المستشار بهاء المري - حكايات قضائية..

"ملِكٌ أكثر من الملكْ" مَقولةٌ سياسية شاعَ استخدامها في عصر المَلكيات في أوربا، وتعني "لا تُدافع عن الملِك أكثر مما يُدافع الملِك عن نفسِه" وصار الناس يستخدمونها في حال اهتمام شخص بمسألة شخص آخر أكثر مما يهتم بها صاحبها.
استوقفَتْني كثيرًا هذه القالة؛ لِما لاحظْتهُ من لسان حال مَن هُم مُلوكٌ أكثر من الملوك بدون أن يُطلَب منهم ذلك. بل تفكَّرْتُ في نفسية هؤلاء، هل يعتقدون أنهم عندما يكونون كذلك، إنما يُرضُون شخص من يَهتمُّون بأمره أكثر مما يهتمُّ هو بنفسِه؟ أم أنَّ طبيعة أعمالهم قد جعلَتْهُ سلوكًا جُبلوا عليه دون أن يشعروا؟ أم أنه أمرٌ يُرضي شعورًا ما لديهم؟
إنني أعتقدُ أنَّ أمثال هؤلاء ليسوا كذلك؛ وإنما هُم يجدون في اهتمامهم بالملك أكثر من الملك نفسه تحقيقًا لذواتهم وإحساسًا ذاتيًا بأهميتهم، ولَفْتًا للأنظار إليهم وإلى هذه الأهمية المزعومة التي يرونها في أنفسِهم.
أذكر شيئا من هذا القبيل كان يحدث في بداية عهدي بالعمل في نيابة منوف. كان أحد جنود الشرطة المنُوط بهم العمل في النيابة يتولَّى مُرافقتي من الاستراحة إلى مبنى النيابة وكُنَّا حين نبلغ الطابق الثاني الذى تَصْطفُّ على جانبيه غُرف متعددة هي مكاتب وكلاء النيابة وفي مواجهتها مكاتب الموظفين كان بطبيعة الحال أن يوجد أعداد كثيرة من المواطنين ممَّن لهم طلبات في النيابة، أو من المتَّهمين المعروضين مع المحاضر، وآخرين من أهليهم ممَّن يرافقونهم، وكذلك أعداد من المحامين المرافقين لهم، أو ممَّن لهم حاجاتٌ يَقضُونها، وعادةً ما يكون أمثال هؤلاء الناس مشغولون بهُمومِهم، كل منهم في عالمه الذى لا يعلمه إلا الله.
وكان هذا الشُّرطيُّ الذي يرافقني يَسْعَد أيما سعادة إذا كانت هذه الطُّرقة مزدحمة بالناس، فيصيح فيهم دون مناسبة وبغير داعٍ وبصوتٍ جَهْوَريّ غليظ جاف: "سِكَّة وطريق. سِكَّ طريق" ويُكررها فيقف الجالس وينزوي إلى الحائط من يتوسَّط الطُّرقة ويتحرَّك في وقفته من هو واقف ساكن، ويا ويلَ من لم يمْتثل من وجهة نظر هذا "الملِك" كان يُحمِلق فيه وكأنه ارتكبَ جُرمًا، بل وصل به الحال أحيانًا إلى حدِّ أن يدفعَهُ دفْعًا إلى جوار الحائط، أو يجذبه جذبةً قوية ليُوقفَهُ من جلسته رغمًا عنه، وكان يتكرَّر ذات الأمر إذا ما لمَح أحد وكلاء النيابة يُغادر مكتبه إلى مكتب زميل آخر له أو إلى دورة المياه.
وعلى الرغم من تنبيهي عليه غير ذي مرة ليُقلعَ عن أفعاله هذه، إلا أنه كان سُرعان ما يَنسَى أو قل لا يكْترث ويعاود ذات القسوة مع الناس من جديد.
شغَلَني الأمر، لِمَ هذا التصرف الذي لم يُطلبْ منه؛ لا سيما أنَّ الطُّرقة تسمَح بمرور موكب وليس فَرد على الرغم من وجود زحام. لماذا والناس كلٌّ مشغولٌ بِهمِّه، وربما يكون هذا المشغول لا يرى مَن هو مارٌّ من أمامه، وماذا يُضيف هذا التصرف الأحمَق إلى الشخص المار الذي يرافقه هذا الشرطي؟ هل يظُن أنَّ هذا يُرضي وكيل النيابة أو القاضي؟ أم يعتقد أنَّ إشاعة الخوْف هكذا بين الناس يُعدُّ إعلاءً من شأنه هو؟ وما الداعي لترويع هؤلاء المهمومين.
حذَّرتُه كثيرا في حينه من مثل هذا التصرف الجاف فوجدتُ علامات الاستياء واضحة على معالم وجهه ولم يملك سِوى الإجابة بعبارة "حاضِر" وعلى الرغم من هذه "الحاضِر" إلا أنه لم يكبَحَ جِماَح انتشائه وهو يشاهد هذا المنظر للناس وهم يتخبَّطُون في بعضهم، فيعود ليُكرِّر ما جُبل عليه حتى كان أمرُ إعادته لمركز الشرطة وإحضار آخر بديلاً له.
وتمرُّ السُّنون وأعمل رئيسًا لمحكمة جنايات كفر الشيخ وكانت الاستراحة تقع في طابق من طوابق المحكمة العليا، وكان أحد الحرَّاس يرافقنا من الاستراحة إلى الطابق الثاني حيث قاعة المحكمة، وكان ما بين هذا العمل وذاك ما يقرُب من ثلاثين عامًا. كنا نمُرُّ من لحظة هبوطنا بالمصعد لنبلغ مكان القاعة بطرقة طويلة يعقُبها أخرى أطوَلْ منها، وكلتا الطرقتين تفتح عليهما أعداد كبيرة من دوائر القضاء الجزئي والكُلِّي ومكاتب الموظفين، ومما لا شكَّ فيه وجود أعداد غفيرة من الناس في هذه الطرقات، ولم يكن التزاحم بالقدر الذي يتطلب تنبيه أي من المتواجدين إلى مرورنا فقد اعتاد الناس على ترْك مسافة في المنتصَف تسمح بمرور من يَمُر، حتى أن من يلِجُها لأول مرَّة يكتسب نفس سلوك الموجودين فيَنْتحى جانبًا قدْر الإمكان لتسهيل حركة المرور.
وإذا بهذا الحارس وعلى الرغم من كِبَر سِنِّه يدفع من يجده أمامه بيده حتى لو كان مُنتبهًا لمرورنا، ثم لا ينظُر إليه ويوالي تقدُّمه ليَدْفعَ غيره وغيره وهكذا. وكنتُ اُلاحِظُ الشرَّر يتطاير من أعين الناس وهم يُتابعونه بنظراتٍ غاضبة بعد أنْ فارَقهُم بخُطوات ولما يستديرون فيلمحون أعضاء الدائرة يَسيرون من خلفه يفهمون الأمر ويبتلعون إهاناتهم ولا ينطقون فأعتذرُ لهم على نحو يُطيِّب خاطرهم أو يمتص بعضًا من غضبهم.
وبعد مناقشةٍ مع هذا الشرطي حول لماذا يفعل هكذا، وبعد عجْزهِ عن إجابة منطقية، نبَّهتهُ إلى الإقلاع عن هذا السوك غير المحمود، ولكن هل أقلع عنه؟ بالطبع لم يُقلع، فكيف له وقد جُبلَ على فِعْلتها سنين وسنين أنْ يُغادرها بين عشيَّةٍ وضُحاها؟ ولكنه هدَّأ قليلا من حِدَّتها فكان يدفَعْ شَخصًا ويتَخطى اثنين أو ثلاثة ثم يفعلها مع غيرهم، وكلما نبهتهُ مرةً أخرى أجاب بعبارة "حاضِر" وكأن التاريخ يُعيد نفسه ثم يعود حتى نفد صبري عليه.
ولما وجدتُه لم يستطع امتلاك أمره أعفيتُه من هذه المُهمة واستبدلت آخر به، ولكنه حَزنَ حُزنًا شديداً وبدا مَهمومًا، وعاد يرجو ليعود إلى مهمته السابقة مع وعدٍ بالإقلاع عما كان يفعل فنزلتُ على وعده وأعدته مراعاة لكِبر سِنِّه.
حاول الرَّجل جاهدًا ضبط نفسه فكان يختلس النظراتِ إلينا وهو يتقدَّمنا ليلمَح هل نُتابعه أم لا، ومن العَجَبِ ما لاحظتُه عليه حال سيره بعد مَنْعهِ من تلك الفِعْلة. كان يُحرِّك ذراعه في الهواء قُبالة كل شخص يَمرُّ به وكأنه يدفعه، ولكن دون أن تَستطيل إليه يده، فكأنما جوارحَهُ قد اعتادتْ ذات الفِعل لا إراديًا ليظلَّ "ملِكًا أكثرَ من الملِكْ".

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأدب القضائي - المحاكمات والمحاكمات الأدبية
المشاهدات
461
آخر تحديث
أعلى