كان من عادة الأستاذ أحمد حسن الزيات أن يقسم كُتّاب "الرسالة الزياتية" إلى درجتين: مبتدئ، ويوضع تحت عنوان مقاله "للأديب". ومتمرس، ويوضع تحت عنوانه "للأستاذ". وأما أستاذنا البيومي فقد وضع اسمه فقط تحت عنوان مقاله الأول، وهو طالب في المعهد الدمياطي، وكان رداً على الأستاذ عبد المتعال الصعيدي، ثم بعد ذلك كان يضع تحت عنوان مقاله "للأستاذ"، ووضع تحت مقاله "عمر بن الخطاب الأديب" للشيخ محمد رجب البيومي عدد ديسمبر سنة ١٩٤٦م، واستمر لقب الشيخ ملازماً لمقالاته إلى مقال "عدالة قاض" فكتب تحته "للأستاذ محمد رجب البيومي عدد ١٥ يونيو ١٩٤٩، وحينما كتب أستاذنا مقالاً عن زكي مبارك وضع الزيات تحت عنوانه "بقلم تلميذه وصديقه الأستاذ محمد رجب البيومي".
ولعلّ سر قوة الرسالة يرجع في المقام الأول إلى قوة الزيات الأدبية وشخصيته المتميزة في الإدارة وتحمل الأعمال الجليلة بكل قوة وصبر، وتفرغه التام لمشروعه الثقافي، ثم إلى طبيعة جيل الرواد الذين أثروا الرسالة بالكثير من الأعمال والكتابات الجادة، فكتب فيها أساطين الأدب وكبار رجال الأمة العربية، ومن الصعب الشديد الإلمام بجميع أسماء الكبار الذين كتبوا في الرسالة، لكني على يقين أن ما يجول في خاطرك من أسماء الأدباء والكتّاب والشعراء والمفكرين سواء أكانوا من مصر أم من خارجها هم على اليقين من كُتّاب الرسالة وروادها، فالرسالة إذاً ليست مجلة فحسب، بل هي مدرسة لها كتابها ومدرسوها وخريجوها ومحبوها وناصروها، أضف إلى ازدهارها الحالة الثقافية المجتمعية العامة، وهو سبب قلّ من يلتفت له، وقد أشرت سابقاً في مقالي "طبقات مصححي المقالات" إلى شيء من ذلك فكتبت: "وهنا أستعير كلام عباس خضر عن حكمة ذلك في قوله: "إن أفلت خطأ برز له في "بريد الرسالة" مَن يأخذ بخناق الكاتب من أجله"، فلو فات الخطأ عليهما وَصلَه تصويبه والكلام عنه في "بريد الرسالة" من فئة القراء والمثقفين، وهذا يجرنا إلى الحديث عن وجود فئةٍ مستترة ٍكانت تتلقى هذه المقالات بالقراءة والاطلاع ونقد ما فيها، وكم وصلت رسائل كثيرة إلى الزيات من جمهور القراء في نقد أو تصحيح بعض المعلومات، وهذا يبين لنا الحالة الراهنة لجمهور القراء من التشبع بالثقافة، وامتلاك أدوات التقييم، وإبداء الرأي، مما جعل الكُتّاب يخجلون من وقوع أخطاء في كتاباتهم؛ لأنّ النقاد والقراء لن يرحموهم حين وقوع أيّ خطأ، ولو كان سهواً".
للرسالة الزياتية أنصار ومحبون من شتى البلدان تأثروا بها وكتبوا عنها، فكتب الأستاذ علي الطنطاوي في كتابه (الحياة الأدبية في دمشق) عن الرسالة وتأثيرها الثقافي في المجتمع الدمشقي بقوله: "لا تجد في دمشق أديباً أو متأدباً إلا اعترف لك بأنّها خير مجلة أخرجت للناس، وأنّ العالم العربي لم يعرف مجلة مثلها منذ أنشئت أول مطبعة في مصر، ولا تجد أديباً أو متأدباً إلا وهو ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ الرسالة، وبعد ذلك كله يباع من أعداد الرسالة في دمشق كلها أقل من خمسمائة عدد".
وكان أستاذنا (بالإجازة) المؤرخ الجزائريّ الشهير عبد الرحمان بن محمد الجيلالي منكباً على مطالعة مجلة الرسالة، ويعدها أكبر عامل في تكوينه الأدبي والمعرفي، وتقويم أسلوبه، ويحث سائليه على قراءة النصوص الأدبية من مجلة "الرسالة" بصفة منتظمة، ولشيخنا بالإجازة عبد الرحمان شيبان عناية خاصة بالرسالة ورائدها الزيات، فكان كثيراً ما يترك في معهد "عبد الحميد بن باديس" بقسنطينة الكتب المقررة على طلاب المعهد في مادة الأدب العربي، ليستبدلها بنصوص مختارة باعتناء من مجلة "الرسالة"، ومن كتاب "وحي الرسالة" للأستاذ الزيات، وقد أشار إلى ذلك أ.د مولود عويمر في مقالته "مجلة الرسالة في الجزائر".
لعبت الرسالة دوراً مهما في حياتنا الأدبية المعاصرة، فلها في كل فرع من فروع الثقافة مشاركة وجهود، وباتت مصدراً من مصادر الأدب ودراسته، ولم تقتصر على نشر النصوص الأدبية، بل أتبعت الأدب بالنقد والتقييم والمساجلات والمعارك الأدبية، وجاوزت الأدب العربي إلى الأدب العالمي فنشرت الكثير من الترجمات للآداب العالمية المختلفة، أضف إلى ذلك الدور الثقافي والفكري والأثر الاجتماعي المنوط بالرسالة وروادها، فتعلق الكبار قبل الصغار بمحتوياتها، ولا ننسى دورها المستمر في الدفاع عن قضايا الأمة والعروبة، وموقفها من قضية "فلسطين" النابع من إيمانها الصادق.
ومن أبرز حسنات الرسالة -من وجهة نظري- خروج كثير من المصنفات من رحمها، فهي مصدر إلهام، وتحفة أدبية رائعة، ونبع عطاء منذ صدورها إلى وقتنا الحاضر، فـــ"وحي الرسالة" للزيات أصله مقالات فيها، وكذلك "وحي القلم" و"كلمة وكليمة" كلاهما للرافعي، وغيرها، بل لم تتوقف حركة النشر الحديثة المعتمدة على مجلة "الرسالة" وصاحبها وكُتّابها، فلأحمد صابر أحمد جاب الله كتابه "المقالات النحوية في مجلة الرسالة"، ولعبد الرحمن بن قائد "ذكرى عهود .. أشلاء سيرة ذاتية للأديب الكبير أحمد حسن الزيات"، جمع فيها مقالات الزيات التي تكلم فيها عن نفسه وشيء من سيرته، ورتبها على عهود حياته، وللقاضي فهد بن عبد الله آل طالب كتابه "المقالات القضائية من مجلة الرسالة"، وقد أخبرني مؤخراً صديقي الشاعر الأستاذ محمد دحروج أنه بصدد نشر المعارك الأدبية التي كانت بين كبار أدباء القرن الماضي على صفحات مجلة "الرسالة" مع التعليق عليها بشيء من التفصيل، ومن المحتمل أن يخرج كتابه في عشر مجلدات.
بعد كلّ هذا يراودني سؤال مهم، وهو لماذا تفوقت الرسالة؟ وما سرّ بقائها في النفوس إلى هذا الوقت؟ وما سبب عدم قدرة أيّ مجلة على سد ذلك الفراغ الثقافي؟
من عوامل نجاح الرسالة وبقائها كما يرى أستاذنا محمد رجب البيومي هو زمن صدورها، فالوقت كان له الأثر البالغ في تقدمها، حيث: "كانت الفترة التي ازدهرت بها "الرسالة" من أقوى فترات النهوض في أدبنا المعاصر؛ لأن الزيات ممن يعرفون حدود المقالة الناجحة، والبحث العلمي الموفق، والقصة الهادفة، والنقد المنصف، يعرف حدود هذه الأجناس الأدبية ليطبقها على ما يفد إليه من الأدباء، فهو لا يرحب بالمقالة التي تتسع مقدمتها، ويضيق عرضها، وتخفى خاتمتها، فإذا سألته عن رأيه فيما أهمل أجاب في أدب لا يخدش، وصراحة لا تؤذي، ثم هو لا يرضى بالبحث الذي يقتصر على الجمع الحاشد دون أن يضيف الجديد أو يجنح إلى التحليل والموازنة، ولا يهش إلى القصة أو القصيدة إذا نزل مستواهما عن حد يراه جديراً بعقول القارئين. وكان يصرح في كل مناسبة أنه لم يجعل "الرسالة" ميداناً للتمرين، وإذا كان لا يستطيع أن يشجع الضعيف بالنشر فهو كذلك لا يجامل القوي إذا تهاون".
ولأنّ الزيات في المقام الأول ذو مشروع ثقافي، يمتلك أهدافاً واضحة لا يحيد عنها مهما كلفه الأمر، وحريص أشدّ الحرص على تقديم الكتابة الراقية التي تزدهر بها العقول، وتزيد من ثقافة قارئيها، فلا يجامل أحداً في ذلك، وليس عنده أدنى مشكلة أن يرجع المقال الذي يرى عدم وجود فائدة من نشره، مخبراً صاحبه بتلك الكلمات الديبلوماسية: "يا أخي أنت تكتب مقالك في الظهيرة بعد إجهاد العمل اليومي، وأنا أحب أن تعيد كتابته في هدأة الليل أو في مشرق الصباح"، فهو على حد تعبير أستاذي البيومي: "كان بذكائه في سياسة الأدباء يسلك مسلك الديبلوماسي الرقيق".
تفرغ الزيات لأعمال المجلة، ومن عادته الأسبوعية أنّه يقرأ بريد "الرسالة" على شاطئ النيل، فإذ ما وجد رسالة نافعة حبسها، وإذا وجد رسالة تافهة رمى بها في شاطئ النيل، إلا أنّ هذا لم يُرض بعض الكُتّاب؛ كعباس خضر، فتهكم عليه بقوله: "إذا كان نهر دجلة بالعراق قد أغرق مكتبة بغداد حين قذف التتار بمجلداتها إلى النهر، فإن نهر النيل قد شارك أخاه حين رمى الزيات بمئات القصائد والبحوث في موجه المتدافع"، وتعقبه أستاذنا محمد رجب البيومي في كتابه: "من أعلام العصر" بقوله إنّ: "الزيات لم يكن يرمي غير الركيك التافه".
كم نحاول أن يكون للرسالة الزياتية حَفَدةٌ وحفيداتٌ، لم نستطع! ولكلّ مثقف في حياته الثقافية ركن يستريح فيه، وبيت يلجأ إليه، لن يجدهما إلا في "الرسالة" القريبة إلى كلّ نفس، والحبيبة إلى كلّ قلب!
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
* مجلة النيل والفرات، عدد: ٣١
ولعلّ سر قوة الرسالة يرجع في المقام الأول إلى قوة الزيات الأدبية وشخصيته المتميزة في الإدارة وتحمل الأعمال الجليلة بكل قوة وصبر، وتفرغه التام لمشروعه الثقافي، ثم إلى طبيعة جيل الرواد الذين أثروا الرسالة بالكثير من الأعمال والكتابات الجادة، فكتب فيها أساطين الأدب وكبار رجال الأمة العربية، ومن الصعب الشديد الإلمام بجميع أسماء الكبار الذين كتبوا في الرسالة، لكني على يقين أن ما يجول في خاطرك من أسماء الأدباء والكتّاب والشعراء والمفكرين سواء أكانوا من مصر أم من خارجها هم على اليقين من كُتّاب الرسالة وروادها، فالرسالة إذاً ليست مجلة فحسب، بل هي مدرسة لها كتابها ومدرسوها وخريجوها ومحبوها وناصروها، أضف إلى ازدهارها الحالة الثقافية المجتمعية العامة، وهو سبب قلّ من يلتفت له، وقد أشرت سابقاً في مقالي "طبقات مصححي المقالات" إلى شيء من ذلك فكتبت: "وهنا أستعير كلام عباس خضر عن حكمة ذلك في قوله: "إن أفلت خطأ برز له في "بريد الرسالة" مَن يأخذ بخناق الكاتب من أجله"، فلو فات الخطأ عليهما وَصلَه تصويبه والكلام عنه في "بريد الرسالة" من فئة القراء والمثقفين، وهذا يجرنا إلى الحديث عن وجود فئةٍ مستترة ٍكانت تتلقى هذه المقالات بالقراءة والاطلاع ونقد ما فيها، وكم وصلت رسائل كثيرة إلى الزيات من جمهور القراء في نقد أو تصحيح بعض المعلومات، وهذا يبين لنا الحالة الراهنة لجمهور القراء من التشبع بالثقافة، وامتلاك أدوات التقييم، وإبداء الرأي، مما جعل الكُتّاب يخجلون من وقوع أخطاء في كتاباتهم؛ لأنّ النقاد والقراء لن يرحموهم حين وقوع أيّ خطأ، ولو كان سهواً".
للرسالة الزياتية أنصار ومحبون من شتى البلدان تأثروا بها وكتبوا عنها، فكتب الأستاذ علي الطنطاوي في كتابه (الحياة الأدبية في دمشق) عن الرسالة وتأثيرها الثقافي في المجتمع الدمشقي بقوله: "لا تجد في دمشق أديباً أو متأدباً إلا اعترف لك بأنّها خير مجلة أخرجت للناس، وأنّ العالم العربي لم يعرف مجلة مثلها منذ أنشئت أول مطبعة في مصر، ولا تجد أديباً أو متأدباً إلا وهو ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ الرسالة، وبعد ذلك كله يباع من أعداد الرسالة في دمشق كلها أقل من خمسمائة عدد".
وكان أستاذنا (بالإجازة) المؤرخ الجزائريّ الشهير عبد الرحمان بن محمد الجيلالي منكباً على مطالعة مجلة الرسالة، ويعدها أكبر عامل في تكوينه الأدبي والمعرفي، وتقويم أسلوبه، ويحث سائليه على قراءة النصوص الأدبية من مجلة "الرسالة" بصفة منتظمة، ولشيخنا بالإجازة عبد الرحمان شيبان عناية خاصة بالرسالة ورائدها الزيات، فكان كثيراً ما يترك في معهد "عبد الحميد بن باديس" بقسنطينة الكتب المقررة على طلاب المعهد في مادة الأدب العربي، ليستبدلها بنصوص مختارة باعتناء من مجلة "الرسالة"، ومن كتاب "وحي الرسالة" للأستاذ الزيات، وقد أشار إلى ذلك أ.د مولود عويمر في مقالته "مجلة الرسالة في الجزائر".
لعبت الرسالة دوراً مهما في حياتنا الأدبية المعاصرة، فلها في كل فرع من فروع الثقافة مشاركة وجهود، وباتت مصدراً من مصادر الأدب ودراسته، ولم تقتصر على نشر النصوص الأدبية، بل أتبعت الأدب بالنقد والتقييم والمساجلات والمعارك الأدبية، وجاوزت الأدب العربي إلى الأدب العالمي فنشرت الكثير من الترجمات للآداب العالمية المختلفة، أضف إلى ذلك الدور الثقافي والفكري والأثر الاجتماعي المنوط بالرسالة وروادها، فتعلق الكبار قبل الصغار بمحتوياتها، ولا ننسى دورها المستمر في الدفاع عن قضايا الأمة والعروبة، وموقفها من قضية "فلسطين" النابع من إيمانها الصادق.
ومن أبرز حسنات الرسالة -من وجهة نظري- خروج كثير من المصنفات من رحمها، فهي مصدر إلهام، وتحفة أدبية رائعة، ونبع عطاء منذ صدورها إلى وقتنا الحاضر، فـــ"وحي الرسالة" للزيات أصله مقالات فيها، وكذلك "وحي القلم" و"كلمة وكليمة" كلاهما للرافعي، وغيرها، بل لم تتوقف حركة النشر الحديثة المعتمدة على مجلة "الرسالة" وصاحبها وكُتّابها، فلأحمد صابر أحمد جاب الله كتابه "المقالات النحوية في مجلة الرسالة"، ولعبد الرحمن بن قائد "ذكرى عهود .. أشلاء سيرة ذاتية للأديب الكبير أحمد حسن الزيات"، جمع فيها مقالات الزيات التي تكلم فيها عن نفسه وشيء من سيرته، ورتبها على عهود حياته، وللقاضي فهد بن عبد الله آل طالب كتابه "المقالات القضائية من مجلة الرسالة"، وقد أخبرني مؤخراً صديقي الشاعر الأستاذ محمد دحروج أنه بصدد نشر المعارك الأدبية التي كانت بين كبار أدباء القرن الماضي على صفحات مجلة "الرسالة" مع التعليق عليها بشيء من التفصيل، ومن المحتمل أن يخرج كتابه في عشر مجلدات.
بعد كلّ هذا يراودني سؤال مهم، وهو لماذا تفوقت الرسالة؟ وما سرّ بقائها في النفوس إلى هذا الوقت؟ وما سبب عدم قدرة أيّ مجلة على سد ذلك الفراغ الثقافي؟
من عوامل نجاح الرسالة وبقائها كما يرى أستاذنا محمد رجب البيومي هو زمن صدورها، فالوقت كان له الأثر البالغ في تقدمها، حيث: "كانت الفترة التي ازدهرت بها "الرسالة" من أقوى فترات النهوض في أدبنا المعاصر؛ لأن الزيات ممن يعرفون حدود المقالة الناجحة، والبحث العلمي الموفق، والقصة الهادفة، والنقد المنصف، يعرف حدود هذه الأجناس الأدبية ليطبقها على ما يفد إليه من الأدباء، فهو لا يرحب بالمقالة التي تتسع مقدمتها، ويضيق عرضها، وتخفى خاتمتها، فإذا سألته عن رأيه فيما أهمل أجاب في أدب لا يخدش، وصراحة لا تؤذي، ثم هو لا يرضى بالبحث الذي يقتصر على الجمع الحاشد دون أن يضيف الجديد أو يجنح إلى التحليل والموازنة، ولا يهش إلى القصة أو القصيدة إذا نزل مستواهما عن حد يراه جديراً بعقول القارئين. وكان يصرح في كل مناسبة أنه لم يجعل "الرسالة" ميداناً للتمرين، وإذا كان لا يستطيع أن يشجع الضعيف بالنشر فهو كذلك لا يجامل القوي إذا تهاون".
ولأنّ الزيات في المقام الأول ذو مشروع ثقافي، يمتلك أهدافاً واضحة لا يحيد عنها مهما كلفه الأمر، وحريص أشدّ الحرص على تقديم الكتابة الراقية التي تزدهر بها العقول، وتزيد من ثقافة قارئيها، فلا يجامل أحداً في ذلك، وليس عنده أدنى مشكلة أن يرجع المقال الذي يرى عدم وجود فائدة من نشره، مخبراً صاحبه بتلك الكلمات الديبلوماسية: "يا أخي أنت تكتب مقالك في الظهيرة بعد إجهاد العمل اليومي، وأنا أحب أن تعيد كتابته في هدأة الليل أو في مشرق الصباح"، فهو على حد تعبير أستاذي البيومي: "كان بذكائه في سياسة الأدباء يسلك مسلك الديبلوماسي الرقيق".
تفرغ الزيات لأعمال المجلة، ومن عادته الأسبوعية أنّه يقرأ بريد "الرسالة" على شاطئ النيل، فإذ ما وجد رسالة نافعة حبسها، وإذا وجد رسالة تافهة رمى بها في شاطئ النيل، إلا أنّ هذا لم يُرض بعض الكُتّاب؛ كعباس خضر، فتهكم عليه بقوله: "إذا كان نهر دجلة بالعراق قد أغرق مكتبة بغداد حين قذف التتار بمجلداتها إلى النهر، فإن نهر النيل قد شارك أخاه حين رمى الزيات بمئات القصائد والبحوث في موجه المتدافع"، وتعقبه أستاذنا محمد رجب البيومي في كتابه: "من أعلام العصر" بقوله إنّ: "الزيات لم يكن يرمي غير الركيك التافه".
كم نحاول أن يكون للرسالة الزياتية حَفَدةٌ وحفيداتٌ، لم نستطع! ولكلّ مثقف في حياته الثقافية ركن يستريح فيه، وبيت يلجأ إليه، لن يجدهما إلا في "الرسالة" القريبة إلى كلّ نفس، والحبيبة إلى كلّ قلب!
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
* مجلة النيل والفرات، عدد: ٣١