أ. د. عادل الأسطة - القصيدة وترجماتها: ما يجب أن يُقال

زمن الشعر، زمن الرواية:
للدكتور جابر عصفور الناقد المصري المعروف، الوزير لأقل من شهر، والحائز جائزةً قرر رد قيمتها المالية لشعب مانحها القتيل، للدكتور جابر كتاب عنوانه "زمن الرواية" ذهب فيه إلى أن زمننا هو زمن الرواية، لا زمن الشعر. هل غدا الشعر لا يُقرأ، وغدت الرواية أكثر انتشاراً.
السؤال لم نثره نحن العرب فقط. أثاره من قبلنا الفرنسيون، وأثاره أيضاً، الألمان. مرةً كتب كاتب صحافي مهتم بالأدب ويقيم في فرنسا إنهم ـ أعني الفرنسيين ـ يدقون آخر مسمار في نعش الشعر. وحين قلت هذا مرةً في المركز الثقافي الفرنسي، وضح لي الكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي الأمر فقال: إنهم لا يقرأون الشعر حقاً، ولكنهم يصغون إليه، ولهذا ما زالوا يحتفلون به في الربيع، ولهذا أنا هنا في نابلس. ومرةً خصصت مجلة (دويتشلاند) (ألمانيا) صفحات لشاعرة ألمانية لافتة هي (أولا هان) ذهبت فيها إلى أن الشاعرة أعادت للشعر اعتباره، فهي تنوع في موضوعاتها، وما زال القراء يقبلون على شراء دواوينها. كم من نسخة يطبع من ديوان الشعر في ألمانيا وفرنسا، حتى لشاعر مشهور؟
إن كانت ذاكرتي جيدة، فكاتب المقال ذهب إلى أنها ـ أي دور النشر ـ تطبع ألف نسخة فقط، وهو رقم يكاد لا يذكر إلى جانب أرقام الرواية، فهذه إن نجحت باعت مئات آلاف النسخ، وقد تصل إلى المليون.
هل الأمر في عالمنا العربي مختلف؟
أعتقد أن محمود درويش ونزار قباني ومظفر النواب وأحمد مطر يشكلون استثناءً. هذا ما أعرفه من المكتبات حين أتردد عليها في عمان لأشتري منها الكتب، وأسأل، لفضولي، عن دواوين الشعر وأصحابها ورواج الشعر. أنا شخصياً أعود من زيارتي بعشرين ثلاثين أربعين كتاباً، قد تجد بينها ديوان شعر واحداً، إن كان لمحمود درويش أكون اشتريته، وإن كان لغيره أكون أهديته. وربما لاحظ قراء مقالي أنني أكتب عن الرواية، وحين أكتب عن الشعر أكتب عن محمود درويش وشعراء آخرين قليلين. هل انتهى زمن الشعر؟
قصيدة واحدة وست ترجمات في أسبوع:
في 4/4/2012 نشر الكاتب الألماني (غونتر غراس) قصيدته "ما يجب أن يُقال" في جريدة جنوب ألمانيا ـ ميونيخ. أثارت القصيدة ـ كما عرف القراء ـ ضجةً كبيرةً لا تقل عن الضجة التي أثارتها قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر" (1988)، التي تُرجمت إلى العبرية في غضون شهر سبع ترجمات وأثارت في إسرائيل وفي أماكن أخرى زوبعةً كبيرةً، وقرأها (إسحق شامير) رئيس وزراء إسرائيل في حينه، على صفحات (الكنيست). ترى كم ترجمة أنجزت لقصيدة (غراس): "ما يجب أن يقال" التي أثارت ضجة مشابهة ـ أعني كم ترجمة إلى العبرية؟
أنا لا أعرف، ولكني أعرف أنها ترجمت ترجمات عديدة إلى العربية. كتب كتاب إسرائيليون كثر مقالات عن قصيدة (غراس) قرأتها بالعربية على صفحات "الأيام". في العربية قرأت، على الأقل، خمس ترجمات: سمير جريس (الرأي نيوز) وريم نجمي في (دويتشه فيله) وفخرية صالح في (إيلاف) وخالد البكاري في (وجهات نظر) وشاعر لم يذكر اسمه لم ترق له ترجمة فخرية صالح، فاقترح ترجمة شاعرية لم تخل من أخطاء، وأخيراً أنا، فقد اقترحت ترجمة نشرتها على "الفيس بوك". وقبلي هناك ترجمة حكم عبد الهادي.
هل ثمة دلالة؟
كثرة الترجمات، واهتمام الصحف والمجلات بالقصيدة، وكذلك المواقع الإلكترونية، له، لا شك، دلالة قد تقول: إن زمن الشعر لم ينته، فالشعر ما زال له جمهوره وقراؤه، وما زالت الصحف والمجلات تهتم به وتنشره، بل وما زال الشعر فاعلاً ومؤثراً وقد يثير أزمات. وقد يذهب المرء إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول إن الدول، حتى التي تزعم أنها ديمقراطية، تتأثر بما يقال، وتغضب فتحول دون دخول الشاعر أراضيها. الشاعر برسونا نون غروتا ـ شخص غير مرغوب فيه.

اختلاف الترجمات:
نقل القصيدة إلى العربية عن الألمانية (سمير جريس وريم نجمي وحكم عبد الهادي وفخرية صالح وأنا) وعن الفرنسية (خالد البكاري)، ونادراً ما تطابقت ترجمتان حتى في المعنى. سأتذكر مقولات الألمانيين (هانز روبرت ياوس) و(فو لنجانغ ايزر) ونظريتهما؛ نظرية التلقي: "إن قراءة نص واحد من قارئين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين". القصيدة نص والمترجمون كثر، والفهم مختلف والصياغة كذلك.
قصيدة (غراس) قصيدة نثرية وهي ثماني فقرات تبدو كما لو أنها مقالة، ونادراً ما التزم المترجمون بإخراجها في العربية كما بدت في الألمانية. لقد أرادوا لها أن تكون شعراً على غرار قصيدة التفعيلة، على غرار أشعار السياب ودرويش وآخرين، ومن هنا جاء شكلها الخارجي مختلفاً. هل اقتصر الأمر على هذا؟ ليته اقتصر على هذا.
يبدو أن امتلاك المترجمين للغتين كان مختلفاً اختلافاً كبيراً، وقد انعكس هذا بدوره على إيصال المعنى، وعلى الصياغة. أحياناً تقرأ صياغة عربية ومعاني واضحة مفهومة، وأحياناً تقرأ حروفاً عربية، ولغة ركيكة ومعاني غير مترابطة. وأحياناً يكون هناك إسقاط بعض أسطر أو استبدال مفردات بأخرى. في القصيدة إشارة إلى الشعب الإيراني، لا الفارسي، وفي إحدى الترجمات أسقطت كلمة إيران واستعيض عنها بمفردة الفارسي و... و... و...
والمرء يقرأ الترجمات المختلفة يتذكر المقولة المتناقلة عن الترجمة: إما جميلة وخائنة أو دقيقة وشنيعة. الأهم: هناك شعر ما زال يُقرأ!

ترجمة مقترحة:
لماذا أصمت؟ صمت طويلاً، فما هو علني تُدرب عليه في خطط اللعب، ونحن في نهايته، كأحياء، مجرد هوامش.
إعلان:
إنه الحق المزعوم بالضربة الأولى، الضربة التي قد تبيد الشعب الإيراني الذي يخضعه حاكم فشار ويوجهه لابتهاج منظم، الضربة الأولى، لأنه يعتقد بأن هناك إمكانية لبناء قنبلة ذرية.
حقاً لماذا أحظر على نفسي تسمية ذلك البعد الآخر الذي يملك منذ سنوات قوة ذرية نامية متزايدة، وإن هي بالسر، قوة ذرية خارج الرقابة، فلا أحد يملك الحق بالكشف عنها.
هذا الصمت العام على هذه الوقيعة، ومن ضمنه صمتي، أراه كذبة مدعاة وإكراها، تلوح لمن يخرج عنه عقوبة طالما أسيء استخدامها: الاتهام باللاسامية.
لكن الآن، لأنه من بلدي الملاحق مرة إثر مرة بجرائم لا نظير لها، ترسل غواصة، وإن نعت إرسالها بأنه تجارة محضة، أو بكلمة أسهل: تعويض فحسب، ترسل غواصة تكمن ميزتها في قدرتها على تدمير رؤوس تفجيرية، حيث يزعم بوجود قنبلة ذرية، وهذا لا دليل عليه. طبعاً سيكون الخوف من قوة الدليل. أقول ما يجب أن يُقال.
لماذا صمت طويلاً؟ لأنني قصدت أن وطني المدان بجرائم لا يتسامح فيها، لم يرتض مواجهة إسرائيل بهذا الواقع كحقيقة منكسرة، إسرائيل التي أنا مرتبط بها وسأظل.
إعلان:
لماذا أقول الآن، وأنا كهل، وما أكتبه هو الأخير: إن قوة إسرائيل الذرية تخيف السلام العالمي الواهي؟ لأنه يجب أن يقال اليوم ما يغدو قوله غداً متأخراً، ولأننا ـ نحن الألمان ـ محملون من الإثم بما يكفي، ويمكن أن نصبح ناقلي إجرام يمكن توقعه، وساعتها لا نستطيع التكفير عن الذنب بأعذار معتادة.
ولأعترف: لن أصمت ثانية، لأنني ضقت ذرعاً بنفاق الغرب الذي آمل أن يحرر نفسه من الصمت، بالطلب من مسبب الخطر المعروف بالتنازل عن القوة، بأن تكون هناك رقابة مستمرة، بلا عوائق، للقوة النووية الإسرائيلية والإيرانية، من خلال جهة اختصاص عالمية يسمح بها حكام بلاد الدولتين.
هذا هو الكل: لمساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين، وأكثر، لمساعدة البشر كلهم الذين يعيشون، بكثافة، جنباً إلى جنب في مناطق محتلة بالوهم، وفي النهاية لمساعدتنا نحن.

عادل الأسطة
2012-05-13

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى