وهو الأكثر حرصاً على البناء الحقيقي، وعلى الاستفادة من الثقافة العربية المشتركة، التي يرجع تاريخها المدون إلى أكثر من عشرين قرناً.
أتريدونني أن أكون أميراً عليكم، وأنتم عبيد؟
أن يقال: أنا صوتكم،
وأنا مثلكم لست حراً؟
إفهموني، إذاً،
إن بدأت بقتل العدو الذي فيّ من أولٍ، وفيكم.
العدو الذي يتوهم أني لا علمَ عندي بأوهامهِ.
إفهموني، إذاً،
إن وضعت حديدي عليَّ، عليكم، على أرضنا(7)
إن كل محاولة لرسم تخطيط أولي عن تأثير الشعر في حياتنا الراهنة، لن تنجح في غياب قراءة تاريخية تعي العلاقة بين الإنسان وهذا الفن العظيم. يضاف إلى ذلك قراءة الشواهد والمدونات القديمة والحديثة التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الإنسان -عبر العصور ومنذ وعى إنسانيته- لم يكن محض لحم ودم وعظام، كما لم يكن خبزاً وثوباً وعملاً، بل كان –حتى عندما تنحط ثقافته وتصل إلى مستوياتها الأدنى- إنساناً مفتوناً بجماليات الحياة. ومهما كان تركيزه على توفير وسائل العيش فإن شيئاً ما في نفسه يحثه على اقتناص لذة المعنى، ويجعله دائم الحنين إلى الفنون، وإلى الشعر على وجه الخصوص بوصفه جوهر هذه الفنون، لأنه –كما نعي جميعاً- يجمع بين:
الكلمة – اللغة، واللحن- الموسيقى، والصورة- الرسم. ولذلك أطلقوا عليه -في وقت ما- تسمية: الأب الشرعي للفنون.
وكما يحتاج الإنسان إلى الهواء والماء، فهو بحاجة إلى الشعر، هذا الغذاء الروحي الذي، بالإضافة إلى ما يحققه من نشوة فنية عالية لقارئه ومستمعه، فهو –كما يرى علماء التربية والأخلاق- أكثر نجاحاً في تقويم السلوك وإصلاح اعوجاج الألسنة؛ ولهذا كان، وما يزال، وسيبقى، يعبر عن حاجات إنسانية كثيرة وليس عن حاجة واحدة؛ وذلك بما يحمله من آلات تصوير دقيقة للمشاعر. وبعض هذه الحالات مخفي لا ينقل الظاهر والمتجسد من الأشياء وإنما يوحي بها، ويرسم ظلالها وما يتخفى في تضاعيفها من معانٍ وأسرار ومن تجليات عالم مخفي وكائنات غامضة يصنعها الخيال ويضيف بها إلى عالم الواقع المحسوس عوالم يستعين بها المبدع –كما القارئ- على إثراء الوجود الإنساني بمزيد من المرئيات والأشكال المتخيلة.
في البيت أشجارٌ وشمسٌ
والسماء العائلية لا تنامُ،
تظل ساهرة لتحرس نومنا،
وتظل ساهمةً لتحرس صحونا،
تدنو كثيراً كي تلامس صمتنا
وتروح تعلو ثم تعلو كلما انطلقت نجومٌ من رؤانا
ليس من حُجبٍ تحدُّ سماءنا
تدنو وتعلو دون حدٍّ أو حجابْ
وتشوقنا في كل آونةٍ بنافذةٍ ونافذةٍ.. وبابْ.
هذي السماء قريبة في بعدها
وبعيدة في قربها
والشمس فيها تَوْقُنا نحو الجهات النائيات،
وتحتها الأشجار بعض همومنا ( 8 )
في مقطع شعري واحد من قصيدة طويلة، استطاع الشاعر جودت فخر الدين أن يصنع من أحلامه التي هي أحلامنا -وبنبرة مطمئنة- أشجاراً وشموساً وسماءً ونجوماً عائلية أليفة تضاف إلى ما في بيته من أشياء واقعية محسوسة. وهذا الشعر الذي يوحي بحاجتنا إلى مزيد من الأنهار والبحار، وإلى إيقاظ الطبيعة الميتة بالشعر وبمفرداته المسكونة بالصوت والصورة والحركة والحضور، هو ما تحتاج إليه حياتنا. ومهما حاولت مدارس الفن الحديث ومذاهبه أن تبتعد بالفنون القولية –والشعر في مقدمتها- عن دورها الوظيفي الفاعل والمؤثر، بحجة تجنب المباشرة، فإن هذا الدور يبقى ماثلاً حتى وإن ابتعدت الفنون عن الأهداف والمضامين خارج مفهوم الرسالة التعليمية. لأن لكل فن قيمة ذاتية لا تفارقه تحت أي ظرف أو شكل. وتأثير هذه القيمة قد لا يرتبط بدلالة ذات وظيفية اجتماعية أو سياسية أو عاطفية. وتجليات هذه القيمة في الشعر تبدو بوضوح في طريقة التعبير وفي اللغة التي تشكل في حد ذاتها كوناً جمالياً آسراً بتراكيبه وانزياحاته، وبالمفردات التي تتجول بكامل عفويتها داخل النص الشعري باعثة في نفس القارئ أقصى ما تستطيعه من المسرات والنشوة.
فلنقل: نحن هنا أندلسيون!
فلا نطلب في الأرض سوى ما يطلبه الحُجَّاجُ
أبناءُ السبيلْ
ولنا من لغة الله كلامٌ
نتهجَّاه على تجعيدة الصخر،
ونقرأه مع الطير هديلاً بهديلْ
واتَّحدنا بالمسافات، وبالوقت،
فما عاد لنا بدءٌ، وما عاد وصولْ
ولنا البرزخ، والمعراج فينا
واتصال القدم العاري بماء البحر،
أو بالرمل عشقٌ وحلولْ
الصحارى استرجعت فردوسها
والبحر من أعلام من مروا عليه أرخبيلْ
واكتشفنا وطناً في زهرة الدفلى
ووقتاً صافياً يرشح في الوديان من كر الفصول (9)
إن غواية الشعر، بوصفه فناً إنسانياً لا غنى للبشر عنه على اختلاف مستوياتهم الثقافية، لا تأتي من كونه صوت الحب وصوت الفرح والحزن فحسب، وإنما لكونه صوت تمجيد نضالات الإنسان في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية أيضاً؛ صوت التحريض على مقاومة المحتلين والغزاة، هؤلاء الغرباء الذين يسلبونك الدار والأرض ويساومونك على الهوية التي تُعدّ آخر ما يتمسك به المشرد عن وطنه.
يقول لنا الشعر في زمن الكارثة:
دمٌ
ودمٌ
ودمٌ
في بلادك.
في اسمي وفي اسمك، في زهرة
اللوز، في قشرة الموز، في لبن
الطفل، في الضوء والظل، في حبة القمح، في علبة الملح...
قناصةٌ بارعون يصيبون أهدافهم
بامتياز
دماً،
ودماً،
ودماً...
هذه الأرض أصغر من دم أبنائها
الواقفين على عتبات القيامة مثل
القرابين. هل هذه الأرض حقاً
مباركةٌ أم معَّمدةٌ
بدمٍ
ودمٍ
ودم
لا تجففه الصلوات ولا الرمل؟(10)
الشعر إذاً، هو هذا وذاك، وهو صورة ولغة وموسيقى، وهو مفردة تدخل الوجدان لتصنع وجودها المستفيض. وهذه الفاعلية اللغوية هي صانعة الشغف وأداة التحكم الجمالي الفني في تكوين التأثير الإمتاعي.
وتبقى في هذا الرصد السريع والعابر إشارات إلى شعر القلق والأسئلة. وهو شعر بالغ التأثير في حياتنا، سواء على المستوى الخاص أم على المستوى العام. وهذا النوع من الشعر مهمته أو وظيفته تحريضية ناجمة، وله شعراؤه الذين يميلون إلى التأثير على القارئ من خلال استخدام أسلوب الصدمة ببراعة. ومن هؤلاء الشعراء: مظفر النواب، وأمل دنقل، ومحمد الماغوط. والأخير يمثل هذا المستوى الشعري بامتياز، وقد ترك قلقه آثاراً بالغة على جيل من الشعراء الشبان الذين نقلوا بدورهم هذا المنحى القلق إلى جمهور كبير من الشعراء عبر قصائدهم الغاضبة والرافضة.
أيها الطفل
أيها القاتل
أسناني أحنتها الريح
من غرفتي النتنة
من بين جذور القمح وأظافر الموتى
أخاطبك أيها القاتل
على لساني خمسة عصافير
من الدهن والمطر
نواة غابة تغطيها الثلوج
بين أسناني خمس سفن من الدموع
وغزال يتأبط صحراءه كالتلميذ(11)
إن شعراً حاداً وجارحاً كهذا الشعر يجعل القارئ يكتشف غابة الأخطاء والمتناقضات التي يعيش بين ظهرانيها ويطالع صورة الظروف المأساوية التي يخضع لها الإنسان بإرادته حيناً ودون إرادته في أحيان كثيرة. وبديهي أن القارئ تفتنه هذه التفاصيل التي تبدو قصيرة ومقتضبة، وغير مترابطة؛ لكن الشاعر يجيد الاستعانة بهذه العناصر المستعارة من السرد لكسب المزيد من التأثير في القارئ.
وبما أن العنوان الرئيس لموضوع المؤتمر، وهو "الشعر في حياتنا" لم يحدد طبيعة هذا الشعر، لغته، شكله، قدامته أو حداثته؛ فإن من حق أي باحث دُعي إلى المشاركة أن يتتبع هذا الشعر بعامة دون تحيّز إلى جديد أو قديم، أو إلى شعر مكتوب بالفصحى وآخر بالعامية؛ لاسيما ونحن نبحث عن دليل حقيقي يثبت أثر الشعر وأهميته في حياة الإنسان، والتأكيد على أن من المستحيل أن يأتي على البشرية يوم تستغني فيه عن هذا الفن العظيم. ولعلاقتي الحميمة بشعر العامية، وإدراكي لأبعاد الهدف الجليل الذي يتوخاه شعراء العامية من كتابة قصائدهم باللهجة الدارجة حرصاً منهم على إشباع احتياج الملايين المحرومة من قراءة روائع الفصحى، لذلك أسمح لنفسي بالاقتراب السريع من هذا الشعر المكتوب بالعامية والذي يمثل الوجه الآخر للإبداع الشعري في حياتنا، مع الاعتذار سلفاً بأن مجمل الشواهد، ولأسباب درامية وميدانية، ستكون في أقل الحدود ومقصورة على شاعر من مصر وثلاثة شعراء من اليمن.
وفي البدء أصارح القارئ بأنني لست مع أولئك الذين يذهبون إلى أنه بعد أن تعددت القراءات اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية للشعر، وتقيدت طموحاته داخل هذا القفص (الرسمي المدرسي)، لم يعد فناً يأسر القلوب، بل صار مادة تعليمية، ولذلك انصرف عنه الجمهور العاشق للشعر الحقيقي، شعر التعبير العفوي عن حاجة الإنسان إلى غذاء روحي يطرق الوجدان بسهولة ويسر. فكان هذا الشعر الملحون أو شعر العامية الذي يكتبه شعراء كل قُطْر عربي بلهجة الناس العاديين، ليثري عواطفهم بما يقدمه من نصوص شعرية لا تترك شأناً من شؤونهم إلاَّ وطرقته، هادفة بذلك إلى أن يظل الإنسان العربي على صلة وثيقة بالشعر، فن العرب الأول وعنوان لسانهم الأصيل.
وما أراه وأكاد أجزم به أن هذا اللون من الشعر المكتوب بالعامية العربية قد كان موجوداً جنباً إلى جنب مع شعر الفصحى ومنذ وقت مبكر. وربما كان هذا الشعر هو الأصل قبل أن تتفصح الألسنة وتأخذ العربية الفصحى سَمْتَها اللغوي الأرقى. وأياً كان الأمر فإن مؤتمراً عن "الشعر في حياتنا" لا ينبغي أن يخلو من دراسات أو حتى إشارات إلى هذا الرديف الشعري الذي يشغل حيزاً واسعاً من اهتمامات الخاصة والعامة في مشرق الوطن العربي ومغربه. وليست بي حاجة إلى تأكيد أننا نحب الفصحى ونتحمس لها ونذود عن حماها، ولكن ذلك لا يمنع أن نتقبل رافداً من روافدها النافرة ووليداً من أبنائها الخارجين على بعض فروض الطاعة.
واللافت أن انتشار المدارس ودور العلم وزيادة عدد الصحف والإذاعات والفضائيات والتوسع في التعليم قد ضيق المسافة بين القصيدة المكتوبة بالفصحى والأخرى المكتوبة بالعامية، وصارت أدوات التعبير اللغوي متقاربة بين القصيدتين إلى حد كبير، كما تكشف المتابعة الدقيقة لنماذج من هذا الشعر في مصر والشام والعراق واليمن والجزيرة والخليج وأقطار المغرب العربي. والنماذج المصرية واليمنية التي سأضعها بين يدي قارئ هذه الورقة كفيلة بأن تثبت ما أذهب إليه من انحسار الفارق بين ما يكتب من الشعر بالفصحى وما يكتب منه بالعامية، حتى في التشكيل المكاني للقصيدة والخروج بها من الإطار الموروث.
يقول صلاح جاهين في إحدى رباعياته الفلسفية:
خرج ابن آدم من العدم، قلت: ياه!
رجع ابن آدم للعدم، قلت: ياه!
تراب بيحيا وحي بيصير تراب
الأصل هو الموت ولاّ الحياة!؟
عجبي!(12)
وفي رباعية ثانية للشاعر تتحدث عن تبدل الفصول ومقاومة الإنسان لرياح متغيراتها:
دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت
وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت..
وحاجات كتير بتموت في ليل الشتا..
لكن حاجات أكتر بترفض تموت.
عجبي!(13)
وفي رباعية أخرى يكشف الشاعر عن حقيقة تبدو غائبة رغم حضورها الصارخ، حقيقة الحزن الدفين الذي يحتل قلوب البشر ويطل من عيونهم، بما فيها تلك العيون المخيفة القاسية:
أعرف عيون هي الجمال والحسن
واعرف عيون تاخد القلوب بالحضن
وعيون مخيفة وقاسية، وعيون كتير
وباحس فيهم كلهم بالحزن.
عجبي!(14)
ومن قصائد العامية اليمنية هذا المقطع من قصيدة طويلة للشاعر حسن عبد الله الشرفي، يرسم فيها انتشاء الإنسان وفرحته بالطبيعة كما تتجلى في واحد من وديان اليمن الكثيرة:
صليت للزهر في وادي "الجبر" ألف ركعةْ
صلاة مشتاقْ محرومْ
حوّمت مثل الفراشة بين فيشهْ وزرعهْ
غازلت كل النجومْ
غنيت للفل والريحانْ في كل بقعةْ
تشرب دموع الغيوم
يا نجمة الصبح يا أنسام خضر العشايا
رشي خدود القُبلْ
غَنِّيه ألحان أحلى ذكرياته معايا
خلّيهْ يطعم عسل شهر العسل
ما احلاهْ والرشْح يلمعْ في جبينه مرايا
وفي خدودهْ شفق صيف الخجل(15)
ويندر أن توجد قرية يمنية دون أن يكون لها شاعر أو أكثر، يغنون جمال الطبيعة ويحاكون الطيور في احتفالها بكل نهار جديد وبأضواء الشمس التي تظهر على القرى فجأة منحدرة من وراء الجبال العالية. وما الشعر في الأرياف إلاَّ استجابة لحاجة إنسانية يفرضها العمل، أولاً، والتخفيف من ضغوطه الثقيلة. أما لغة هذا الشعر فهي ما اصطلح على تسميته بـ"الدارجة القروية" التي تختلف من منطقة إلى أخرى، وأحياناً من قرية إلى قرية، وهي في صياغتها للشعر لا تحتاج إلى ضبط وتدقيق ولا تعرف النحو والصرف. والشاعر معها حر بكل ما تحمله الكلمة من معنى الانفلات من القواعد النحوية والعروضية، رغم قرب بعضها من الفصحى، وإمكان وصولها إلى الجمهور من القراء العرب في بلدانهم المتباعدة. وقاموسها المحدود -من وجهة نظر شاعرها- كافٍ لتسجيل كل ما يدور بذهنه من أفكار وما يحيط به من مرئيات وأشكال. وبدون صوته اليومي وغنائياته المسائية، تختنق القرية ولا يكون لها أمس ولا يوم ولا غد. الشاعر، أو بالأحرى: الشعر، هو الذي يحدد كيان القرية على الخريطة ويعطي لوجودها معنى غير المعنى المادي المتمثل في أحجارها وترابها وفي الأشجار والنباتات العشبية الهامشية.
ويجعلنا افتتان القرية بالشعر نؤمن بأن هذا الفن القولي طبعٌ هاجع ومستقر في كل نفس، وأن مهمة الشعراء الذين يمارسون كتابته أو روايته لا تزيد على أنهم يعملون على إيقاظه من غفوته في تلك النفوس. والملاحظ أن لكل قصيدة دفئها وغيمتها وعصافيرها ودروبها وحقولها، ولها شمسها ونجومها وقمرها. وحين تنساب بهدوء على الشفاة، ترسم تكويناتها الضوئية والظلية، وتجيء معها بأصوات البلابل حيناً وأصوات الأغنام والأبقار وهي ترتع في المراعي القريبة أو النائية، وفي ثنايا كلماتها تلمع الجداول المنحدرة من سفوح الجبال أو تلك التي تتمايل في هدوء الوديان، وما تشيعه من بهجة في نفس الشاعر أولاً، وفي نفوس مواطنيه ثانياً. وما كانت تلك الصور الواقعية لتصنع تلك البهجة لو لم تكن قد تواطأت مع الشاعر لإظهار ما تحتفظ به من تأثير وجمال.
وبالتأكيد ليس الريف اليمني وحده هو من استرجع الحالة الأولى للشعر واحتفظ به في حنينه البدائي؛ فكل أرياف الوطن العربي، بل أرياف العالم المتحضر، تفعل ذلك في غفلة من فناني المدينة وشعرائها. وإذا كان هناك فرق في المستوى اللغوي بين قصيدة الفصحى والعامية، فإنه لا فرق جوهري في التعبير عن متطلبات الروح إلى شعر مشحون باللوعة والشجن يتماشى مع ثقافة الإنسان الذي لا يعرف شيئاً عن قواميس اللغة ومترادفاتها واشتقاقاتها، ولا يعرف سوى عدد محدود من الكلمات التي يتداولها مع محيطه يومياً، ويجد فيها المقدرة على أن تخاطب وجدانه وتعبر عن هواجسه بمستوى من التعبير الشعري لا يجد صعوبة في إدراك معانيه والاستمتاع بما يقدمه من صور بسيطة وأفكار قريبة إلى وعيه. وكما أن لكل نص شعري دوافعه، فصيحاً كان أم عامياً، فإن لكل متلقٍّ دوافعه وحاجته إلى مثل هذا النص الذي لا يشك في أنه قادر على أن يحرره من ضغوطه الروحية ويطهّره من أساه وأحزانه، أو يذهب به في حلم لذيذ، بعيداً عن لحظات المعاناة والألم:
حنِّيت مثلكْ، أنا عندي حنينْ
وافكارْ مهما يقولوا شاردِةْ
في داخلي كونْ تسمعْ لهْ دَنينْ
بَسْ، عادنا يا خبير باردِّدِهْ
مثلي ومثلكْ ولا احنا ساكتين
أقلامنا للجماهيرْ رايِدةْ
دارين غَثَّ الجماعةْ والسمينْ
الناقصةْ عندهم والزايدةْ
معروفْ سِعر الرباعي والثمينْ
كل المعايير عندي واجدةْ
ميزان شعبي بقسطاسهْ أزينْ
كل المقاعد بقعدةْ واحدةْ (16)
وهناك في الأرياف اليمنية شعراء يتنقلون من مكان إلى آخر ويقرأون أشعارهم في المنتديات اليومية المعروفة بـ "المقايل"، لاسيما في الأعراس والمآتم، وتسجِّل قصائدهم الأحداث المحلية والعالمية أولاً بأول. وفيهم دعاة سياسيون غير منتمين إلى أحزاب، وشعرهم رصدٌ يومي للأحداث بأبعادها المختلفة والمتعددة. وأبرز قصائدهم هي تلك التي تتحدث عن مأساة فلسطين والعراق وعن قضايا السودان والصومال وأفغانستان.
وهناك الكثير، الكثير، مما يمكن أن يقال عن الشعر وتأثيره في حياتنا. والأهم في ذلك أنه لم يعد كلاماً جميلاً تقرأه وتنتشي به أرواحنا، بل صار عند البعض في عالمنا الراهن طريقة وأسلوباً في العيش: الطريق النظيف الجميل قصيدة، الحديقة الهادئة المقلمة الأشجار والمرتبة الزهور قصيدة، والمنـزل البسيط المؤثث بالكتب وشرائط الموسيقى الكلاسيكية والحديثة قصيدة، والصديق الذي يؤنس وجودك ويطرد عنك شبح العزلة قصيدة. وإذا كان "جاك نسير" في كتابه "الكلمة الخرساء" يقول: "يمكن لكل شيء أن يصبح لغة"(18)، فإن في إمكاننا نحن أن نقول إن كل شيء حولنا يمكن أن يصبح قصيدة رائعة، بدلالات يوتوبية مستقبلية، تعيد إلى الإنسان صفاءه الروحي وتطرح عنه ما تراكم على القلب من جراح الواقع الكئيب، وترمم انكساراته وهزائمه.


-------------
*مجلة غيمان، العدد الثاني، ربيع 2007


هوامش:
(1) عبد السلام المساوى: جماليات الموت في أمكنة محمود درويش. مجلة "أوان". العددين 8،7 العام 2005. ص64.
(2) طاهر رياض: حلاّج الوقت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، 1993. ص61.
(3) سعدي يوسف: تحت جدارية فائق حسن. دار الفارابي. 1974. ص61.
(4) المنصف الوهايبي: ميتافيزيقيا وردة الرمل. 2002. ص121.
(5) عبد الرحمن البرقوقي: شرح ديوان أبي الطيب المتنبي. الناشر دار الكاتب العربي، بيروت، 1980، ص2-14.
(6) نزار قباني: الأعمال الكاملة. منشورات نزار قباني. الطبعة الخامسة- 1983. ص177.
(7) أدونيس: تنبأ أيها الأعمى. دار الساقي. 1999. ص199.
( 8 ) جودت فخر الدين: سماوات. دار رياض الريس. لندن. 2002. ص72.
(9) أحمد عبد المعطي حجازي: شجر الأسمنت. مكتبة الأسرة. القاهرة. 2001، ص106.
(10) محمود درويش: كزهر اللوز أو أبعد. رياض الريس. لندن. 2005. ص192.
(11) محمد الماغوط: ديوان محمد الماغوط. الطبعة الثانية- 1981. دار العودة. بيروت. ص150.
(12) يحيى حقي: هذا الشعر. ص86.
(13) المرجع نفسه: ص88.
(14) نفسه: ص112.
(15) حسن عبد الله الشرفي: ألوان من زهور الحب والبن. صنعاء. 1979، ص19.
(16) علي عبد الرحمن جحاف: المجموعة الشعرية الكاملة. إصدارات وزارة الثقافة. صنعاء. 2004. ص93.
(17) فيصل البريهي: بروق الخريف. مركز عبادي للنشر. صنعاء. 2005. ص86.
(18) جاك نسير: الكلمة الخرساء. ترجمة سلمان حرفوش. دار كنعان. دمشق. 2003. ص207.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى