أدب السجون منصور الصويم - السجن..

"من نفس المكان
يضجر الناس
وأنا من وجودي في ذاتي
أليس خليقا بي أن أضجر؟"
فرناندو بيسوا

يقول "مارف"، أحد أبطال الفيلم الأمريكي "مدينة الخطيئة"، للضابطة المسؤولة عن تسريحه؛ إن "السجن هو أن تستيقظ يوميا وتكتشف أنك هنا". يلخص "مارف" الرجل المعرّف بـ "الإجرام والعنف"، رؤيته للحياة بهذه المقاربة الكئيبة لمعنى الوجود. وإذا نقلنا تعريفه – الشخصي جدا – إلى حيز الحياة بمعناها العام أو الكلي فقد نتفق معه أن السجن فعلا يتمثل في هذا الاستيقاظ اليومي الذي يذكرنا - أبدا - بأننا جزء لا يتجزأ من هذا القبح المنثال بلا توقف داخل أسوار هذا السجن الكبير المسمى عبثا – حياة.
يستيقظ الفرد - النزيل عند كل صباح في أي موقع من هذا العالم المسور بالقوانين وكوابل الحواسيب وأقمار الفضاء؛ ليؤكد فقط على خضوعه التام للنظام: ضبط ضربات القلب عند حدود السرعة القصوى للعدو اليومي وراء أوهام الامتلاك والتميز والتفوق والاستمرارية تقدما إلى الأمام. برمجة العقل، على استيعاب كافة المشفرات والملغزات المرسلة عبر ملايين المشعرات التي تنقل الصور والأحداث والطقس والموت والدمار والهلاك والغرق في طمي الامحاء لتؤكد في لحظة الاستقبال أنه – الفرد – هنا، لا يزال آمنا، وأن هناك من يحرسه ويكترث له. الإسهام بقوة وفاعلية في تشييد أسوار جديدة لهذا السجن الكبير عن طريق إنماء عواطف الأنانية والكراهية وأوهام الفرادة والتفوق النوعي والعرقي والسمو الديني الضامن لحياة أخرى تخصه نجاةً هو فقط ولا أحد غيره. تغذية روح الاستبسال والتضحية المجانية في سبيل أن تستمر مياه النهر في جريانها العكسي، فـ"الحياة هنا وليست في مكان آخر" وعلى النهر أن يصب هنا – معكوسا – وليس في مصب آخر. برمجة خلايا الجسد على التسرطن السريع، فلا شيء سوى اللهث المفضي سريعا إلى موت يؤبد الحياة – السجن.
يستيقظ العالم، يشرع عينيه على شاشات السماء التي تغلف كونه، يرتشف قهوة الصباح الممزوجة بدماء الجثث المحلقة بين الأدخنة والبارود وفيضانات الماء وأعاصير الثلوج، هناك أمامه على الشاشات ذات البرق السماوي، يقضم في عجلة قطعة بسكويت جاف ويقضم معها زاوية أريكة بألف دولار، عجين شاشة بلازما تسعين بوصة، إطارات سيارة بالدفع الذاتي، سماعات هاتف ذكي بسعة ملايين الغيغابايت من الإنترنت المكدس في تلافيف الألياف. على عجل يرتدي العالم ملابسه: جلباب الفناء، سروال الهدم وطاقية العدم المنسوجة من خيوط الظلام.

يمضي إلى مكتبه؛ مأمور السجن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
676
آخر تحديث
أعلى