كنانة عيسى - الأنسنة الواعية ولغة السرد المرئية.. دراسة نقدية لنص (مصائر) للأديبة الرائعة صديقة علي

(مصائر)...
صديقة علي... من سوريا.


يحملني على كتفه، أبتلُّ بنضح عرقه، يتعبني لهاثه وتؤلمني أظافره المتشبثة بي بقوة، يقرع الجرس؛ فينفتح الباب على صالون أثاثه فاخر، شاشة تلفاز كبيرة تعرض صور الحرب، وتقارير سمعتها مرارا وتكرارا من خلال مذياع شاحنة، ومن خلف جدار مستودع بارد ألقوني به على عجل أيضاً، وأخفوني وأخواتي عن الأعين. طاولة زجاجيّة تحيط بها كراسٍ مجلّلة بغطاء ذهبي تحيط به شريطة صفراء، ومكتبة تتزيّن بمجلّدات ضخمة أغلفتها أنيقة وجديدة كأنها لم تُمسس، أوراق مبعثرة وأقلام مذهبة ملقاة على مكتب فخم خلف كرسي دوّار. السيدة المعطرة يبدو أنها خرجت للتو من حمام دافئ، تحيط شعرها بمنشفة وردية، تبدو (كنفرتيتي)، كيف أعرف (نفرتيتي؟)؛ ألم تطلّ يوما جدتي المورقة على نافذتها. كم أودّ الآن لو سألت جدتي عن أبي مخلص هل تعرفه! كانت السيّدة تطلي أظافرها بألوان زاهية وتدندن بأغنية لا أعرفها. خرجت الكلمات مشوبة بلهاث حاملي:
-سيدتي أرسل لك أبو مخلص هذه...
-زيت؟
يومئ برأسه أنْ نعم. تخاطب الخادمة التي ترمقنا ببرود:
لحظة...، غيِّري لي المحطة، تنفخ أظافرها لتجفف طلاءها وتكمل: صدّعوا رأسنا بتقاريرهم.
يتأفف حاملي من انتظاره ومن ثقلي على كتفه والسيّدة غير مكترثة بالوقت ولا بحاملي.
_أفرغيها وارمِ الكرتونة كي لا تجذب الصراصر.
كم هذه السيّدة مقيتة! أشعرتني بإهانة ومذلّة.
(أأنا أجذب الصراصر؟).
تصرخ بالخادمة:
-ماذا قلت؟.
تصفّ الخادمة عبوات الزيت على طاولة المطبخ، وتحملني بعد فراغي تعبر بي إلى الشرفة... يُبهرني كريستال الثريات وهي تعكس نور الشمس. أمتلئُ بالريح وأطير، تدور الدنيا بي، أسقط على الرصيف... يتلقفني طفل بلهفة المنتصر ويركض مبتهجا... ما أن يحلّ المساء حتى أصبح مأوى مريحا للطفل... أحاول جاهدة أن أحنو عليه، أحميه ما استطعت من هواء بارد ظالم لجسده الغضّ، أستمتع بتنفسه المنتظم وأراقب أحلامه المستحيلة... بيت كبير دافئ، أبواه يهدهدانه كي ينام... يطير فوق مائدة، أطفال يرمقونه برجاء، يدعوهم لحلوى شهيّة، أسمع قرقرة لعابه وهو يتلمّظ، أقفل غطائي فوقه كي أحميه من كلب شارد. أستيقظ ممتنة لدفء الشّمس المجانيّ، أسمع وقع خطوات قادمة بغضب نحوي، حذاء أنيق ملمّع جيدا بالورنيش يركلني فينتفض الطفل من نومه العميق
_أنت... أنت، يا قرد، ابتعد عن السيارة... متى نرتاح من قرفكم، تنام بكرتونة يا وسخ،
صاحب هذا الصوت ليس بغريب عني... تذكرت، هو ذاته أبو مخلص كيف أتوه عنه، كنت قد سمعت صراخه بجمع غفير
_لا يوجد زيت... انتهت المعونات.
سمعته بعد أن أمر بتنحيتي جانبا يفاوض على بيع أخواتي...
_السعر العالمي للزيت ارتفع، فكيف تريد مني ألّا أرفع السعر؟. زيت ذرة وليس عباد الشمس... أغلى، أغلى طبعا... اتفقنا.
ما أن يثب الطفل خائفا؛ حتى يطيرني أبو مخلص بركلته الوقحة، إلى الجهة المقابلة، يستقلّ سيّارته الفارهة وهو يشتم الطّفل وأباه وأمه. يتلقفني عامل النظافة ليغرزني بقسوة بوتد حديديّ في عربته، كان قد أعدّه لي ولأمثالي يسوق عربته مبتعدا وعينا الطّفل تودعانني بحسرة حارقة. دخلت وجلا معملا للتدوير، صيروني من جديد عجينة، ثم جففوني وسحبوني وصقلوني بقسوة، ثم دبغوني باسم جديد، لأصير غلافا لماعون ورق... حظي العاثر يعيدني إلى أبي مخلص. يجلس خلف مكتبه يسحب مني ورقة يطويها طولانيّا ويسجلّ أسماء وأرقام مبالغ مالية وصلت وأخرى لم تصل، وأنواع زيوت أخرى غير الّتي عرفتها، يتنهّد منتشيا بانتصاره، يدور بكرسيه يمينا ويسارا، يسحب ورقة اخرى يعنونها بـ (طفل مشرَّد)، أراقبه بذهول وهو يدوّن قصائد عن الوطن...
_ومنذ متى كنت شاعرا؟.
_لا استغرب أن مثلك لا تواكب تطوراتي؛ فأنت لا تتابعين التغيّرات، ولا حتى صفحتي على الفيس بوك، اهتمامك منحصر بالتوافه.
تضحك وترمقه بنظرة ساخرة، وتتابع الفيلم متمتمة:
- الله... الله، عشنا وشفنا أبو مخلص شاعر المناسبات!
ـأتسخرين...؟، أي، نعم، يا سيدتي مناسبات مهمة أنا شاعرها والقصيدة سألقيها غدا باحتفال وطني. اسمعي هذه القصيدة، تُبكي الحجر، تُثير الشجن، تتحدث عن أطفال شرّدتهم الحرب.
وبكلّ ما أوتيت من قوّة أصفعه بحنقي منتفضة: بل تثير القرف.
يصرخ في وجه زوجته مذهولا:
_ماذا قلتِ؟.
كانت هذه المرة الأولى الّتي أرى فيها علامات الخوف والقلق تكتسح وجهه، فيحملني وقصائده وأوراق حساباته الماليّة على عجل إلى نار المدفأة.


...............................................


الأنسنة الواعية ولغة السرد المرئية
تحية كبيرة للقلم الانسيابي الراقي المجدد، للأستاذة صديقة علي المبدعة، التي تناور بصمتها الأسلوبية رصيدها القصصي المتنوع فيتحدى قارئه النخبوي. والعادي على حد سواء، لم كان هذا النص قابلا للتلقي بيسر لذهنية العوام وبتأجج لذائقة النخبة؟ ، رغم أن (الأنسنة) بذاتها، عملة متداولة و مشروعة لكل كاتب/ة يبحث عن خلق الصدمة، و عن لغة المجاز؟
وهل حان دور (المطلق الخفي) المتلبس بالجماد ليحكي لنا نسخته عن الحرب وسادتها ونفاقهم البغيض؟ ثم عن الأيدي الملطخة بدماء الأبرياء وهي ما تزال تحرك الدمى من خلف مشهدية تغلفها الكواليس وتفضحها الأشياء والجمادات برمزية أنيقة متجددة. تنطوي تحت تجنيس أدب الواقع الحداثي.
لعل ما يميز هذا النص هو (نوع جديد من الأنسنة) أضاف قيمة جمالية لأبعاد الشخصية الساردة المبتكرة لقصدية تتعدى معايير القص الاعتيادي نحو المزيد من الإدهاش والعمق والتأثير.
اللغة المتقنة الموحية
لغة السرد مختلفة الإيقاع في الرحلة، تتسق وحركة الحدث المتسلسلة في تماوج يعتمد على بنيوية استخدام الفعل، فالفعل المضارع في الاستهلال الغامض ينقل بشكل متواتر حالة الارتباك و الغموض اليقظ لدى الساردة لجذب خيال القارئ نحو فهم كينونة المتحدث بالمونولوج الداخلي وهويته، فيغدو التعريف بأبعاد الشخصية الساردة ك (جماد واع) و بظروف وجودها (زمن الحرب أو بعيده) كنوع من الصدمة الشيقة، لتنتقل الأفعال لصيغة الماضي حين تؤثث الكاتبة لأبعاد الزمكان ودلالاته، فينال اللين من لغة الخطاب حين تحلق (كرتونة الإعانة) في فضاء مجهول و في لحظة قصيرة من الحرية ، لتلتقي بالطفل المشرد،وتبدأ (ياء المتكلم) بإضافة السحر للمتن فتتأجج حرارة اللغة و ويتباطأ إيقاعها، ونرى فيها لغة أمومة غائبة وطاقة سحرية عجائبية تشارك الطفل أحلامه البائسة و تحنو عليه بالقليل من دفئها الهزيل، ثم يتسارع الإيقاع مجدداً وتغدو الجمل أكثر اقتضابًا وبرودةً و أشدّ انفعالاً حين يركلها أبو مخلص بغضب ثم تتغير هيئتها إلى رزمة ورق
من خلال إعادة التدوير ليعود البرود فيلتصق باللغة الرصينة فتغدو كتقرير موجز، أشبه بحكم إعدام لوعي ناطق.
لغة مرئية سينمائية متقنة تصيب الهدف من خلق المفارقات والدهشة بدون انزياحات ولا تكثيف ولا مبالغات في الوصف السردي. ورغم ذلك تتسم بالحداثة الطازجة ذات الرسالة الإنسانية العميقة الموظفة باقتدار وتمكن
الأنسنة الواعية تقدم نمذجة لشخصيات متشعبة وفريدة
الأنسنة الواعية تخلق بعدا لشخصية الساردة الهشة بوعي أنثوي دقيق و بريء لدرجة الاتحاد بعوالم طفل يتيم مشرد لا حول ولا وقوة له إلا بالتشبث بمسكن واه يرد عنه البرد والشقاء، الكرتونة الساردة تمتلك
عين المراقب الراصدة المتلهفة للحياة وبمعيار إدراك للأنا التي ترفض (اقترانها بالصراصر و رمزيتها ككرتونة إعانة غذائية نبيلة) والتي تراقب بذخ منزل (أبي مخلص)ودلال زوجته المترفة، ثم ما بدا جمادًا براقًا، من طاولة فخمة ومن ثريات كريستالية باهظة تنأى عن انفعالات الكرتونة الساردة، و بحس أخلاقي مستنكر، غني بالدلالات السيميائية.
وأجمل ما في هذه الشخصية هو الوعي المحدد بملامح الشخوص و تصنيفاتهم الأخلاقية الخالية من أبجدية الحب والتعاطف والموسومة بالنرجسية واللإنسانية والجحود والغرور كزوجة (أبو مخلص) و التي تزعجها أخبار الحرب، والتي تتنمر على خادمتها، بفوقية من اعتاد رفاهية العيش لا شظفه وقسوته
وأما شخصية (أبي مخلص) فهي نمطية تاريخية لتجار الحروب، المتسلقين على جثث الموتى و ضحايا الواقع وفقرائه، والمتنمر بدوره على الأطفال المشردين بجوعهم وبؤسهم، ورغم ذلك نر فيه تناقضًا درامياً قائماً على المفارقة، فرجل يتاجر بمعونات ضحايا الحرب سيشارك في احتفال وطني، يسطّر قصائده الرديئة على الوجه الآخر من الورقة التي اختزل فيها أرباحه وخسائره، فكأن ورقة الكتابة بوجهيها رمز ل عملة واحدة تخدم أجندة سيد الحرب وحده.
ورغم أخلاقيتها الناصعة فان( كرتونة الإعانة) تغدو جزءً من لعبة الحرب،أداة واهية بلا حول ولا وقوة رغم استيائها واحتقارها لمن يطوّعونها. فهي رمز عاجز ككل الشعوب التي تطحنها الحروب وتغدو أديماً لاتّقادها وجنونها.
عين المراقب الراصدة
تقدم لنا الكاتبة تجربة فريدة برصد الواقع المعاش المتأزم، مرتدين جسد (علبة من الورق)، تمتلك ذاكرة قديمة (جدتي.. الشجرة المطلة على حياة نفرتيتي)، وتجربة حسية معرفية تدرك أنواع الزيوت وتصنيفاتها
ومشاعر أكثر إنسانية من شخصيات قاسية متبلدة المشاعر، عارية من معايير الأخلاق والتعاطف الغريزي، تحاكم في مونولوجها الداخلي شراسة الواقع، والمتحكمين فيه، وتمتلئ بالحياة.
شخصية منتزعة من كتاب طفولي ملحمي ومغروسة في قصة نعرفها وقد نالت منا جميعًا، ساردة تتقن الحكايا الخيالية، وحدّة وعيها هي نافذتنا نحن القراء على فضاء السرد المعاش المرير، حيث تذكرنا بشخصيات (أليس في بلاد العجائب) للكاتب البريطاني لويس كارول، كالقط شيشاير ذي المظهر المخيف والقدرة على الاختفاء أو شخصية اليرقة التي تمثل الحكمة الدنيوية العميقة رغم إدمانها على النرجيلة. وكما هي
رمزية زجاجة (اشربني) التي تسمح لأليس بتغيير حجمها متى شاءت فإن شخصية (كرتونة الإعانة) تمتلك سحر رمزيتها في نهايتها، حيث ستحترق في نار مدفأة أبي مخلص بدور مماثل، كيقظة آنية تصفع وجدان المتلقي بمصيرها.
رمز نقي بنهاية مؤلمة تليق بالبطل التراجيدي، لتترك لنا مصائر العابرين في السرد كالوطن الممزق و الطفل المشرد اليتيم، وأبي مخلص و زوجته كرموز نقرر نحن مصائرها الأخلاقية.
دام الإبداع المتجدد الآسر... أيتها المبدعة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى