موسى بن ميمون، هو فيلسوف الأندلس ومصر في القرن الثاني عشر، وأحد كبار حكماء بني إسرائيل الذين خلدوا أسماءهم بما خلفوا من كتب وآراء. ولد بقرطبة في الثلاثين من شهر مارس سنة 1135؛ وتوفي بالقاهرة سنة1204. تنقل بين مراكش وفلسطين؛ إلا أنه قضى بمصر جزءاً عظيما من حياته، فعاش بها سبعاً وثلاثين سنة يدرس الفلسفة والطب، ويشغل كرسي الحاخام. فكان بذلك وليد الحياة العقلية الإسلامية، وتلميذ المدرسة العربية التي أثرت فيه تأثيراً عظيما. وليس ثمت من مثل أوضح لهذا التأثير من كتابه (دلالة الحائرين)، تلك المرآة الناصعة والصادقة في أغلب الأحيان، التي تعكس علينا في تفصيل ودقة تاريخ شطر كبير من الأفكار الدينية والفلسفية الإسلامية
لا أحاول في هذه الكلمة القصيرة أن أبين الصلة بين فلسفة ابن ميمون وفلسفة الإسلام، أو إن شئت بين هذه والفلسفة اليهودية عامة في القرون الوسطى، والتي يمثلها رجلنا أصدق تمثيل؛ فقد تصديت لهذا الموضوع في بحث حديث العهد، وأثبت ببراهين لا تدع مجالاً للشك أن ما يصح أن نسميه فلسفة يهودية إنما هو امتداد طبيعي للدراسات الإسلامية. ولقد كتب في هذا من قبل مؤرخين متعددون على رأسهم رينان. وإنما أريد فقط أن أوضح نقطة لم يوفها الباحثون حقها، لم يتنبهوا إلى أهميتها التاريخية: ألا وهي الدور الذي لعبه ابن ميمون في نشر الفلسفة والأفكار الإسلامية في العالم الغربي. لم يكتف مفكرو اليهود باعتناق آراء فلاسفة الإسلام ونظرياتهم، بل عملوا على نقلها إلى المدارس المسيحية؛ فوصلوا الشرق بالغرب، وربطوا حلقات التاريخ بعضها ببعض. وفضلهم في هذا الصدد أوضح من أن ينوه عنه؛ وحسبنا دليلاً ما صنعوا ببعض الكتب الفلسفية التي فقد أصلها العربي، ولم يبق لنا منها إلا المترجمات العبرية واللاتينية. فابن رشد مثلا تتعذر علينا دراسته إن وقفنا عند مؤلفاته العربية التي وصلت إلينا؛ ويكاد يكون أعرف إلى قراء العبرية اللاتينية منه إلى قراء العربية. وعلى الجملة فاليهود الذين تتلمذوا على العالم العربي، وانتشروا في كبار العواصم الأوربية يعدون بحق عقدة الاتصال بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية
لم يكن ابن ميمون بالناقل أو المترجم؛ بيد أن كتابه (دلالة الحائرين) كان من أول ما ترجم إلى اللاتينية في الدائرة الفلسفية والعلوم الدينية. ليس في مقدورنا أن نحدد بالدقة تاريخ ولا صاحب أول ترجمة لاتينية لهذا الكتاب؛ وكل ما يمكن تعيينه أن هذه الترجمة سابقة لمنتصف القرن الثالث عشر الميلادي: ذلك لأن و ; يرددان كثيراً اسم موسى بن ميمون؛ كما أن , و ;
يشيران إلى (دلالة الحائرين) كمصدر أخذا عنه واعتمدا عليه. لم يكد هذا الكتاب يترجم إلى اللاتينية حتى أكب على دراسته كبار فلاسفة القرن الثالث عشر الذين ذكرنا بعض أسمائهم. فأفادوا منه كثيراً؛ وكان عمدتهم في تعرف النظريات الإسلامية الهامة. ونستطيع أن نقول إن (دلالة الحائرين) أول وأشمل مؤلف درس فيه اللاتينيون الفلسفة العربية، وأنه قد عمل على نشر هذه الفلسفة بدرجة لا يعادله فيها كتاب آخر. نحن لا ننكر أن بعض مؤلفات الفارابي وابن سينا وحظاً وافراً من مؤلفات ابن رشد قد ترجم إلى اللاتينية، غير أن (دلالة الحائرين) كان أسبق من هذه المترجمات وأعظم شيوعاً. فأما الفارابي فما كان يعرفه إلا آحاد من فلاسفة الغرب، وإذا استثنينا لا نكاد نجد مؤلفاً قد أشار إلى اسمه في كتاب من كتبه. وأما ابن سينا فبرغم نفوذه العظيم لدى طائفة من علماء القرن الثالث عشر لم يكن بالمقرب إليهم قرب ابن ميمون؛ ولعل للفوارق الدينية أثراً في هذه الظاهرة. وأما ابن رشد فقد كانت خرافة إلحاده التي سادت أوربا في القرون الوسطى، والتي درسها (رينان) دراسة مفصلة سبباً في أن ينظر إليه بنظرة خاصة. على العكس من هؤلاء جميعا قد استطاع ابن ميمون بفصل كتابه (دلالة الحائرين) أن يمكن من نفوذ الفلسفة الإسلامية في المدارس الغربية عن طريق غير مباشر لا يشك فيه ولا يخشى خطره
ويجب أن نضيف إلى ما تقدم أن نقد هذا الحبر لبعض نظريات المتكلمين قد حببه، فيما يظهر، إلى الفلاسفة المسيحيين. فهو ينقض نظرية الجوهر الفرد ونظرية تعريف الله ونظرية الصفات الألهية بشكل يقربه من أرسطو بقدر ما يبعده عن علماء التوحيد المسلمين. وقد كان لهذا النقض أثر واضح على كبار فلاسفة القرن الثالث عشر. ونظرة إلى مناقشة الجوهر الفرد تحملنا على أن نجزم بأنه اعتمد اعتماداً كبيراً على كتاب لابن ميمون؛ على أنه هو نفسه يعترف بذلك في صراحة تامة، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هذا الكتاب هو المصدر الوحيد الذي عرف منه الفلاسفة اللاتينيون نظرية الجوهر الفرد الإسلامية؛ فإنا لا نجد أي إشارة هامة متعلقة بهذه النظرية فيما ترجم إلى اللاتينية من كتب عربية أخرى. (فدلالة الحائرين) قد اختص إذاً بنقل بعض المسائل الإسلامية إلى المدارس الغربية في القرن الثالث عشر الميلادي لم يقف أثر هذا الكتاب في نشر الأفكار الإسلامية عند القرون الوسطى، بل جاوزها إلى العصور الحديثة. وذلك أنا نجد لدي واحد كاسيبنوزا أو كلابنتزا آراء كثيرة الشبة بآراء فلاسفة الإسلام. فنظرية النبوة عند الأول تشبه شبها عظيماً النظرية التي أخذ بها الفارابي؛ ومشكلة العناية ' عند الثاني لا تختلف كثيراً عما قال به ابن سينا من قبل. ربما يبدو غريباً أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام وهؤلاء الفلاسفة المحدثين؛ خصوصاً وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى؛ وما فكر واحد منهم، فيما أعلم، أن يدرس الصلة بين هذه الفلسفة وفلسفة العصور الحديثة. غير أنا نرى أن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس ومعتمدة على أسس تعززها، فقد عرف اسبينوزا كتاب (دلالة الحائرين) وعني به عناية خاصة، كما عرفه لايبنتز، وأثنى عليه ثناء كبيراً. فعلى ضوء هذا الكتاب نستطيع أن نحدد إلى أي مدى تأثر رجال العصور الحديثة بالأفكار الإسلامية. يخيل إلينا أنا أول من تنبه إلى هذه العلاقات التاريخية؛ وقد حققناها فيما يتعلق بنظرية النبوة. ونأمل أن يمعن الباحثون في هذه الطريق التي سلكناها كي يلقوا جزءا من الضوء على طائفة كبيرة من النقط الغامضة، ويخدموا في آن واحد القرون الوسطى والتاريخ الحديث. نحن لا نقول بأن الفلسفة الإسلامية قد أثرت تأثيرا مباشرا في الفلسفة الحديثة، ولكنا نلاحظ فقط أن هناك مواطن شبه بين الفلسفتين فلنعمل إذا على توضيحها وبيدنا كتاب (دلالة الحائرين) الذي ألف بلغة الإسلام وفوق أرضه وتحت سمائه؛ ثم نقل إلى أوربا فكان موضع تقدير المفكرين منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى اليوم
إبراهيم مدكور دكتور في الأدب والفلسفة
مجلة الرسالة - العدد 91
بتاريخ: 01 - 04 - 1935
لا أحاول في هذه الكلمة القصيرة أن أبين الصلة بين فلسفة ابن ميمون وفلسفة الإسلام، أو إن شئت بين هذه والفلسفة اليهودية عامة في القرون الوسطى، والتي يمثلها رجلنا أصدق تمثيل؛ فقد تصديت لهذا الموضوع في بحث حديث العهد، وأثبت ببراهين لا تدع مجالاً للشك أن ما يصح أن نسميه فلسفة يهودية إنما هو امتداد طبيعي للدراسات الإسلامية. ولقد كتب في هذا من قبل مؤرخين متعددون على رأسهم رينان. وإنما أريد فقط أن أوضح نقطة لم يوفها الباحثون حقها، لم يتنبهوا إلى أهميتها التاريخية: ألا وهي الدور الذي لعبه ابن ميمون في نشر الفلسفة والأفكار الإسلامية في العالم الغربي. لم يكتف مفكرو اليهود باعتناق آراء فلاسفة الإسلام ونظرياتهم، بل عملوا على نقلها إلى المدارس المسيحية؛ فوصلوا الشرق بالغرب، وربطوا حلقات التاريخ بعضها ببعض. وفضلهم في هذا الصدد أوضح من أن ينوه عنه؛ وحسبنا دليلاً ما صنعوا ببعض الكتب الفلسفية التي فقد أصلها العربي، ولم يبق لنا منها إلا المترجمات العبرية واللاتينية. فابن رشد مثلا تتعذر علينا دراسته إن وقفنا عند مؤلفاته العربية التي وصلت إلينا؛ ويكاد يكون أعرف إلى قراء العبرية اللاتينية منه إلى قراء العربية. وعلى الجملة فاليهود الذين تتلمذوا على العالم العربي، وانتشروا في كبار العواصم الأوربية يعدون بحق عقدة الاتصال بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية
لم يكن ابن ميمون بالناقل أو المترجم؛ بيد أن كتابه (دلالة الحائرين) كان من أول ما ترجم إلى اللاتينية في الدائرة الفلسفية والعلوم الدينية. ليس في مقدورنا أن نحدد بالدقة تاريخ ولا صاحب أول ترجمة لاتينية لهذا الكتاب؛ وكل ما يمكن تعيينه أن هذه الترجمة سابقة لمنتصف القرن الثالث عشر الميلادي: ذلك لأن و ; يرددان كثيراً اسم موسى بن ميمون؛ كما أن , و ;
يشيران إلى (دلالة الحائرين) كمصدر أخذا عنه واعتمدا عليه. لم يكد هذا الكتاب يترجم إلى اللاتينية حتى أكب على دراسته كبار فلاسفة القرن الثالث عشر الذين ذكرنا بعض أسمائهم. فأفادوا منه كثيراً؛ وكان عمدتهم في تعرف النظريات الإسلامية الهامة. ونستطيع أن نقول إن (دلالة الحائرين) أول وأشمل مؤلف درس فيه اللاتينيون الفلسفة العربية، وأنه قد عمل على نشر هذه الفلسفة بدرجة لا يعادله فيها كتاب آخر. نحن لا ننكر أن بعض مؤلفات الفارابي وابن سينا وحظاً وافراً من مؤلفات ابن رشد قد ترجم إلى اللاتينية، غير أن (دلالة الحائرين) كان أسبق من هذه المترجمات وأعظم شيوعاً. فأما الفارابي فما كان يعرفه إلا آحاد من فلاسفة الغرب، وإذا استثنينا لا نكاد نجد مؤلفاً قد أشار إلى اسمه في كتاب من كتبه. وأما ابن سينا فبرغم نفوذه العظيم لدى طائفة من علماء القرن الثالث عشر لم يكن بالمقرب إليهم قرب ابن ميمون؛ ولعل للفوارق الدينية أثراً في هذه الظاهرة. وأما ابن رشد فقد كانت خرافة إلحاده التي سادت أوربا في القرون الوسطى، والتي درسها (رينان) دراسة مفصلة سبباً في أن ينظر إليه بنظرة خاصة. على العكس من هؤلاء جميعا قد استطاع ابن ميمون بفصل كتابه (دلالة الحائرين) أن يمكن من نفوذ الفلسفة الإسلامية في المدارس الغربية عن طريق غير مباشر لا يشك فيه ولا يخشى خطره
ويجب أن نضيف إلى ما تقدم أن نقد هذا الحبر لبعض نظريات المتكلمين قد حببه، فيما يظهر، إلى الفلاسفة المسيحيين. فهو ينقض نظرية الجوهر الفرد ونظرية تعريف الله ونظرية الصفات الألهية بشكل يقربه من أرسطو بقدر ما يبعده عن علماء التوحيد المسلمين. وقد كان لهذا النقض أثر واضح على كبار فلاسفة القرن الثالث عشر. ونظرة إلى مناقشة الجوهر الفرد تحملنا على أن نجزم بأنه اعتمد اعتماداً كبيراً على كتاب لابن ميمون؛ على أنه هو نفسه يعترف بذلك في صراحة تامة، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هذا الكتاب هو المصدر الوحيد الذي عرف منه الفلاسفة اللاتينيون نظرية الجوهر الفرد الإسلامية؛ فإنا لا نجد أي إشارة هامة متعلقة بهذه النظرية فيما ترجم إلى اللاتينية من كتب عربية أخرى. (فدلالة الحائرين) قد اختص إذاً بنقل بعض المسائل الإسلامية إلى المدارس الغربية في القرن الثالث عشر الميلادي لم يقف أثر هذا الكتاب في نشر الأفكار الإسلامية عند القرون الوسطى، بل جاوزها إلى العصور الحديثة. وذلك أنا نجد لدي واحد كاسيبنوزا أو كلابنتزا آراء كثيرة الشبة بآراء فلاسفة الإسلام. فنظرية النبوة عند الأول تشبه شبها عظيماً النظرية التي أخذ بها الفارابي؛ ومشكلة العناية ' عند الثاني لا تختلف كثيراً عما قال به ابن سينا من قبل. ربما يبدو غريباً أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام وهؤلاء الفلاسفة المحدثين؛ خصوصاً وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى؛ وما فكر واحد منهم، فيما أعلم، أن يدرس الصلة بين هذه الفلسفة وفلسفة العصور الحديثة. غير أنا نرى أن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس ومعتمدة على أسس تعززها، فقد عرف اسبينوزا كتاب (دلالة الحائرين) وعني به عناية خاصة، كما عرفه لايبنتز، وأثنى عليه ثناء كبيراً. فعلى ضوء هذا الكتاب نستطيع أن نحدد إلى أي مدى تأثر رجال العصور الحديثة بالأفكار الإسلامية. يخيل إلينا أنا أول من تنبه إلى هذه العلاقات التاريخية؛ وقد حققناها فيما يتعلق بنظرية النبوة. ونأمل أن يمعن الباحثون في هذه الطريق التي سلكناها كي يلقوا جزءا من الضوء على طائفة كبيرة من النقط الغامضة، ويخدموا في آن واحد القرون الوسطى والتاريخ الحديث. نحن لا نقول بأن الفلسفة الإسلامية قد أثرت تأثيرا مباشرا في الفلسفة الحديثة، ولكنا نلاحظ فقط أن هناك مواطن شبه بين الفلسفتين فلنعمل إذا على توضيحها وبيدنا كتاب (دلالة الحائرين) الذي ألف بلغة الإسلام وفوق أرضه وتحت سمائه؛ ثم نقل إلى أوربا فكان موضع تقدير المفكرين منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى اليوم
إبراهيم مدكور دكتور في الأدب والفلسفة
مجلة الرسالة - العدد 91
بتاريخ: 01 - 04 - 1935