لن أبالغ إن قلت إنها قصة كتبت بحس مرهف عال جدا ، تجذبك بهدوء وبلغة سلسة وناعمة لتدخلك داخل عالم القرية المصرية ، وتعود بالزمن للوراء ، وإني تفاعلت معها وتأثرت جدا من فرط الجمال والشاعرية والأجواء الحميمية ووصف الكاتبة لمشاعر الصداقة الحقيقية التي ربطت ثلاث صديقات برباط خفي وثيق ، حيث الحب وفقط هو الذي جمع بينهن بلا مصلحة وخال من الملوثات الدنيوية ، و رأيت نفسي أمام لوحة حافلة بالتفاصيل المدهشة والحركةو الحياة ، لدرجة جعلتني أرى الوجوه والانفعالات والمشاعر تتجسد حية أمامي وأسمع أيضا همسات الفتيات الثلاثة وضحاتهن وبكائهن ، كما أني لم أندهش -أنا التي عشت تجربة مثلها – من فكرة أن الحب والروابط القوية في بعض العلاقات الأقرب للأخوَّة دون رابطة دم قد توحد أيضا بين مصائر أو بعض البشر المتقاربين روحانيا ، مما يجعلنا نرى تزامنا غريبا يجعل صديقتان يتزوجان في شهر واحد ، أو تجمعهما ببعضهما بعض الصدف القدرية أو أفعال تخطها يد الأقدار على جبين كل واحدة منهن .
لا أخفي أيضا إعجابي بالصور الجمالية وأسلوب سرد الكاتبة ، منذ بداية القصة " لملمت “مريم” العصافير عن أشجارنا يا “زينب” وتركتنا عاريتين من النغم" .وانتقالها بنا برجوعها بالزمن إلى الوراء لتستعيد الراوية ذكريات طفولتهن ومراهقتهن ، وقطعهن المسافة نفسها يوميا للذهاب إلى المدرسة ، وصفها بأسلوب جمالي بديع لكل واحدة منهن ، بجمل نثرية ناعمة رقيقة ، فوصفت مريم بأنها "ذات وجه طفولي تظلل عينيها السوداوان ناموسية من رموش ساحرة" ، ونجد أن الوصف ذاته لم يخلُ من حس ساخر محبب عفوي ، مثل "تشبيهها لنفسها بطول السنة السودا ، وبزينب أنها "بنت العز ممتلئة ولينة مثل عيش القمح" ، كل ذلك في ظل أجواء ريفية مصرية خالصة تتذكر من ضمنها طقوس زفة مولد النبي ، واحتفال أهالي القرية كلهم به ، حيث تذوب الفروق في الأديان والكل يتشارك الفرحة والأجواء الروحانية .
وتعود بنا الكاتبة مرة أخرى لصورة مريم البريئة وهي تصرح لهن بمخاوفها من الزواج معللة خوفها بجملة شديدة البلاغة وموجزة ومكثفة لكنها دقيقة وصادقة ومعبرة عن واقع الفتيات وما يجول في عقلولهن وقلوبهن من وساوس نتيجة التربية شديدة المحافظة والصرامة المشبعة بالتأثر بالحس الديني الفطري لدينا كمصريين فتقول :" فالزواج كان لديكِ نذرًا للأبدية؛ ينبت فيه التين الشوكيِّ وديعًا أو ثائرًاً".
قد ينشغل القاريء بالبحث وسط هذه الأجواء عن السر وراء فاتحة خير ، وأين خبأتها ، وماهو الحدث المقصود ب" فاتحة الخير" ، كانت الصديقة الانقى " مريم ميخائيل" فاتحة خير على صديقتيها ، فهي أول من خطبت ، فتبعنها بفترة قصيرة ، ثم توالت الأحداث وجمعت بينهن وحدة المصير والنصيب ، حتى في الحدث الأخير ذلك الذي أتحاشى الوصول إليه ، والحديث عنه لأنه يلمس وجعا وجرحا يفتح كلما تذكرت كلمة قالتها صديقتي هبة لي " إنه كتم الغضب والألم هو ما يؤدي بنا لهذه الامراض ، لا تسكتي ولا تهملي فيحدث معك مثلما حدث معي " .
ربما تبدو القصة للبعض مجرد خيالٍ أو أن الصدفة فيها بعيدة عن الواقع ، لكني رأيت في الحياة وفي خبراتي أو تجارب من حولي ما يفوق أشد القصص خيالا ، وهذه القصة لمستني لأن المحبة الإلهية دون مصالح التي تجمع بين بعض البشر قد تصل بهم بالفعل لتوحد المصائر أو تشابهها .
المدهش أيضاً رغم طول القصة نسبياً إلا أن الوصف أتى مفصلاً ليكمل تفاصيل المشهد ويضيف إليه مزيدا من الحياة وأقرب للحقيقة، دون إسهاب زائد ، وتتابع الاحداث والربط بين الزمنين الحالي والماضي أتى بتسلسل منطقي شيق ، دون انفراط أو ترهل في النص ، فكل كلمة أتت في موضعها ، وجدتني أتوقف كثيراً عند الفكرة الذكية التي جاءت بها الكاتبة وربطها بين نبات الصبار وثمرة التين الشوكي ليمثلا محور فكرة القصة ، فقد شبهت مريم ميخائيل الزواج النصراني بنبتة التين الشوكي إما أن تثمر أو تبقى مجرد نبتة صبار مر ، والوصف هنا معبر جدا ، كما أنها استخدمت نفس الفكرة والتشبيه عندما قالت أن مريم "نبتت بجوفها ونمت حبة تين شوكي خبيثة، امتدت أشواكها بي وبزينب ، حتى امتدت الأشواك لأجزاء عدة من جسدك حتى طال جسدي أنا وزينب" وهو ما ذكرني بصورة فيروس كورونا التي استخدموا فيها رمز الكرة الخضراء ذات الأشواك ، وأي كائن غريب ينمو داخل الجسد مثل هذه الكرة أو حبة التين الشوكي ذات الأشواك المسننة إن لم تجد علاجا يوقف نموها ، تتكاثر أحيانا داخل الجسد كله بسرعة مرعبة لتفتك بجسد الإنسان وتنهي حياته .
بالوصول للمشهد الختامي تكتمل اللوحة بشقيها الحزين الباكي والضاحك الساخر ، كما هي الحياة بكل عبثيتها ، ولا عجب أن تتخيل الراوية صديقتها في التابوت الأبنوسي تشاركهن ما يشعرن به ، حتى بدا لها التابوت يهتز !
هناك بعض المفردات استعصت علي مثل " اللحف" الفاصل بين غيطان قريتنا والقرية الأكبر التي بها المدرسة".
عبير سليمان
#صدى_ذاكرة_القصة_المصرية
لا أخفي أيضا إعجابي بالصور الجمالية وأسلوب سرد الكاتبة ، منذ بداية القصة " لملمت “مريم” العصافير عن أشجارنا يا “زينب” وتركتنا عاريتين من النغم" .وانتقالها بنا برجوعها بالزمن إلى الوراء لتستعيد الراوية ذكريات طفولتهن ومراهقتهن ، وقطعهن المسافة نفسها يوميا للذهاب إلى المدرسة ، وصفها بأسلوب جمالي بديع لكل واحدة منهن ، بجمل نثرية ناعمة رقيقة ، فوصفت مريم بأنها "ذات وجه طفولي تظلل عينيها السوداوان ناموسية من رموش ساحرة" ، ونجد أن الوصف ذاته لم يخلُ من حس ساخر محبب عفوي ، مثل "تشبيهها لنفسها بطول السنة السودا ، وبزينب أنها "بنت العز ممتلئة ولينة مثل عيش القمح" ، كل ذلك في ظل أجواء ريفية مصرية خالصة تتذكر من ضمنها طقوس زفة مولد النبي ، واحتفال أهالي القرية كلهم به ، حيث تذوب الفروق في الأديان والكل يتشارك الفرحة والأجواء الروحانية .
وتعود بنا الكاتبة مرة أخرى لصورة مريم البريئة وهي تصرح لهن بمخاوفها من الزواج معللة خوفها بجملة شديدة البلاغة وموجزة ومكثفة لكنها دقيقة وصادقة ومعبرة عن واقع الفتيات وما يجول في عقلولهن وقلوبهن من وساوس نتيجة التربية شديدة المحافظة والصرامة المشبعة بالتأثر بالحس الديني الفطري لدينا كمصريين فتقول :" فالزواج كان لديكِ نذرًا للأبدية؛ ينبت فيه التين الشوكيِّ وديعًا أو ثائرًاً".
قد ينشغل القاريء بالبحث وسط هذه الأجواء عن السر وراء فاتحة خير ، وأين خبأتها ، وماهو الحدث المقصود ب" فاتحة الخير" ، كانت الصديقة الانقى " مريم ميخائيل" فاتحة خير على صديقتيها ، فهي أول من خطبت ، فتبعنها بفترة قصيرة ، ثم توالت الأحداث وجمعت بينهن وحدة المصير والنصيب ، حتى في الحدث الأخير ذلك الذي أتحاشى الوصول إليه ، والحديث عنه لأنه يلمس وجعا وجرحا يفتح كلما تذكرت كلمة قالتها صديقتي هبة لي " إنه كتم الغضب والألم هو ما يؤدي بنا لهذه الامراض ، لا تسكتي ولا تهملي فيحدث معك مثلما حدث معي " .
ربما تبدو القصة للبعض مجرد خيالٍ أو أن الصدفة فيها بعيدة عن الواقع ، لكني رأيت في الحياة وفي خبراتي أو تجارب من حولي ما يفوق أشد القصص خيالا ، وهذه القصة لمستني لأن المحبة الإلهية دون مصالح التي تجمع بين بعض البشر قد تصل بهم بالفعل لتوحد المصائر أو تشابهها .
المدهش أيضاً رغم طول القصة نسبياً إلا أن الوصف أتى مفصلاً ليكمل تفاصيل المشهد ويضيف إليه مزيدا من الحياة وأقرب للحقيقة، دون إسهاب زائد ، وتتابع الاحداث والربط بين الزمنين الحالي والماضي أتى بتسلسل منطقي شيق ، دون انفراط أو ترهل في النص ، فكل كلمة أتت في موضعها ، وجدتني أتوقف كثيراً عند الفكرة الذكية التي جاءت بها الكاتبة وربطها بين نبات الصبار وثمرة التين الشوكي ليمثلا محور فكرة القصة ، فقد شبهت مريم ميخائيل الزواج النصراني بنبتة التين الشوكي إما أن تثمر أو تبقى مجرد نبتة صبار مر ، والوصف هنا معبر جدا ، كما أنها استخدمت نفس الفكرة والتشبيه عندما قالت أن مريم "نبتت بجوفها ونمت حبة تين شوكي خبيثة، امتدت أشواكها بي وبزينب ، حتى امتدت الأشواك لأجزاء عدة من جسدك حتى طال جسدي أنا وزينب" وهو ما ذكرني بصورة فيروس كورونا التي استخدموا فيها رمز الكرة الخضراء ذات الأشواك ، وأي كائن غريب ينمو داخل الجسد مثل هذه الكرة أو حبة التين الشوكي ذات الأشواك المسننة إن لم تجد علاجا يوقف نموها ، تتكاثر أحيانا داخل الجسد كله بسرعة مرعبة لتفتك بجسد الإنسان وتنهي حياته .
بالوصول للمشهد الختامي تكتمل اللوحة بشقيها الحزين الباكي والضاحك الساخر ، كما هي الحياة بكل عبثيتها ، ولا عجب أن تتخيل الراوية صديقتها في التابوت الأبنوسي تشاركهن ما يشعرن به ، حتى بدا لها التابوت يهتز !
هناك بعض المفردات استعصت علي مثل " اللحف" الفاصل بين غيطان قريتنا والقرية الأكبر التي بها المدرسة".
عبير سليمان
#صدى_ذاكرة_القصة_المصرية
#صدى_ذاكرة_القصة_المصرية - Explore
explore #صدى_ذاكرة_القصة_المصرية at Facebook
www.facebook.com