محمود الورداني - العميد في عيون سوزان

أسعدني بشدة وأبهجني اكتشافي أن طه حسين مازال مطلوبا ومقروئا حتى اليوم. فقبل أسبوعين كنت أبحث عن" الأيام " التي قرأتها عدة مرات بالطبع، لكنها ألّحت عليّ بشدة، وبحثت عن نسختي دون جدوى، لذلك ذهبت إلى أحد فروع مكتبات دار المعارف، وكانت الصدمة أن الفرع تم هدمه منذ سنوات، فذهبت إلى فرع آخر في وسط البلد.
المفاجأة أنني وجدت طبعة للأيام عام 2022 نعم عام 2022 وطبعة أخرى في السنة نفسها لكتاب" معك" لسوزان طه حسين. ومعنى هذا ببساطة أن كليهما مازالا مطلوبين ومازال هناك من يقرأ طه حسين أو سوزان زوجته.
ولسبب ما كان قد فاتني قراءة كتاب سوزان" معك" ترجمة الكاتب السوري بدر الدين عرودكي ومراجعة الراحل الكبير محمود أمين العالم، واكتشفتُ أنني أمام نص رفيع المستوى. لم يلفت نظري ماوراء الكتاب من ذكريات ومعان والرحلة الكبرى التي قطعاها معا، على أهمية كل هذا، بل لفت نظري أكثر مستوى النص الأدبي .. الكتابة نفسها،خصوصا وأنه ليس معروفا عنها ممارسة الكتابة، ولم أقرأ أنها سبق لها الكتابة أو النشر.
تبدأ كتابها في التاسع من يوليو 1975 أي" بعد مضيّ ثمانية وخمسين عاما على اليوم الذي وحدّنا فيه حياتينا" حسبما كتبت. وتنطلق في خطوط مختلفة لاتحفل فيها بالتتابع التاريخي، بل تتابع الذكريات والوقائع والأحداث كيفما يعنّ لها. لاتتجاهل سوزان القضايا الكبرى وأعمال طه حسين ونشاطه ككاتب وأكاديمي ورجل دولة ومثقف له مسئوليات عالمية، لكن مايهمها أكثر هو هذا الرجل الذي أحبته وآمنت به واحترمته. كان مايربط بينهما هو الصداقة وليس الحب فقط. احترم هو ديانتها ولم تكن مسالة كتلك محل نقاش، وظلّت تتردد على الكنيسة في الكنائس المصرية مثلما كانت تتردد عليها في فرنسا. واحترمت هي انشغالاته وعمله المتواصل لستة عشر ساعة يوميا، ومعاركه المتواصلة أيضا، وماتسفر عنه من أزمات مالية تحملتها لأنها احترمت اختياراته.
" معك" نص أدبي رفيع المستوى قبل أي شئ، ومن أكثر ما أدهشني أنه نص سوزان الوحيد، وهو نص دافئ وساحر وفاتن. نص تشم فيه روائح الفصول والشجر والنهر، وتلمس جلدك الرياح الباردة، وتستعيد فيه أصدقاء العائلة لطفي السيد وعائلة عبد الرازق وأندريه جيد، وترحل فيه معهما في القرى الجبلية البعيدة في إيطاليا واليونان وفرنسا، ثم ترحل إليه مرة أخرى بعد رحيل طه وتركها وحيدة، فتقوم بالرحلات نفسها مرة أخرى، وتحرص على النزول في الحجرة نفسها التي اعتادت النزول فيها معه.
وهي تقترب من النهاية كتبت:
" ذراعي لن تمسك بذراعك أبدا، ويداي يبدوان بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس. أريد عبر عينيّ المخضلتين بالدموع حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة حيث يتأرجح كل شئ. أريد، أريد أن أرى، تحت جفنيك اللذين بقيا مغلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة".
كذلك وجدت للجانب الأسري في حياتهما مكانا في نصها، ىسواء أسرتها هي في فرنسا، أو أسرة طه في المنيا، وابنتهما أمينة وابنهما مؤنس، وزوجته ليلى حفيدة أحمد شوقي وأبناء كل منهما.. كل هذا في سبيكة واحدة ، في قصيدة واحدة بقيت كما ظل كتابها حيا ويعاد طبعه حتى الآن..
أعلى