د. رسول محمد رسول - إدوار سعيد تجربة الناقد الثقافي والناقد الراديكالي

رغم الجلطة التي أحاطتني وقبل الدخول إلى سلسلة جهود إدوارد سعيد في بناء فكرته النقدية كما رسم بدايتها صبحي حديدي( )، لنا أن نتوقّف عند خطاطة إدوارد نفسه للممارسة النقدية، لا سيما عندما تطرّق إلى أشكالها في مدخل كتابه (العالم والنص والناقد) لسنة (2)1983 تحت عنوان "النقد الدنيوي"؛ فهو يقسِّم الممارسة النقدية إلى أربعة أشكال، هي:
1. النقد العملي الذي نجده في مراجعة الكُتب في الصحافة الأدبية.
2. التأريخ الأدبي/ الأكاديمي الذي ينحدر إلينا من التخصّصات التي كانت قائمة في القرن التاسع عشر كدراسة الأدب الكلاسيكي والفيلولوجيا وتأريخ الحضارة.
3. التقويم والتأويل من زاوية أدبيّة، وهو ليس مقصوراً على المحترفين وعلى أولئك الكتّاب الذين يبرزون من حين إلى آخر..
4. النظرية الأدبية تلك التي هي مضمار جديد نسبياً؛ فهذه النظرية برزت كميدان لافت للنظر بالنسبة للبحث الأكاديمي والشعبي في الولايات المتحدة، وفي وقت لاحق لبروزها في أوروبا، فأناس مثل والتر بنيامين (1892 - 1940) وجورج لوكاش (1885 - 1971) الفتى، مثلاً، قاما بعملهما النظري في باكورة سنوات هذا القرن (العشرين)، كما كتبا بلهجة معروفة ولو أنها مثار جدل على أوسع نطاق، ولكن النظرية الأدبية لم تبلغ مرحلة النضج على الرغم من الدراسات الرياديّة التي أنجزها كينيث بيرك (1897 - 1993) قبل الحرب العالمية الثانية بزمن طويل إلا في عقد السبعينيات (1970)، وذلك جرّاء الاهتمام المتعمّد الملحوظ بالنماذج الأوروبية السباقة (من أمثال البنيوية، ودلالات الألفاظ، والتفكيك).
ويؤكّد سعيد في كتابه (العالم والنص والناقد) أنه مارس النقد عبر كل هذه الأشكال للفترة من سنة 1969 حتى سنة 1981 وولدت بضمنها كتبه المعروفة عن كونراد، والبدايات..، والاستشراق حتى استمر في هذا النهج في مؤلفاته التالية على هذا التأريخ، لكنّنا نود التوقّف عند دراساته التي ابتدأ بها حياته النقدية وهي ثرية في طبعها، ونعتقد أن صبحي حديدي سلّط الأضواء على ذلك منذ سنة 2014 في دراسة له توقّفت خلالها عند اشتغالات سعيد من سنة 1964 حتى سنة 1975، وكان هذا المفكّر متراكب المنهج وراديكالي الرؤية تحصّل على إجازة الفلسفة من (جامعة برنستون) في سنة 1957، وتحصل على الماجستير سنة 1960، ثم انتقل إلى (جامعة هارفارد) ليكتب أطروحته الأكاديمية (رسائل جوزيف كونراد وروايته القصيرة) في سنة 1964 التي ستتحوّل إلى كتابه الأول سنة 1966 تحت عنوان (جوزيف كونراد ورواية السيرذاتية)، وبين هذين التأريخين كتب سعيد (كونراد، رواية نوسترومو، السجلّ والواقع)، ليدخل سوق النشر في الصحف والمجلات في ظل "منهجية متراكبة".
وحتى سنة 1975 سينشر إدوارد سعيد كتابه (بدايات.. النيّة والمنهج)، وهو كتاب مفصلي في فكر سعيد يضم دراسات في غاية الأهمية لكونه يلامس رؤى فلسفية يوظف عبرها "أفضل ما في ترسانة سعيد من مهارات تحليلية بارعة" - على حدّ تعبير صبحي حديدي - الذي يعرض لفصول الكتاب، وربما لأول مرّة.
النقد الدنيوي
يواصل سعيد تقديم رؤيته في النقد، ويؤكّد بأن موقفه يكمن في القول: "إن النصوص دنيوية، وهي أحداث، إلى حدٍّ ما، وهي، فوق كل هذا وذاك، قسط من العالم الاجتماعي والحياة البشرية، وقسط، بالتأكيد، من اللحظات التي احتلت مكانها فيها حتى لا يبدو عليها التنكُّر لذلك كله" (العالم والنص والناقد، ص 7).
ويأتي موقفه هذا على الضد من نزعة النصيّات المطلقة التي يدعو لها أصحابها النصيين، لا سيما فلاسفة النقد، بأنها جوهر وما عداه عوارض، فسعيد يؤكّد، ثانية، بأن التلازم بين النص وما يقابله في المجتمع أو العالم حيث "الوعي النقدي هو جزء من عالمه الاجتماعي الفعلي، وجزء من تلك الكتلة الواقعية التي يستوطنها الوعي، وليس له، بحال من الأحوال، أي مهرب لا من هذا أو ذلك" (ص 16).
يفضِّل إدوارد سعيد لمشروعه النقدي الثقافي أن يوصف بأنه (دنيوي) = (Secular) وليس روحانياً، ونفهم منه أنه مفكِّر بنزعة علمانية (Secularism) حتى إنه توجّه بالنقد للمفكّرين الذين لا يغادرون المكبوت الديني في مشرعاتهم، وسنعرض ذلك في مكان آخر في هذا الكتاب، ويعني النقد الدنيوي "ارتباط [النقد] بالزمان ارتباطا مادياً" (انظر: ص 24)، كما أن النقد الدنيوي لا يركن إلى أيّة تأويلات سائبة، ويتخذ مساره "المحتوم للوعي النقدي [بغية] الوصول إلى أي معنى دقيق لما تنطوي عليه تلك القيم الإنسانية والاجتماعية والسياسية التي تنجم عن قراءة أي نص وإنتاجه ونقله" (ص 24) مما يتوافر في التاريخ الدنيوي.
ناقد ثقافي بامتياز
ويتحدّث سعيد عن تجربته في النقد الدنيوي ويؤكّد بأنه "يتفحّص العالم الدنيوي لا الروحاني"، ما يعني أن عالمنا هو "عالم دنيوي" (ص 25) يتوافر على مجموعة سمات مهما كانت قليلة، سمات "تلعب دوراً في إدراك المرء من التجربة النصية، ومن بين تلك السمات القرابة والتقريب، والجسد، وحاستا البصر والسمع، والتكرار، والتعدّد المطلق للتفاصيل" (ص 25).
ويبدو لي أن النقد الدنيوي لدى إدوارد سعيد هو من النقد "المقاوم" (انظر: ص 27)، وهذا يعني أن النقديّة الإدواردية السعيدية هي نقديّة مُقاومة تستند - وبحسب صبحي حديدي – على "سجية متمرّدة" يمارسها المفكّر "المهاجر أبداً والمنشقّ من دون كلل" وبوعي حاد على نحو راديكالي، وبلا عدميّة ولا نزعة محافظة أو محافظويّة؛ بل ثورية راديكالية غير مؤمنة بإمبريالية الأمم، كما أن إدوارد سعيد هو مفكِّر غير متحجّر ولا منطوي على بضاعة إنهاك الرأي الآخر أو تهميشه وبالتالي قمعه (النص الأخير بين معقوفتين لصبحي حديدي).
إن إدوارد سعيد يؤمن بالنقد في بناء الوعي النقدي، ولذلك خاض في غماره جاداً متميزاً مقارنة مع كل النقّاد الثقافيين في العالم العربي. إدوارد سعيد هو أنموذج للناقد الثقافي الأمريكي من أصول عربية، ولذلك هو الذي أبى أن يكون كاتباً مأجوراًً (La Trahison des clercs) - على حدِّ تعبير جوليان بندا (1867 - 1956) - الذي تأثر به سعيد كثيراً، لكن سعيداً كان يصرّ على أن "الخبرة بالنسبة لطبقة أهل الفكر هي خبرة تُسدى لا تُباع للسلطة المركزية في المجتمع بشكل عادي" (ص 5)، ما حدا بوليام هارت(3) أن يقول: "إن مثقف إدوارد سعيد شخصيّة مهجّنة؛ فجزء منه مثقف غرامشي (1891 - 1933) العضوي، وجزء منه إكليريكيّ بيندويّ" نسبة إلى جوليان بندا، لكن كل ذلك تكلّل في إدوارد سعيد الناقد الثقافي العلماني الراديكالي الثوري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى