تفترق عوالم الشعر بمفرداته واستعاراته بل وخيالاته عن ذلك السرد الذي قدر للناثر أن يبتلى به، لكن ثمة سؤال أحاول الإجابة عنه؛ من أين يستمد السارد مادته؟
أعتقد أن الأشياء الصغيرة هي ما تعطي للكتابة معناها؛ ربما لا يلتفت إليها أحد؛ يستخفونها أو يرونها لاتستحق الاهتمام، عين السارد تدرك أهميتها؛ طفلة تجري حافية القدمين؛ فتاة تسح الدموع من عينيها، أشعث يسير في طرقات المدينة،إنسان تائه، بائع متجول؛ عازف ربابة؛ فتاة تقف وحيدة، ماسح أحذية وقد انحنى يناغم بفرشاته، رجل يرتدي نظارة سوداء ويتسول، راكب بجوارك يختلس النظر إلى هاتفك المحمول؛ يفتعل حوار شائكا، يدخلك في مسارب الرأي، شجار حول أنثى عند ناصية شارع المدارس؛ بائع الأطعمة.
إبداع نجيب محفوظ أتى من أنه التفت إلى هذه الأشياء، رصدها في سرده، لم يلتفت إلى القصور الملكية ولا إلى مواكب الوجهاء، رصد ملامح الحياة في تغيرها؛ حديث الصباح والمساء واستمراية الإنسان، في زقاق المدق صورة لعوالم الحارة.
من هذه النقطة افترق الشعر عن النثر؛ الشعر خيال مجنح ولو نزل إلى الأرض لفقد ألقه؛ أما السرد فمعجون برغيف الخبز ومخلوط بطين الأرض؛ يكتب بل يصور المهمشين الذين يتسللون في آخر الليل إلى تلك الأماكن المعتمة؛ بسطاء في كل شيء في الحب وفي الحلم، باعة الأوهام يسكنون الأحياء المسورة بكلاب الحراسة، أما هؤلاء فيعتاشون مع كلابهم على كسرات الخبز ويستدفئون بأسمالهم المغسولة بعرقهم.
أعترف بأنني لص؛ أدور حول الحكاية تخايلني بثيابها القرمزية، تعاندني وتتأبى علي؛ إنها أنثى كما اللغة؛ ومن ثم أسرد من هنا ومن هناك، أجتهد أن أكون يحيى حقي لكنني أعجز، يدهشني في لغته كيف يتصرف في مفرداتها، وفي بنائه التركيبي حين يميل إلى السهولة التى تتمنع على غيره!
يبدع الأديب حين يغمس مداد قلمه في تلك الحارات ويسرج مصباحه ويكتب عنهم؛ لديهم قصص لم تكتب بعد، أحلامهم دائما مؤجلة؛ يكفيهم أن يمضغوا رغيف الخبز وهم يبتسمون.
يمتلك السرد طاقة لينفد إليهم، يتجول برحابة في شوارعهم ومن ثم يصف لنا كل ما يجده.
لا يحتاج عصرنا تلك المفردات المجنحة ولا التعابير المسكوكة مما توراثناها في كتب البلاغة؛ علينا أن نبدع في إطار أبجدبتنا تراكيب تفضي إلى دلالات عصرية؛ فلم تعد الأنثى خرساء الأساور ولا فلان حاتم كثير الرماد ولا طويل العماد فقد انحنى ظهره وهو يحمل سلة الليمون أو يجري وراء حافلات النقل العام وقد تمزق نعله.
تعطينا هذه الأشياء الصغيرة مدد السرد الذي يحكي عن إنسان هذا الزمن بكل أحلامه وهزائمه؛ لا داعي لكل هذه الثرثرة في الأفكار العبثية؛ أفواه الجوعى تحتاج الرغيف أكثر من شوقها إلى يوم ميلاد ساكن البيت الكبير.
في السرد أنت لا تستبد بك اللغة؛ تتخفف من قيدها إلا قليلا، تنحت من صخور الأبجدية تلك المفردة السهلة التي تعاصر الحدث؛ لا تجد من يفهم المشرفي الذي يصاجعك ولا المسنونة الزرق كأنياب أغوال؛ لكنك تجد ما يقابلها مما يراه الجوعى حين يعضهم الفقر حين لا تقطع لهم سكين الجزار قطعة لحم يرقبونها في ماعون من الألومنيوم فوق طباخة بلا منظم في علبة من صفيح يسكنها سكان العشوائيات!
هذا ظني في السرد وعالمه؛ صورة ومفردة تتزاوجان- معاذ الله- بل تتبادلان أدوار التعبير ومن ثم تأتلفان في سرد معبر عن واقع الحياة، مع ظل شفيف من جمال اللغة وألقها.
شغفت بحكايات السرد العربي وأسماره، ألف ليلة وليلة؛ خواطر وإلهامات الدراويش؛ حكايات جحا والعيار والشطارين، السيرة الهلالية؛ ملاعب على الزيبق؛ أيام طه حسين، وملهمي نجيب محفوظ؛ وحنا مينه؛ أورهان باموق وماركيز بل الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي؛ ديستوفسكي وسرده العجيب؛ خيري شلبي؛ لكنني لست واحدا من هؤلاء؛ لأنني مازلت أحبو خلفهم.
لكل زمن سرده الذي يدون وقائعه؛ خيط دقيق بين السرد والتاريخ؛ كلاهما يعنى بالحكي، لكن السرد محاط بغلاف من ذات تكتب وأما التاريخ فوقائع تسرد بحياد عقل يجدر به ألا يكون منتميا؛ فذا مدعاة للتدليس، أما السارد فيحسن به أن يكون منتميا يغلف حكيه بهذا المزج بين الذات والواقع.
السرد والمعالجة السينمائية!
شغلتني هذه الفكرة كثيرا، آثرت أن أضعها حقيقة ماثلة أمامكم؛ الكتابة بصمة تدل على صاحبها" الأسلوب هو الرجل" تستطيع أن تتعرف على شخصية الجاحظ من تراكيبه والعقاد من حججه ومنطقه، وطه حسين من وصفه وكثرة دوران مفرداته، ولكنك تعجب من المتنبي كيف ينسبون إليه أبياتا ليست له، ترى هل لفرط عبقريته حاول تقليده؟
من الأشياء الصغيرة ندلف إلى عالم السرد.
كل ما تقع عليه عينك أو تسمعه أذنك أو يتذوقه لسانك و يشمه أنفك أو يشعر به قلبك أو تتأمله روحك أو يتدبره عقلك....تكمن خلفه آلاف القصص والحكايات التي تستحق أن تسجل أو تروى؛ يصحبنا القلم ويشاغب علينا الهوى، تلك الأنثى التي تفتحت عليها عيوننا؛ كلنا حاول أن يكتب إليها كلمة، ينتظرها فينتشي طربا، براءة العيون التي نسترق بها النظر خلسة، أي صديق غير السرد يمدنا بمفرداته لنعبر بها؟
حين ننكسر ونتألم ونبكي ضياع الحلم نستحضر صورة وراء أخرى، نختزن الحكايات كما فعلت الجدات في الكرار.
لذا وجد كثيرون أن السينما مضرة بالقراء؛ تشغلهم عن معايشة النص الأصلي؛ هل جنت على نجيب محفوظ أم أذاعت أدبه؟
قصرت رؤية واحدة على نصه، همشت ما كان حقه التوضيح وأظهرت ما تمنى السارد اختفاءه، لذلك لا غنى عن مطالعة النص الأصلي نراجع المشاهد في ضوء مراد الكاتب؛ فالسينما رؤية السيناريست كما يحب لا الكاتب كما تمنى!
من حق المؤلف أن يغضب لنصه الذي تصرف فيه السيناريو؛ لكنه في أحيان كثيرة يسر حين يجد سرده يتحرك في معالجة درامية يتفاعل معها الجمهور المشاهد وتغدو كائنا حيا.
بالفعل ثقافة الصورة تميت الذائقة الأدبية، تقوم بدور سلبي في إشباع القاريء؛ معظمنا حين يشاهد الروائع الأدبية مشاهدة في عمل سينمائي ينصرف عن مطالعة السرد؛ لذا علينا أن نعرف بأعمال الرواد والمبدعين؛ هل يكفي مثلا أن ينص عند عرض الفيلم أن ينوه المخرج إلى بعض التعديلات التي قام بها خروجا على النص الأصلي؟
لذلك أجد كثيرين مولعين بكتابة الرواية؛ تطول الحبكة ويترهل العمل الأدبي ويصير كائنا ممسوخا، يضرب في تيه الفوضى، علينا أن نبصرهم بثوابت السرد ولا نتركهم عالة على يتكففون الناس مفردات اللغة، هؤلاء يجددون حين يبدعون لذلك وجب العناية بهم دون تفريط في ثناء قد يحجب عنهم رؤية منعطفات الفن.
أعتقد أن الأشياء الصغيرة هي ما تعطي للكتابة معناها؛ ربما لا يلتفت إليها أحد؛ يستخفونها أو يرونها لاتستحق الاهتمام، عين السارد تدرك أهميتها؛ طفلة تجري حافية القدمين؛ فتاة تسح الدموع من عينيها، أشعث يسير في طرقات المدينة،إنسان تائه، بائع متجول؛ عازف ربابة؛ فتاة تقف وحيدة، ماسح أحذية وقد انحنى يناغم بفرشاته، رجل يرتدي نظارة سوداء ويتسول، راكب بجوارك يختلس النظر إلى هاتفك المحمول؛ يفتعل حوار شائكا، يدخلك في مسارب الرأي، شجار حول أنثى عند ناصية شارع المدارس؛ بائع الأطعمة.
إبداع نجيب محفوظ أتى من أنه التفت إلى هذه الأشياء، رصدها في سرده، لم يلتفت إلى القصور الملكية ولا إلى مواكب الوجهاء، رصد ملامح الحياة في تغيرها؛ حديث الصباح والمساء واستمراية الإنسان، في زقاق المدق صورة لعوالم الحارة.
من هذه النقطة افترق الشعر عن النثر؛ الشعر خيال مجنح ولو نزل إلى الأرض لفقد ألقه؛ أما السرد فمعجون برغيف الخبز ومخلوط بطين الأرض؛ يكتب بل يصور المهمشين الذين يتسللون في آخر الليل إلى تلك الأماكن المعتمة؛ بسطاء في كل شيء في الحب وفي الحلم، باعة الأوهام يسكنون الأحياء المسورة بكلاب الحراسة، أما هؤلاء فيعتاشون مع كلابهم على كسرات الخبز ويستدفئون بأسمالهم المغسولة بعرقهم.
أعترف بأنني لص؛ أدور حول الحكاية تخايلني بثيابها القرمزية، تعاندني وتتأبى علي؛ إنها أنثى كما اللغة؛ ومن ثم أسرد من هنا ومن هناك، أجتهد أن أكون يحيى حقي لكنني أعجز، يدهشني في لغته كيف يتصرف في مفرداتها، وفي بنائه التركيبي حين يميل إلى السهولة التى تتمنع على غيره!
يبدع الأديب حين يغمس مداد قلمه في تلك الحارات ويسرج مصباحه ويكتب عنهم؛ لديهم قصص لم تكتب بعد، أحلامهم دائما مؤجلة؛ يكفيهم أن يمضغوا رغيف الخبز وهم يبتسمون.
يمتلك السرد طاقة لينفد إليهم، يتجول برحابة في شوارعهم ومن ثم يصف لنا كل ما يجده.
لا يحتاج عصرنا تلك المفردات المجنحة ولا التعابير المسكوكة مما توراثناها في كتب البلاغة؛ علينا أن نبدع في إطار أبجدبتنا تراكيب تفضي إلى دلالات عصرية؛ فلم تعد الأنثى خرساء الأساور ولا فلان حاتم كثير الرماد ولا طويل العماد فقد انحنى ظهره وهو يحمل سلة الليمون أو يجري وراء حافلات النقل العام وقد تمزق نعله.
تعطينا هذه الأشياء الصغيرة مدد السرد الذي يحكي عن إنسان هذا الزمن بكل أحلامه وهزائمه؛ لا داعي لكل هذه الثرثرة في الأفكار العبثية؛ أفواه الجوعى تحتاج الرغيف أكثر من شوقها إلى يوم ميلاد ساكن البيت الكبير.
في السرد أنت لا تستبد بك اللغة؛ تتخفف من قيدها إلا قليلا، تنحت من صخور الأبجدية تلك المفردة السهلة التي تعاصر الحدث؛ لا تجد من يفهم المشرفي الذي يصاجعك ولا المسنونة الزرق كأنياب أغوال؛ لكنك تجد ما يقابلها مما يراه الجوعى حين يعضهم الفقر حين لا تقطع لهم سكين الجزار قطعة لحم يرقبونها في ماعون من الألومنيوم فوق طباخة بلا منظم في علبة من صفيح يسكنها سكان العشوائيات!
هذا ظني في السرد وعالمه؛ صورة ومفردة تتزاوجان- معاذ الله- بل تتبادلان أدوار التعبير ومن ثم تأتلفان في سرد معبر عن واقع الحياة، مع ظل شفيف من جمال اللغة وألقها.
شغفت بحكايات السرد العربي وأسماره، ألف ليلة وليلة؛ خواطر وإلهامات الدراويش؛ حكايات جحا والعيار والشطارين، السيرة الهلالية؛ ملاعب على الزيبق؛ أيام طه حسين، وملهمي نجيب محفوظ؛ وحنا مينه؛ أورهان باموق وماركيز بل الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي؛ ديستوفسكي وسرده العجيب؛ خيري شلبي؛ لكنني لست واحدا من هؤلاء؛ لأنني مازلت أحبو خلفهم.
لكل زمن سرده الذي يدون وقائعه؛ خيط دقيق بين السرد والتاريخ؛ كلاهما يعنى بالحكي، لكن السرد محاط بغلاف من ذات تكتب وأما التاريخ فوقائع تسرد بحياد عقل يجدر به ألا يكون منتميا؛ فذا مدعاة للتدليس، أما السارد فيحسن به أن يكون منتميا يغلف حكيه بهذا المزج بين الذات والواقع.
السرد والمعالجة السينمائية!
شغلتني هذه الفكرة كثيرا، آثرت أن أضعها حقيقة ماثلة أمامكم؛ الكتابة بصمة تدل على صاحبها" الأسلوب هو الرجل" تستطيع أن تتعرف على شخصية الجاحظ من تراكيبه والعقاد من حججه ومنطقه، وطه حسين من وصفه وكثرة دوران مفرداته، ولكنك تعجب من المتنبي كيف ينسبون إليه أبياتا ليست له، ترى هل لفرط عبقريته حاول تقليده؟
من الأشياء الصغيرة ندلف إلى عالم السرد.
كل ما تقع عليه عينك أو تسمعه أذنك أو يتذوقه لسانك و يشمه أنفك أو يشعر به قلبك أو تتأمله روحك أو يتدبره عقلك....تكمن خلفه آلاف القصص والحكايات التي تستحق أن تسجل أو تروى؛ يصحبنا القلم ويشاغب علينا الهوى، تلك الأنثى التي تفتحت عليها عيوننا؛ كلنا حاول أن يكتب إليها كلمة، ينتظرها فينتشي طربا، براءة العيون التي نسترق بها النظر خلسة، أي صديق غير السرد يمدنا بمفرداته لنعبر بها؟
حين ننكسر ونتألم ونبكي ضياع الحلم نستحضر صورة وراء أخرى، نختزن الحكايات كما فعلت الجدات في الكرار.
لذا وجد كثيرون أن السينما مضرة بالقراء؛ تشغلهم عن معايشة النص الأصلي؛ هل جنت على نجيب محفوظ أم أذاعت أدبه؟
قصرت رؤية واحدة على نصه، همشت ما كان حقه التوضيح وأظهرت ما تمنى السارد اختفاءه، لذلك لا غنى عن مطالعة النص الأصلي نراجع المشاهد في ضوء مراد الكاتب؛ فالسينما رؤية السيناريست كما يحب لا الكاتب كما تمنى!
من حق المؤلف أن يغضب لنصه الذي تصرف فيه السيناريو؛ لكنه في أحيان كثيرة يسر حين يجد سرده يتحرك في معالجة درامية يتفاعل معها الجمهور المشاهد وتغدو كائنا حيا.
بالفعل ثقافة الصورة تميت الذائقة الأدبية، تقوم بدور سلبي في إشباع القاريء؛ معظمنا حين يشاهد الروائع الأدبية مشاهدة في عمل سينمائي ينصرف عن مطالعة السرد؛ لذا علينا أن نعرف بأعمال الرواد والمبدعين؛ هل يكفي مثلا أن ينص عند عرض الفيلم أن ينوه المخرج إلى بعض التعديلات التي قام بها خروجا على النص الأصلي؟
لذلك أجد كثيرين مولعين بكتابة الرواية؛ تطول الحبكة ويترهل العمل الأدبي ويصير كائنا ممسوخا، يضرب في تيه الفوضى، علينا أن نبصرهم بثوابت السرد ولا نتركهم عالة على يتكففون الناس مفردات اللغة، هؤلاء يجددون حين يبدعون لذلك وجب العناية بهم دون تفريط في ثناء قد يحجب عنهم رؤية منعطفات الفن.