لم يكد سبينوزا يبلغ سن الشباب حتى انكب على الفلسفة يدرسها دراسة
صادفت في نفسه هوى. فأخذ ينهل من مواردها العذبة ويؤثرها على
كل شيء وقد طالع فيم طالع فلسفة برونو فوقعت منه آراؤه موقع
الإعجاب وامتلأ ذهنه بما قاله ذلك الفيلسوف من: أن الوجود في
جوهره وحدة متجانسة وإن تعددت ظواهرها. إذ نشأت جميعها من
أصل واحد ثم اتخذت ألوانا مختلفة لا تغير من جوهر طبيعتها
المتجانس.
كذلك أعجبه رأي برونو المذكور القائل بأن الروح والمادة شيء واحد فكل ذرة من ذرات الكون يتحد فيها الجانبان: الروحي والمادي، وعنده أن موضوع الفلسفة هو إدراك تلك الوحدة التي تربط هذه الأشتات المتضاربة في الظاهر فترى الروح في المادة كما تلمس المادة في الروح.
ثم قرأ سبينوزا فلسفة ديكارت قراءة درس وتمحيص، فدعاه إلى التفكير الطويل برأي ديكارت في تقسيم الكون إلى شطرين: شطر مادي متحد في الجوهر على الرغم مما يبدو في الأجسام المادية من إختلاف وشطر روحي متجانس في جوهره كذلك، وهو عبارة عن مجموع القوى العقلية الحالّة في مختلف الأجسام وتدير هذه الشطرين وتشرف عليهما قوة إلهية عليا. . . قرأ سبينوزا ذلك فلم يوافق على شطر الكون واختمرت في نفسه على الفور فكرة وحدة الوجود التي تقول بأن الكون شطر واحد لا يتجزأ، وهذه الفكرة هي المحور الذي تدور حوله فلسفة سبينوزا، وها نحن أولاء نتناولها بالشرح والتحليل.
يقول سبينوزا أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلاّ بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشك المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبداً، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. ذلك كما تقول أن للدائرة قانوناً لا يتغير، يخضع لناموسه كلما وجد أو يوجد من الدوائر، وإن كانت الدوائر نفسها تمحى وتتجدد، الا أن قانونها يظل باقياً لا يعتريه التبدل أو الفناء. فأجسامنا، وأفكارنا وهذه الأرض التي نعيش عليها، وكلما يحتوي الكون من أشياء، كل ذلك صور مختلفة تستخدم لإبراز الحقيقة الكائنة وراءها، والتي لا يمسها معنى من معاني التغيير والتبديل، إنما القوالب المادية وحدها هي التي تخضع لذلك التبديل والتغيير.
فالطبعة على هذا الأساس مزدوجة الجوانب، فهي فعالة حيوية منشئة من ناحية (قارن في فلسفة برجسون) وهي منفعلة متأثرة منشأة من ناحية أخرى، هذا الجانب المنفعل المتأثر من الطبيعة: هي أجزاؤها المادية، هي هذه الجبال والبحار والمزارع والرياح وما إلى ذلك من الصور المادية التي لا يحدها الحصر، أما الجانب الفعال المنشئ فهي تلك القوة الكامنة وراء هذه الصور المادية، وهي التي خلقتها خلقاوأبدعتها إبداعاً أو بعبارة أوضح هو الله عز وجل. . .
ويقصد سبينوزا بكلمة (الله) ذلك القانون الثابت الذي لا يجوز عليه التغيير أو الفناء، تلك القوة الفعالة التي تنظم الكون وتباشر ترتيب ما يطرأ من أحداث على المادة التي تملأ جوانب الكون.
ولولا تلك القوانين العامة التي يسير بمقتضاها العالم، لتداعى الكون بعضه على بعض، مثل ذلك مثل الجسر (الكوبري)، فهو في حد ذاته كتلة من المادة، ولكنه مشيد على أساس من القوانين الرياضية والميكانيكية، التي وإن تكن مختفية لا تظهر بشكل محسوس، في مادة الجسر، الا أنها كامنة فيه ولو اختل واحد منها انهار البناء على الفور. فالعالم المادي بمثابة ذلك الجسر، والله سبحانه وتعالى من هذا العالم بمثابة تلك القوانين التي لا ترى ولكنها لا تنكر.
وعلى هذا الاعتبار تكون إرادة الله وقوانين الطبيعة شيء واحد، وكل ما يقع من حوادث عبارة عن النتيجة الآلية المحتومة لتلك القوانين الدائمة، أي أنها ليست عبثا ولا فوضى. فهذا العالم تسيره تلك الإرادة العليا، وليس مخيرا في كثير ولا قليل مما يفرض عليه فرضاً، وليس له عن تنفيذه نحيد. والإنسان - ككل جزء آخر من أجزاء العالم - يسير كذلك في هذه الطريق المرسومة، الا أنه قد تبلغ به الأنانية حدا بعيدا فيظن انه المقصود من خلق هذا الكون الفسيح، وأن هذه الطبيعة وما فيها إنما وجدت من أجله ولصالحه، ولكن لا يجوز للفيلسوف بحال من الأحوال أن ينظر إلى العالم هذه النظرة الشخصية الضيقة فواجب أن نجرد أنفسنا من نزعتنا البشرية، حتى يتسنى لنا أن ندرك الكون مستقلا عنا، بعيدا عما تمليه أغراضنا، وأن ندرسه دراسة موضوعية كحقيقة عارية لا تؤثر فيها الميول الإنسانية. فلا ننسب الخير والشر لهذا الشئ أو ذاك لأن الخير والشر نسبيان للبشر، وليس لهما وجود في الواقع، فإذا ما حكما على شيء قي الطبيعة بأنه عبث وشر، أو أنه يثير فينا السخرية فذلك لأننا لا نعرف الأشياء الا معرفة جزئية، ولأننا نريد أن تسير الامور كما نشتهي نحن، وحسب ما تمليه عقولنا، لأننا نجهل أن الكون وحدة لا تتجزأ، فما نحكم عليه بأنه شر ليس في الحقيقة شرا بالنسبة للقوانين التي تسير الطبيعة بمقتضاها، ولكنه شر بالنسبة لطبيعتنا نحن بعد فصلها وانتزاعها من تلك الوحدة الكونية. فالشر والخير أوهام لا تعرفها الحقيقة الخالدة. لا ولا الجمال والقبح لأنهما كذلك أوصاف اصطلح عليها الإنسان. فالشيء الجميل والشيء القبيح هما في نظر القوانين العامة سواء ولا تفضيل لأحدهما على الآخر. هكذا يريد سبينوزا أن نجرد أنفسنا من كل النزعات والميول والأغراض وأن ننظر إلى العالم من وجهة نظر الواقع، لا من وجهة نظرنا نحن. حتى نصدر أحكاما صحيحة. يجب أن ننظر إلى العالم نظرة مجردة كما ننظر إلى المثلث مثلا، فأنت لا تحكم عليه كما يقع في نفسك، فيكون لك فيه رأي ولي فيه رأي آخر، لا بل ننظر إليه بالنسبة إلى القانون العام المجرد الذي يتحكم في جميع المثلثات على السواء فيكون المثلث عندك كما هو عندي وعند أي إنسان. فلننظر إذن إلى هذا العالم من وجهة نظر قوانينه الثابتة الشاملة حتى لا يتغير باختلاف الميول والأشخاص. ويزعم سبينوزا: أن تلك النظرة الشخصية قد أفسدت علينا فهم الله سبحانه وتعالى فهما صحيحا، فأخذنا ننسب إليه صفاتنا نحن، لماذا؟ لأننا أبصرناه من نافذة نفوسنا، ولم نتجرد لنطل عليه من جانب الحقيقة والواقع، فنحن مثلا نتصور الله في صورة المذكر دائما، ولا نرضى أن نصبغه بصبغة التأنيث، نقول هو ولا نقول هي، وليس ذلك الا نتيجة لخضوع المرأة لسلطان الرجل، كذلك ننسب إليه كل الصفات التي نراها حسنة كاملة لا من حيث الواقع ولكن من حيث حكم العقل البشري المحدود بميوله وأغراضه. وقد كتب سبينوزا في ذلك إلى أحد معارضيه يقول: (إذا اعترضت عليّ بأنني لا أريد أن أصف الله بالنظر والسمع والملاحظة والإرادة وما إلى ذلك من الصفات. . . فأنت إذن لا تعرف الإله الذي أتصوره وأحسب أنك لا تستطيع أن تتخيل مثلا أعلى من الصفات السالفة الذكر، وإني لا أستغرب منك هذا القصور في الخيال لأنني أعتقد أن المثلث إذا استطاع أن يعبر عن نفسه لقال كذلك أن الله يتميز بصفات المثلث. كما تقول الدائرة أن طبيعة الله دائرية. وهكذا ينسب كل شيء إلى الله من الصفات ما يراها في نفسه)
الله عند سبينوزا هو مجموع الأسباب والقوانين جميعا وقوته هي مجموع القوى العقلية الكامنة في كل أجزاء المادة المنتشرة في الزمان والمكان.
لأن لكل شيء في الوجود جانبا عقليا أي روحيا، كما أن الامتداد، أي الجسم، جانب آخر.
ولكن ما هو العقل وما هي المادة؟ ذهب الخيال الجامح ببعضهم إلى حد القول بان المادة روح كلها وليس الجسم الا محض فكرة، كما جمد الخيال عند بعض آخر إلى حد القول بأن العقل مادة كله، وليست الأفكار الا عمليات جسمية، وذهب فريق ثالث إلى أن العقل والمادة مستقل بعضهما عن بعض الا انهما متوازيان في عملهما أي أن العقل يفكر والجسم يتحرك دون أن يكون بين ذلك التفكير وهذه الحركة علاقة ما. يستعرض سبينوزا هذه الآراء جميعا فيرفضها جميعا، فلا المادة روحية ولا العقل مادي ولا هما مستقلان متوازيان إذ ليس هناك شيئان متميزان: عقل ومادة، حتى نبحث عن العلاقة بينهما بل ثمت شيء واحد فقط وعملية واحدة فحسب لها مظهران أو جانبان، فأنت تراها الآن باطنيا في صورة الفكرة ثم تراها خارجيا في صورة العمل. فالعقل والجسم وحدة لا تتجزأ، وكل أجزاء الوجود لها هاتان الشعبتان الممتزجتان المتحدتان، وبعبارة أخرى المادة التي في الكون والروح التي في الكون شيء واحد ذو وجهين، وبعبارة ثالثة، الطبيعة والله شيء واحد، وإذا كان الأمر كذلك من توحيد العقل والجسم أي أن الروح والمادة وجعلهما شيئا واحدا فلا اختلاف إذن بين الإرادة والذكاء، ما دامت الإرادة هي عبارة عن نزوع الجسم إلى عمل معين، والذكاء هو القوة الفكرية الخالصة، وها نحن أولاء قد رأينا أن أعمال الجسم وقوة الفكر ليسا إلا ناحيتين من حقيقة واحدة.
الإنسان إذن بعقله وجسمه وحدة لا تقبل التقسيم وعماد وجوده هو الرغبة اللاشعورية في البقاء، فالرغبة اللاشعورية عند سبينوزا هي كنه الإنسان وجوهره (قارن إرادة الحياة عند شوبنهور وإرادة القوة عند نيتشه) وكل الغرائز خطط دبرتها الطبيعة لحفظ الفرد أو النوع، والسرور والألم ينشآن عن إشباع الغرائز أو تعطيلها، فليس السرور والألم سببا لرغباتنا كما يذهب فريق من المفكرين ولكنهما نتيجة لها. نحن لا نرغب في الشيء لأنه يسرنا ولكنه يسرنا لأننا نرغب فيه، ولا بد لنا أن نرغب فيه لأنه يشبع لنا الغرائز التي تمهد لنا سبيل البقاء. ولا بد أن يكون القارئ قد سارعت إليه النتيجة الطبيعية لهذه المقدمات وهي أن ليس ثمت إرادة حرة، وأن الإنسان مجبر على السير في طريق معينة مرسومة ليس له أن يحيد عنها قيد شعرة، لأن ضرورات الحياة تحدد الغرائز والغرائز تملي الرغبات والرغبات تخلق الأفكار والأعمال المعينة.
وقد يتوهم الإنسان انه حر فيما يفكر ويعمل ومنشأ ذلك الظن الخاطئ انه مدرك لرغباته ولكنه يجهل الأسباب التي تسوق إليه الرغبات فيخيل إليه انه إنما تولدت بمحض إرادته، والحقيقة أن هناك من الدوافع الغريزية ما تحتم عليه أن يحقق هذه الرغبة أو تلك رغم أنفه، فهو يدرك النتائج فقط ويجهل الأسباب الدافعة إليها، ويشبه سبينوزا الإنسان في ذلك بقطعة من الحجر الملقى الذي لا بد له من أن يسقط في مكان معين تبعا لقوة الدفعة، فلو فرضنا أن ذلك الحجر الملقى له إدراك كالإنسان لظن انه إنما يسقط في هذا المكان الخاص وفي هذه الساعة المعينة لأنه يريد ذلك وهذا لأنه يجهل اليد التي دفعته فقسرته على تصرف لا يستطيع أن ينحرف عنه.
وهكذا تخضع أعمال الإنسان لقوانين ثابتة ثبوت القوانين الهندسية ومعنى هذا ان الإنسان جزء لا يتميز من سائر أجزاء الطبيعة بل يندمج فيها ويخضع لناموسها.
الإنسان ظاهرة مادية ككل الظواهر الأخرى يتحكم فيها ذلك القانون الشامل الذي يكمن وراء الكون جميعا ولا ينفصل عنه بل يكون معه كلا لا تنفصم عراه. وقد ضربنا مثلا بذلك الجسر (الكوبري) وقوانينه الميكانيكية، نحن أجزاء من ذلك التيار الذي يجرف أمامه كل شيء تيار القانون العام والسببية، ولما كان ذلك القانون هو الله فنحن إذن أجزاء من الله تعالى ولو أن الأفراد تفنى بالموت الا أن تلك الحقيقة الخالدة التي تتمثل فينا باقية لا تموت. أجسامنا خلايا في جسم الجنس والأجناس أعضاء من جسم الحياة، وبهذا الدمج - دمج الفرد في الكل. يقول شاعر هندي (اعلم أن روحا واحدا ينظم نفسك في الكل وانبذ الوهم الذي يفصل الأجزاء عن كلها الشامل.)
وباعتبار الإنسان جزء من كل فهو خالد، ذلك لأن القانون الذي يسيره لا يفنى بفنائه كما قدمنا، بل هو أبدي تظهر آثاره في الأفراد بعد الأفراد. فأنت إذا محوت مثلثا مخطوطا على ورقة أمامك فليس معنى ذلك فناء القوانين التي تخضع لها المثلثات لان هذا المثلث المعين الذي محوته لم يكن شخصية منفصلة عن زملائه المثلثات بل هو يضبط الجميع ناموس واحد لا يعتريه التغير والفناء. وقل مثل هذا تماما في أفراد الإنسان. يموت الواحد ويبقى قانونه ممثلا في سائر الأفراد وهذا هو معنى الخلود عند سبينوزا، وهو كما ترى ليس خلود لأفراد بل خلود لقوة وقانون، وذلك يتضمن بالطبع إنكار الثواب في الحياة الآخرة جزاء الفضيلة الدنيوية، وهو يقول في ذلك: (إن هؤلاء الذين ينظرون للفضيلة كأنها عبودية مفروضة عليهم من الله تعالى ولا بد أن يمنحهم الله جزاء على قيامهم بهذا الفرض الثقيل إنما هم أبعد ما يكونون عن فهم الفضيلة على الوجه الصحيح. فالفضيلة أو طاعة الله هي سعادة في نفسها يشعر الإنسان بالطمأنينة والنعيم في أدائها فعلام تنتظر الجزاء؟ انك تكون كرجل أسكنه سيده قصرا فخما وأعد له فيه كل ألوان النعيم فيظل يرتع فيه وينعم ثم هو بعد ذلك ينظر من سيده أجر البقاء في ذلك النعيم!!)
والخلاصة أن الطبيعة تسير بمقتضى قوانين كامنة في صورها كما تكمن قوانين الصوت مثلا في جهاز الراديو، فكما أنك لا تستطيع أن تقول هذا هو الجهاز المادي للراديو وتلك هي قوانينه النظرية منفصلة بل هما شيء واحد لا ينفصل كذلك لا يمكنك أن تقول هذا هو العلم المادي وتلك هي القوة الروحية التي تسيره، لأنهما متصلان في وحدة لا تتجزأ. وبما أن هذه القوانين تسيطر على كل جزء من أجزاء الوجود (والإنسان واحد منها) فالإنسان يسير بمقتضى تلك القوانين الثابتة. ولا يتمتع بذرة من الحرية في تصرفاته.
وهناك جوانب أخرى من فلسفة سبينوزا، فقد كتب رسالة في الأخلاق وأخرى في النظام السياسي وكنا نحب أن نتناولهما بالشرح الموجز لولا ضيق المقام فلعلنا نوفق إلى تحقيق ذلك في مقال آخر.
مجلة الرسالة - العدد 12
بتاريخ: 01 - 07 - 1933
صادفت في نفسه هوى. فأخذ ينهل من مواردها العذبة ويؤثرها على
كل شيء وقد طالع فيم طالع فلسفة برونو فوقعت منه آراؤه موقع
الإعجاب وامتلأ ذهنه بما قاله ذلك الفيلسوف من: أن الوجود في
جوهره وحدة متجانسة وإن تعددت ظواهرها. إذ نشأت جميعها من
أصل واحد ثم اتخذت ألوانا مختلفة لا تغير من جوهر طبيعتها
المتجانس.
كذلك أعجبه رأي برونو المذكور القائل بأن الروح والمادة شيء واحد فكل ذرة من ذرات الكون يتحد فيها الجانبان: الروحي والمادي، وعنده أن موضوع الفلسفة هو إدراك تلك الوحدة التي تربط هذه الأشتات المتضاربة في الظاهر فترى الروح في المادة كما تلمس المادة في الروح.
ثم قرأ سبينوزا فلسفة ديكارت قراءة درس وتمحيص، فدعاه إلى التفكير الطويل برأي ديكارت في تقسيم الكون إلى شطرين: شطر مادي متحد في الجوهر على الرغم مما يبدو في الأجسام المادية من إختلاف وشطر روحي متجانس في جوهره كذلك، وهو عبارة عن مجموع القوى العقلية الحالّة في مختلف الأجسام وتدير هذه الشطرين وتشرف عليهما قوة إلهية عليا. . . قرأ سبينوزا ذلك فلم يوافق على شطر الكون واختمرت في نفسه على الفور فكرة وحدة الوجود التي تقول بأن الكون شطر واحد لا يتجزأ، وهذه الفكرة هي المحور الذي تدور حوله فلسفة سبينوزا، وها نحن أولاء نتناولها بالشرح والتحليل.
يقول سبينوزا أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلاّ بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشك المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبداً، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. ذلك كما تقول أن للدائرة قانوناً لا يتغير، يخضع لناموسه كلما وجد أو يوجد من الدوائر، وإن كانت الدوائر نفسها تمحى وتتجدد، الا أن قانونها يظل باقياً لا يعتريه التبدل أو الفناء. فأجسامنا، وأفكارنا وهذه الأرض التي نعيش عليها، وكلما يحتوي الكون من أشياء، كل ذلك صور مختلفة تستخدم لإبراز الحقيقة الكائنة وراءها، والتي لا يمسها معنى من معاني التغيير والتبديل، إنما القوالب المادية وحدها هي التي تخضع لذلك التبديل والتغيير.
فالطبعة على هذا الأساس مزدوجة الجوانب، فهي فعالة حيوية منشئة من ناحية (قارن في فلسفة برجسون) وهي منفعلة متأثرة منشأة من ناحية أخرى، هذا الجانب المنفعل المتأثر من الطبيعة: هي أجزاؤها المادية، هي هذه الجبال والبحار والمزارع والرياح وما إلى ذلك من الصور المادية التي لا يحدها الحصر، أما الجانب الفعال المنشئ فهي تلك القوة الكامنة وراء هذه الصور المادية، وهي التي خلقتها خلقاوأبدعتها إبداعاً أو بعبارة أوضح هو الله عز وجل. . .
ويقصد سبينوزا بكلمة (الله) ذلك القانون الثابت الذي لا يجوز عليه التغيير أو الفناء، تلك القوة الفعالة التي تنظم الكون وتباشر ترتيب ما يطرأ من أحداث على المادة التي تملأ جوانب الكون.
ولولا تلك القوانين العامة التي يسير بمقتضاها العالم، لتداعى الكون بعضه على بعض، مثل ذلك مثل الجسر (الكوبري)، فهو في حد ذاته كتلة من المادة، ولكنه مشيد على أساس من القوانين الرياضية والميكانيكية، التي وإن تكن مختفية لا تظهر بشكل محسوس، في مادة الجسر، الا أنها كامنة فيه ولو اختل واحد منها انهار البناء على الفور. فالعالم المادي بمثابة ذلك الجسر، والله سبحانه وتعالى من هذا العالم بمثابة تلك القوانين التي لا ترى ولكنها لا تنكر.
وعلى هذا الاعتبار تكون إرادة الله وقوانين الطبيعة شيء واحد، وكل ما يقع من حوادث عبارة عن النتيجة الآلية المحتومة لتلك القوانين الدائمة، أي أنها ليست عبثا ولا فوضى. فهذا العالم تسيره تلك الإرادة العليا، وليس مخيرا في كثير ولا قليل مما يفرض عليه فرضاً، وليس له عن تنفيذه نحيد. والإنسان - ككل جزء آخر من أجزاء العالم - يسير كذلك في هذه الطريق المرسومة، الا أنه قد تبلغ به الأنانية حدا بعيدا فيظن انه المقصود من خلق هذا الكون الفسيح، وأن هذه الطبيعة وما فيها إنما وجدت من أجله ولصالحه، ولكن لا يجوز للفيلسوف بحال من الأحوال أن ينظر إلى العالم هذه النظرة الشخصية الضيقة فواجب أن نجرد أنفسنا من نزعتنا البشرية، حتى يتسنى لنا أن ندرك الكون مستقلا عنا، بعيدا عما تمليه أغراضنا، وأن ندرسه دراسة موضوعية كحقيقة عارية لا تؤثر فيها الميول الإنسانية. فلا ننسب الخير والشر لهذا الشئ أو ذاك لأن الخير والشر نسبيان للبشر، وليس لهما وجود في الواقع، فإذا ما حكما على شيء قي الطبيعة بأنه عبث وشر، أو أنه يثير فينا السخرية فذلك لأننا لا نعرف الأشياء الا معرفة جزئية، ولأننا نريد أن تسير الامور كما نشتهي نحن، وحسب ما تمليه عقولنا، لأننا نجهل أن الكون وحدة لا تتجزأ، فما نحكم عليه بأنه شر ليس في الحقيقة شرا بالنسبة للقوانين التي تسير الطبيعة بمقتضاها، ولكنه شر بالنسبة لطبيعتنا نحن بعد فصلها وانتزاعها من تلك الوحدة الكونية. فالشر والخير أوهام لا تعرفها الحقيقة الخالدة. لا ولا الجمال والقبح لأنهما كذلك أوصاف اصطلح عليها الإنسان. فالشيء الجميل والشيء القبيح هما في نظر القوانين العامة سواء ولا تفضيل لأحدهما على الآخر. هكذا يريد سبينوزا أن نجرد أنفسنا من كل النزعات والميول والأغراض وأن ننظر إلى العالم من وجهة نظر الواقع، لا من وجهة نظرنا نحن. حتى نصدر أحكاما صحيحة. يجب أن ننظر إلى العالم نظرة مجردة كما ننظر إلى المثلث مثلا، فأنت لا تحكم عليه كما يقع في نفسك، فيكون لك فيه رأي ولي فيه رأي آخر، لا بل ننظر إليه بالنسبة إلى القانون العام المجرد الذي يتحكم في جميع المثلثات على السواء فيكون المثلث عندك كما هو عندي وعند أي إنسان. فلننظر إذن إلى هذا العالم من وجهة نظر قوانينه الثابتة الشاملة حتى لا يتغير باختلاف الميول والأشخاص. ويزعم سبينوزا: أن تلك النظرة الشخصية قد أفسدت علينا فهم الله سبحانه وتعالى فهما صحيحا، فأخذنا ننسب إليه صفاتنا نحن، لماذا؟ لأننا أبصرناه من نافذة نفوسنا، ولم نتجرد لنطل عليه من جانب الحقيقة والواقع، فنحن مثلا نتصور الله في صورة المذكر دائما، ولا نرضى أن نصبغه بصبغة التأنيث، نقول هو ولا نقول هي، وليس ذلك الا نتيجة لخضوع المرأة لسلطان الرجل، كذلك ننسب إليه كل الصفات التي نراها حسنة كاملة لا من حيث الواقع ولكن من حيث حكم العقل البشري المحدود بميوله وأغراضه. وقد كتب سبينوزا في ذلك إلى أحد معارضيه يقول: (إذا اعترضت عليّ بأنني لا أريد أن أصف الله بالنظر والسمع والملاحظة والإرادة وما إلى ذلك من الصفات. . . فأنت إذن لا تعرف الإله الذي أتصوره وأحسب أنك لا تستطيع أن تتخيل مثلا أعلى من الصفات السالفة الذكر، وإني لا أستغرب منك هذا القصور في الخيال لأنني أعتقد أن المثلث إذا استطاع أن يعبر عن نفسه لقال كذلك أن الله يتميز بصفات المثلث. كما تقول الدائرة أن طبيعة الله دائرية. وهكذا ينسب كل شيء إلى الله من الصفات ما يراها في نفسه)
الله عند سبينوزا هو مجموع الأسباب والقوانين جميعا وقوته هي مجموع القوى العقلية الكامنة في كل أجزاء المادة المنتشرة في الزمان والمكان.
لأن لكل شيء في الوجود جانبا عقليا أي روحيا، كما أن الامتداد، أي الجسم، جانب آخر.
ولكن ما هو العقل وما هي المادة؟ ذهب الخيال الجامح ببعضهم إلى حد القول بان المادة روح كلها وليس الجسم الا محض فكرة، كما جمد الخيال عند بعض آخر إلى حد القول بأن العقل مادة كله، وليست الأفكار الا عمليات جسمية، وذهب فريق ثالث إلى أن العقل والمادة مستقل بعضهما عن بعض الا انهما متوازيان في عملهما أي أن العقل يفكر والجسم يتحرك دون أن يكون بين ذلك التفكير وهذه الحركة علاقة ما. يستعرض سبينوزا هذه الآراء جميعا فيرفضها جميعا، فلا المادة روحية ولا العقل مادي ولا هما مستقلان متوازيان إذ ليس هناك شيئان متميزان: عقل ومادة، حتى نبحث عن العلاقة بينهما بل ثمت شيء واحد فقط وعملية واحدة فحسب لها مظهران أو جانبان، فأنت تراها الآن باطنيا في صورة الفكرة ثم تراها خارجيا في صورة العمل. فالعقل والجسم وحدة لا تتجزأ، وكل أجزاء الوجود لها هاتان الشعبتان الممتزجتان المتحدتان، وبعبارة أخرى المادة التي في الكون والروح التي في الكون شيء واحد ذو وجهين، وبعبارة ثالثة، الطبيعة والله شيء واحد، وإذا كان الأمر كذلك من توحيد العقل والجسم أي أن الروح والمادة وجعلهما شيئا واحدا فلا اختلاف إذن بين الإرادة والذكاء، ما دامت الإرادة هي عبارة عن نزوع الجسم إلى عمل معين، والذكاء هو القوة الفكرية الخالصة، وها نحن أولاء قد رأينا أن أعمال الجسم وقوة الفكر ليسا إلا ناحيتين من حقيقة واحدة.
الإنسان إذن بعقله وجسمه وحدة لا تقبل التقسيم وعماد وجوده هو الرغبة اللاشعورية في البقاء، فالرغبة اللاشعورية عند سبينوزا هي كنه الإنسان وجوهره (قارن إرادة الحياة عند شوبنهور وإرادة القوة عند نيتشه) وكل الغرائز خطط دبرتها الطبيعة لحفظ الفرد أو النوع، والسرور والألم ينشآن عن إشباع الغرائز أو تعطيلها، فليس السرور والألم سببا لرغباتنا كما يذهب فريق من المفكرين ولكنهما نتيجة لها. نحن لا نرغب في الشيء لأنه يسرنا ولكنه يسرنا لأننا نرغب فيه، ولا بد لنا أن نرغب فيه لأنه يشبع لنا الغرائز التي تمهد لنا سبيل البقاء. ولا بد أن يكون القارئ قد سارعت إليه النتيجة الطبيعية لهذه المقدمات وهي أن ليس ثمت إرادة حرة، وأن الإنسان مجبر على السير في طريق معينة مرسومة ليس له أن يحيد عنها قيد شعرة، لأن ضرورات الحياة تحدد الغرائز والغرائز تملي الرغبات والرغبات تخلق الأفكار والأعمال المعينة.
وقد يتوهم الإنسان انه حر فيما يفكر ويعمل ومنشأ ذلك الظن الخاطئ انه مدرك لرغباته ولكنه يجهل الأسباب التي تسوق إليه الرغبات فيخيل إليه انه إنما تولدت بمحض إرادته، والحقيقة أن هناك من الدوافع الغريزية ما تحتم عليه أن يحقق هذه الرغبة أو تلك رغم أنفه، فهو يدرك النتائج فقط ويجهل الأسباب الدافعة إليها، ويشبه سبينوزا الإنسان في ذلك بقطعة من الحجر الملقى الذي لا بد له من أن يسقط في مكان معين تبعا لقوة الدفعة، فلو فرضنا أن ذلك الحجر الملقى له إدراك كالإنسان لظن انه إنما يسقط في هذا المكان الخاص وفي هذه الساعة المعينة لأنه يريد ذلك وهذا لأنه يجهل اليد التي دفعته فقسرته على تصرف لا يستطيع أن ينحرف عنه.
وهكذا تخضع أعمال الإنسان لقوانين ثابتة ثبوت القوانين الهندسية ومعنى هذا ان الإنسان جزء لا يتميز من سائر أجزاء الطبيعة بل يندمج فيها ويخضع لناموسها.
الإنسان ظاهرة مادية ككل الظواهر الأخرى يتحكم فيها ذلك القانون الشامل الذي يكمن وراء الكون جميعا ولا ينفصل عنه بل يكون معه كلا لا تنفصم عراه. وقد ضربنا مثلا بذلك الجسر (الكوبري) وقوانينه الميكانيكية، نحن أجزاء من ذلك التيار الذي يجرف أمامه كل شيء تيار القانون العام والسببية، ولما كان ذلك القانون هو الله فنحن إذن أجزاء من الله تعالى ولو أن الأفراد تفنى بالموت الا أن تلك الحقيقة الخالدة التي تتمثل فينا باقية لا تموت. أجسامنا خلايا في جسم الجنس والأجناس أعضاء من جسم الحياة، وبهذا الدمج - دمج الفرد في الكل. يقول شاعر هندي (اعلم أن روحا واحدا ينظم نفسك في الكل وانبذ الوهم الذي يفصل الأجزاء عن كلها الشامل.)
وباعتبار الإنسان جزء من كل فهو خالد، ذلك لأن القانون الذي يسيره لا يفنى بفنائه كما قدمنا، بل هو أبدي تظهر آثاره في الأفراد بعد الأفراد. فأنت إذا محوت مثلثا مخطوطا على ورقة أمامك فليس معنى ذلك فناء القوانين التي تخضع لها المثلثات لان هذا المثلث المعين الذي محوته لم يكن شخصية منفصلة عن زملائه المثلثات بل هو يضبط الجميع ناموس واحد لا يعتريه التغير والفناء. وقل مثل هذا تماما في أفراد الإنسان. يموت الواحد ويبقى قانونه ممثلا في سائر الأفراد وهذا هو معنى الخلود عند سبينوزا، وهو كما ترى ليس خلود لأفراد بل خلود لقوة وقانون، وذلك يتضمن بالطبع إنكار الثواب في الحياة الآخرة جزاء الفضيلة الدنيوية، وهو يقول في ذلك: (إن هؤلاء الذين ينظرون للفضيلة كأنها عبودية مفروضة عليهم من الله تعالى ولا بد أن يمنحهم الله جزاء على قيامهم بهذا الفرض الثقيل إنما هم أبعد ما يكونون عن فهم الفضيلة على الوجه الصحيح. فالفضيلة أو طاعة الله هي سعادة في نفسها يشعر الإنسان بالطمأنينة والنعيم في أدائها فعلام تنتظر الجزاء؟ انك تكون كرجل أسكنه سيده قصرا فخما وأعد له فيه كل ألوان النعيم فيظل يرتع فيه وينعم ثم هو بعد ذلك ينظر من سيده أجر البقاء في ذلك النعيم!!)
والخلاصة أن الطبيعة تسير بمقتضى قوانين كامنة في صورها كما تكمن قوانين الصوت مثلا في جهاز الراديو، فكما أنك لا تستطيع أن تقول هذا هو الجهاز المادي للراديو وتلك هي قوانينه النظرية منفصلة بل هما شيء واحد لا ينفصل كذلك لا يمكنك أن تقول هذا هو العلم المادي وتلك هي القوة الروحية التي تسيره، لأنهما متصلان في وحدة لا تتجزأ. وبما أن هذه القوانين تسيطر على كل جزء من أجزاء الوجود (والإنسان واحد منها) فالإنسان يسير بمقتضى تلك القوانين الثابتة. ولا يتمتع بذرة من الحرية في تصرفاته.
وهناك جوانب أخرى من فلسفة سبينوزا، فقد كتب رسالة في الأخلاق وأخرى في النظام السياسي وكنا نحب أن نتناولهما بالشرح الموجز لولا ضيق المقام فلعلنا نوفق إلى تحقيق ذلك في مقال آخر.
مجلة الرسالة - العدد 12
بتاريخ: 01 - 07 - 1933