في هذه المقالة، كلمة "المعقول" مأخوذة من التراث الثقافي العامي المغربي و التي هي مُرادِفةٌ للاستقامة و الجدِّية و الإخلاص و الكفاءة و الأخلاق و الصِّدق و التَّفإني و الشفافية و المصداقية و النزاهة… و "المعقول" كعنوانٍ للسلوكيات الإيجابية و المرغوب فيها داخلَ المجتمع، كان موجودا في كل مناحي الحياة اليومية : في البيع و الشراء، في المعاملات، في الزواج، في التِّجارة، في الصناعة، في الفلاحة، في التَّساكن، في الجِوار، في العمل، في الحِرف...
و لعلَّ المقولة الشهيرة : "ما يْدومْ غِيرْ المعقول"، التي ينطق بها المغاربة بانتظامٍ في حياتهم اليومية خير دليل على تشبُّثهم بهذا "المعقول". و حين نقول : "هذا راجْلْ معقول"، فالأمر يتعلَّق بشخصٍ يؤدِّي ما عليه من واجبات بروحٍ عاليةٍ من التفاني و الجِدِّية. وهو كذلك شخصٌ يتحلَّى بسلوكٍ حسنٍ و يقوم بعمله بجرعةٍ فائقةٍ من المسئولية. و هذا يعني أن كلمةَ "معقول" مضادَّةٌ لكلمة "فساد".
كان بودِّي أن أستيقظَ كلَّ صباح و أجدُ نفسي غارقاً في "المعقول" المنتشر في كلِّ مكان : في الحياة العامة، في الإدارة، في المؤسسات العمومية، في السياسة، في البرلمان، في الحكومة، في الأحزاب السياسية، في النقابات، في المعاملات، في الشارع، في…
لكن هيهات! "المعقول مْشَا مْعَ مَّالِيهْ". و أينما حللتُ و ارتحلتُ، أسمع فقط : "دْهْنْ السِّيرْ إسِيرْ" و "لِمعَندُ سِيدُو، عَندو لاللَّه" و " أغلى ما في خَيْلْكْ رَكْبو" و "عْرَفْ مْعَ من كتدوي" و "مولْ التاج و كيَحْتاجْ" و "لِمَعندو فلوس، كْلاَمو مسوس" و "الصاحب، صاحبْ حاجتو"...
لكن "المعقول" الذي لم أجِدْه حاليا في الأوساط التي أعيش فيها، وجدتُه في ديارٍ أخرى ناسُها غير مسلمين لكنهم إنسانيون بما للكلمة من معنى. وجدتُ "المعقول" في ديارٍ زرتُها كمسئولٍ بوزارة التعليم العالي، و بالتَّحديد، كمديرٍ للبحث العلمي.
بالفعل، زرتُ خلال التِّسعينيات، في إطارِ التعاون العلمي، العديدَ من البلدان. في هذه المقالة، أخصُّ بالذكر اليابان و كوريا الجنوبية. في هذين البلدين، "المعقول" يشِعُّ في و من كل مكان. "معقولٌ" يستفزُّكَ و يجعلُكَ، غصبا عنك، تقارن بين ما أنتَ مُتعوِّدٌ عليه و ما تعيشُه في لحظتك الآنية من تغييرٍ مفاجيء. فتكون مضطرّاً لطرح سؤال لا مفرَّ منه : " ما دام البشر هم مَن يقفون وراء هذا "المعقول"، فهل هناك فرقٌ ببن بشر هذين البلدين و بشر المحيط الذي أنتمي إليه"؟
المنطق و العقل يقولان لا ثم لا من الناحيتين البيولوجية و الفيزيولوجية. كلٌُنا نتنفَّس، نأكل و نشرب و ننام و نستيقظ و نشتغل و نتعلَّم و لنا نفس عدد الكروموزومات و لنا دماغ و عقل… فأين الفرق إذن؟ هنا بيت القصيد و هنا عٌمق المسألة.
فإذا كان لا يوجد فرقٌ من الناحيتين البيولوجية و الفيزيولوجية، أي من حيث تركيبة الجسد و الدِّماغ، فهناك فرقٌ من حيث استعمال الدماغ و العقل، أي في نمط التَّفكير. و بعبارةٍ أخرى، الفرق يوجد في العقليات. و العقليات لا تنطلق من فراغ. العقليات وراءها ثقافة تتوارثُها الأجيالُ. ثقافةٌ عمودُها الفِقَري احترام القواعد الأخلاقية المشتركة بين أعضاء المجتمع و اعتبار المواطن كإنسان. ثقافةٌ قِوامٌها قِيمٌ إنسانيةٌ هي أساس التَّعامل و التَّساكن. كل شيء يسيرُ على ما يُرام نظرا لثقافة "المعقول" المتبادلة بين السلطة و المواطنين.
و حتى الثقافة التي ترتكز عليها العقليات (أو نمط التَّفكير) في هذين البلدين لا تأتي هي الأخرى من فراغ. إنها تستمدُّ وجودَها من العناية الفائقة التي تُعطى لبناء الإنسان الياباني و الكوري الجنوبي. عناية تبدأ منذ نعومة الأظافر. تكون فيها القواعد الأخلاقية مبنيةً على الاحترام المتبادل في الحياة اليومية للناس.
و هذا هو ما لاحظتُه في البلدين و أثار انتباهي في العديد من المناسبات. و فيما يلي، إليكم البعضَ من هذه المناسبات التي كنتُ فيها مشدوها و مُتحيِّراً.
1.بعض الناس، قبل أن يُسلِّموا على الآخرين بالكفِّ، يضعون اليدَ اليسرى فوق رُسْغِ اليد اليمنى ثم يُسلِّمون. بالطبع، استغربتُ لهذا الأمر لأني لم أجد له تفسيراً. لما استفسرتُ عن ما حيَّرني، اتَّضح لي أن الأشحاصَ الذين يُسلِّمون بهذه الطريقة، يخجلون من مدِّ كفِّهم إلى الطَّرف الآخر. و وضعُ اليد اليسرى فوق رُسغِ اليد اليمنى هو بمثابة اعتذارٍ لهذا الطَّرف.
2.إذا كنا، بصفة عامة نحن العرب، لا نُعير أي اهتمام للمقولة المشهورة "الوقتُ من ذهب"، فإنها في البلدين مُطبَّقةٌ على أرض الواقع بحذافيرها. و هو الشيء الذي عاينتُه بأمِّ عيني حينما حضرتُ ندوةً علميةً باليابان و عدَّة اجتماعات بكوريا الجنوبية. سواءً تعلَّق الأمرُ بالندوة أو الاجتماع، فإن رئيسَ الجلسة أو مَن يسيِّرُ أشغالَ هذا الأخير، يعطي انطلاقةَ هذه الأشغال في وقتها المُحدَّد و لو حضر إلى القاعة شخصٌ واحدٌ.
3.اليابانيون و الكوريون الجنوبيون يحبُّون عملَهم بشغفٍ كبيرٍ. هذا ما لاحظتُه لأننا كنا، أنا و الشخص الذي كان يُرافقُني، مضطرِّين للذهاب مبكِّرا إلى اجتماعٍ أو زيارةٍ. ما لاحظتُه هو اكتظاظ الشوارع و الأزقة بالمُشاة المتوجِّهين إما لمقرات عملهم أو لمحطات النقل العمومي. و على ذكر وسائل النقل العمومي، فإن الناسَ يشكِّلون طوابيرَ منظمة في انتظار هذه الوسائل أو للصُّعود إليها. و لمزيد من التَّوضيح، طرحتُ هذا السؤالَ على مُرافِقي الكوري الجنوبي : "هل كل هؤلاء الناس، رغم كثرتهم، يستطيعون الوصول ألى عملهم في الوقت المطلوب؟ فأجاب : عندنا، العمل شيءٌ مقدَّسٌ و واجب وطني. و أضاف إن الناسَ يبدلون كلَّ ما في وٌسعِهم ليكونوا في مُستوى هذا الواجب. كما قال أيضا : إننا نُعطي للعمل حقَّه من العناية لكننا كذلك نُعطي نفسَ العناية للتَّرفيه عن النفس. و هو ما لاحظتُه في عطلة نهاية الأسبوع حيث تمتليء المقاهي و الفنادق و دور السينما و المسارح.
4.اليابانيون و الكوريون الجنوبيين متشبِّثون بتقاليدهم التي هي جزء من ثقافتهم الجماعية. متشبِّثون بهذه التقاليد رغم التَّقدُّم العلمي و التِّكنولوجي الذي يعرفانه البلدان. بل إنهم، خلافا لبعض الدُّول الغربية التي بدأت تتلاشى تقاليدها الثقافية تحت ضغط هذا التَّقدُّم، استطاعوا أن يُزاوِجوا بين ما وصلوا إليه من تطوُّرٍ علمي و تكنولوجي و بين تقاليدهم التي تضرب جذورُها في أعماق التَّاريخ. و هذا هو ما لاحظتُه حينما تمَّت دعوتي لتناول العشاء في منزل بعض المسئولين. فعندما يدخل هؤلاء المسئولون منازلَهم، يرتدون لباسَهم التَّقليدي و يستقبلون الضيوفَ بأدبٍ كبيرٍ. و يتناولون الأكلَ و هم جالسين مباشرةً فوق أرضية الغرفة، أي بدون كراسي. و هذا دليل على البساطة و التَّواضع.
5.ما أثار انتباهي و أنا أتجوَّل في أحد شوارع مدينة كْيوطو Kyoto وهي أحد كُبرياب مُدُن اليابان، أن الناسَ، الرَّاجلين و السًّائقين، يحترمون قانونَ السير احتراما صارما. لم أر و لو راجِلاً واحدا أو سائقا واحدا تجاوز هذا القانون. و ما أثار انتباهي كذلك هو أن الشوارعَ تكاد تكون خاليةً من الشرطة. و هذا دليلٌ قاطعٌ على أن الناسَ ليسوا في حاجةٍ لمَن يُجبِرغم أو ينبِّههم لاحترام القانون. هذا الاحترام مغروسٌ في ذواتهم و في وعيهم و لاوَعيِهم. أكاد أقول أنه أصبح عفويا؟ أي يُمارسونه دون عناء. و ما أثار انتباهي أيضا هو أن بعضَ الشوارع لا تقف على جوانبِها السيارات. لما سألتُ مُرافقي، أخبرني أن القانونَ في اليابان يفرض على كلِّ مَن أراد شراءَ سيارةٍ أن يُدلِيَ بشهادةٍ تبيِّن أنه يتوفَّر على مرآبٍ أو على مكانٍ في موقفٍ للسيارات.
6.أينما ولَّيتُ وجهي في البلدين، أجد أن النّاسَ يتحلَّون بحسن الخُلُقِ الذي يتجلَّى أساسا في الاحترام الذي يسود يينهم. و قد عايشتُ هذا الاحترامَ شخصيا في الفندق الذي كنتُ أقيم به. فبمجرَّد ما يتجاوز الزائر عتبةَ باب الفندق، يجد في بهوِ هذا الفندق فتاةً أو سيِّدةً أو رجُلاً مُهمَّتهم الأساسية هو التَّرحيبُ بالنُّزلاء و ذلك بانتِسامةٍ عريضة. و هذا الأمرّ يتكرَّرُ طيلةَ اليوم و لو دخل النَّزيلُ الفندقَ و خرج منه عدَّة مراتٍ متتالية.
و خلاصة القول، اليابان و كوريا الجنوبية يوجدان معا في مجموعة العشرين G20 و هي المجموعة التي تضمُّّ أقوى الدول اقتصاديا، تكنولوجياً و علميا. و هي المجموعة التي يشكِّلُ اقتصادُها 80% من الناتِج الداخلي الخام العالمي و 75% من التِّجارة الدولية و 60% من سكان المعمور. فتُرى ما الذي جعل هذين البلدين من أقوى الدول؟ الجوابُ هو "المعقول"!
و عندما تكون البُلدانُ مبنيةً على "المعقول"، فإنها، في نفس الوقت، تكون مبنيةً على "الصَّحْ". حينها، يسيرُ فيها كلُّ شيءٍ على ما يُرام : بناء الإنسان (المواطن) الصالح، التَّعليم، السياسة، الاقتصاد، الإنتاج، البحث العلمي، الصناعة، الفلاحة، الإبداع، الابتكار…
و كما سبق الذكرُ، "المعقول" مُرادِفٌ للاستقامة و الجدِّية و الإخلاص و الكفاءة و الأخلاق و الصِّدق و التَّفإني و الشفافية و المصداقية و النزاهة… ولهذا، استطاعَ البلدان أن يُزاوِجا بين التَّنمية و الحضارة. التنمية وراءها الفكرُ و البخثُ و القدرة على الإبداع و الإنتاج بينما الحضارة وراءها القيمُ الإنسانية. و كلاهما وراءها "المعقول". لقد صدق مَن قال : "المعقول هو كُلْشِي". و سبق أن قُلتُ أعلاه، "المعقول" هو ضد الفساد.
و "المعقول" يتعلَّمُه الأطفال، في البلدين، في مدرسةٍ تُعوِّدهم على إتقان العمل و بدل الجُهد و حُسن السلوك و الانضباط داخلَ المجتمع، إضافةً إلى حبِّ النظام و تعلُّم المسئولية و تفضيلِ المصالح العامة على المصالح الشخصية.
و للتَّذكيرِ، إن أول خطوة قامت بها كوريا الجنوبية، في أوائل الستينيات، لوضع قدمها على طريق التنمية و الحضارة تمثلتْ في محو الأمية و القضاء عليها و ذلك بالتخلي عن الأبجدية المعقدة و إبداع أبجدية من 26 حرفا.
و لعلَّ المقولة الشهيرة : "ما يْدومْ غِيرْ المعقول"، التي ينطق بها المغاربة بانتظامٍ في حياتهم اليومية خير دليل على تشبُّثهم بهذا "المعقول". و حين نقول : "هذا راجْلْ معقول"، فالأمر يتعلَّق بشخصٍ يؤدِّي ما عليه من واجبات بروحٍ عاليةٍ من التفاني و الجِدِّية. وهو كذلك شخصٌ يتحلَّى بسلوكٍ حسنٍ و يقوم بعمله بجرعةٍ فائقةٍ من المسئولية. و هذا يعني أن كلمةَ "معقول" مضادَّةٌ لكلمة "فساد".
كان بودِّي أن أستيقظَ كلَّ صباح و أجدُ نفسي غارقاً في "المعقول" المنتشر في كلِّ مكان : في الحياة العامة، في الإدارة، في المؤسسات العمومية، في السياسة، في البرلمان، في الحكومة، في الأحزاب السياسية، في النقابات، في المعاملات، في الشارع، في…
لكن هيهات! "المعقول مْشَا مْعَ مَّالِيهْ". و أينما حللتُ و ارتحلتُ، أسمع فقط : "دْهْنْ السِّيرْ إسِيرْ" و "لِمعَندُ سِيدُو، عَندو لاللَّه" و " أغلى ما في خَيْلْكْ رَكْبو" و "عْرَفْ مْعَ من كتدوي" و "مولْ التاج و كيَحْتاجْ" و "لِمَعندو فلوس، كْلاَمو مسوس" و "الصاحب، صاحبْ حاجتو"...
لكن "المعقول" الذي لم أجِدْه حاليا في الأوساط التي أعيش فيها، وجدتُه في ديارٍ أخرى ناسُها غير مسلمين لكنهم إنسانيون بما للكلمة من معنى. وجدتُ "المعقول" في ديارٍ زرتُها كمسئولٍ بوزارة التعليم العالي، و بالتَّحديد، كمديرٍ للبحث العلمي.
بالفعل، زرتُ خلال التِّسعينيات، في إطارِ التعاون العلمي، العديدَ من البلدان. في هذه المقالة، أخصُّ بالذكر اليابان و كوريا الجنوبية. في هذين البلدين، "المعقول" يشِعُّ في و من كل مكان. "معقولٌ" يستفزُّكَ و يجعلُكَ، غصبا عنك، تقارن بين ما أنتَ مُتعوِّدٌ عليه و ما تعيشُه في لحظتك الآنية من تغييرٍ مفاجيء. فتكون مضطرّاً لطرح سؤال لا مفرَّ منه : " ما دام البشر هم مَن يقفون وراء هذا "المعقول"، فهل هناك فرقٌ ببن بشر هذين البلدين و بشر المحيط الذي أنتمي إليه"؟
المنطق و العقل يقولان لا ثم لا من الناحيتين البيولوجية و الفيزيولوجية. كلٌُنا نتنفَّس، نأكل و نشرب و ننام و نستيقظ و نشتغل و نتعلَّم و لنا نفس عدد الكروموزومات و لنا دماغ و عقل… فأين الفرق إذن؟ هنا بيت القصيد و هنا عٌمق المسألة.
فإذا كان لا يوجد فرقٌ من الناحيتين البيولوجية و الفيزيولوجية، أي من حيث تركيبة الجسد و الدِّماغ، فهناك فرقٌ من حيث استعمال الدماغ و العقل، أي في نمط التَّفكير. و بعبارةٍ أخرى، الفرق يوجد في العقليات. و العقليات لا تنطلق من فراغ. العقليات وراءها ثقافة تتوارثُها الأجيالُ. ثقافةٌ عمودُها الفِقَري احترام القواعد الأخلاقية المشتركة بين أعضاء المجتمع و اعتبار المواطن كإنسان. ثقافةٌ قِوامٌها قِيمٌ إنسانيةٌ هي أساس التَّعامل و التَّساكن. كل شيء يسيرُ على ما يُرام نظرا لثقافة "المعقول" المتبادلة بين السلطة و المواطنين.
و حتى الثقافة التي ترتكز عليها العقليات (أو نمط التَّفكير) في هذين البلدين لا تأتي هي الأخرى من فراغ. إنها تستمدُّ وجودَها من العناية الفائقة التي تُعطى لبناء الإنسان الياباني و الكوري الجنوبي. عناية تبدأ منذ نعومة الأظافر. تكون فيها القواعد الأخلاقية مبنيةً على الاحترام المتبادل في الحياة اليومية للناس.
و هذا هو ما لاحظتُه في البلدين و أثار انتباهي في العديد من المناسبات. و فيما يلي، إليكم البعضَ من هذه المناسبات التي كنتُ فيها مشدوها و مُتحيِّراً.
1.بعض الناس، قبل أن يُسلِّموا على الآخرين بالكفِّ، يضعون اليدَ اليسرى فوق رُسْغِ اليد اليمنى ثم يُسلِّمون. بالطبع، استغربتُ لهذا الأمر لأني لم أجد له تفسيراً. لما استفسرتُ عن ما حيَّرني، اتَّضح لي أن الأشحاصَ الذين يُسلِّمون بهذه الطريقة، يخجلون من مدِّ كفِّهم إلى الطَّرف الآخر. و وضعُ اليد اليسرى فوق رُسغِ اليد اليمنى هو بمثابة اعتذارٍ لهذا الطَّرف.
2.إذا كنا، بصفة عامة نحن العرب، لا نُعير أي اهتمام للمقولة المشهورة "الوقتُ من ذهب"، فإنها في البلدين مُطبَّقةٌ على أرض الواقع بحذافيرها. و هو الشيء الذي عاينتُه بأمِّ عيني حينما حضرتُ ندوةً علميةً باليابان و عدَّة اجتماعات بكوريا الجنوبية. سواءً تعلَّق الأمرُ بالندوة أو الاجتماع، فإن رئيسَ الجلسة أو مَن يسيِّرُ أشغالَ هذا الأخير، يعطي انطلاقةَ هذه الأشغال في وقتها المُحدَّد و لو حضر إلى القاعة شخصٌ واحدٌ.
3.اليابانيون و الكوريون الجنوبيون يحبُّون عملَهم بشغفٍ كبيرٍ. هذا ما لاحظتُه لأننا كنا، أنا و الشخص الذي كان يُرافقُني، مضطرِّين للذهاب مبكِّرا إلى اجتماعٍ أو زيارةٍ. ما لاحظتُه هو اكتظاظ الشوارع و الأزقة بالمُشاة المتوجِّهين إما لمقرات عملهم أو لمحطات النقل العمومي. و على ذكر وسائل النقل العمومي، فإن الناسَ يشكِّلون طوابيرَ منظمة في انتظار هذه الوسائل أو للصُّعود إليها. و لمزيد من التَّوضيح، طرحتُ هذا السؤالَ على مُرافِقي الكوري الجنوبي : "هل كل هؤلاء الناس، رغم كثرتهم، يستطيعون الوصول ألى عملهم في الوقت المطلوب؟ فأجاب : عندنا، العمل شيءٌ مقدَّسٌ و واجب وطني. و أضاف إن الناسَ يبدلون كلَّ ما في وٌسعِهم ليكونوا في مُستوى هذا الواجب. كما قال أيضا : إننا نُعطي للعمل حقَّه من العناية لكننا كذلك نُعطي نفسَ العناية للتَّرفيه عن النفس. و هو ما لاحظتُه في عطلة نهاية الأسبوع حيث تمتليء المقاهي و الفنادق و دور السينما و المسارح.
4.اليابانيون و الكوريون الجنوبيين متشبِّثون بتقاليدهم التي هي جزء من ثقافتهم الجماعية. متشبِّثون بهذه التقاليد رغم التَّقدُّم العلمي و التِّكنولوجي الذي يعرفانه البلدان. بل إنهم، خلافا لبعض الدُّول الغربية التي بدأت تتلاشى تقاليدها الثقافية تحت ضغط هذا التَّقدُّم، استطاعوا أن يُزاوِجوا بين ما وصلوا إليه من تطوُّرٍ علمي و تكنولوجي و بين تقاليدهم التي تضرب جذورُها في أعماق التَّاريخ. و هذا هو ما لاحظتُه حينما تمَّت دعوتي لتناول العشاء في منزل بعض المسئولين. فعندما يدخل هؤلاء المسئولون منازلَهم، يرتدون لباسَهم التَّقليدي و يستقبلون الضيوفَ بأدبٍ كبيرٍ. و يتناولون الأكلَ و هم جالسين مباشرةً فوق أرضية الغرفة، أي بدون كراسي. و هذا دليل على البساطة و التَّواضع.
5.ما أثار انتباهي و أنا أتجوَّل في أحد شوارع مدينة كْيوطو Kyoto وهي أحد كُبرياب مُدُن اليابان، أن الناسَ، الرَّاجلين و السًّائقين، يحترمون قانونَ السير احتراما صارما. لم أر و لو راجِلاً واحدا أو سائقا واحدا تجاوز هذا القانون. و ما أثار انتباهي كذلك هو أن الشوارعَ تكاد تكون خاليةً من الشرطة. و هذا دليلٌ قاطعٌ على أن الناسَ ليسوا في حاجةٍ لمَن يُجبِرغم أو ينبِّههم لاحترام القانون. هذا الاحترام مغروسٌ في ذواتهم و في وعيهم و لاوَعيِهم. أكاد أقول أنه أصبح عفويا؟ أي يُمارسونه دون عناء. و ما أثار انتباهي أيضا هو أن بعضَ الشوارع لا تقف على جوانبِها السيارات. لما سألتُ مُرافقي، أخبرني أن القانونَ في اليابان يفرض على كلِّ مَن أراد شراءَ سيارةٍ أن يُدلِيَ بشهادةٍ تبيِّن أنه يتوفَّر على مرآبٍ أو على مكانٍ في موقفٍ للسيارات.
6.أينما ولَّيتُ وجهي في البلدين، أجد أن النّاسَ يتحلَّون بحسن الخُلُقِ الذي يتجلَّى أساسا في الاحترام الذي يسود يينهم. و قد عايشتُ هذا الاحترامَ شخصيا في الفندق الذي كنتُ أقيم به. فبمجرَّد ما يتجاوز الزائر عتبةَ باب الفندق، يجد في بهوِ هذا الفندق فتاةً أو سيِّدةً أو رجُلاً مُهمَّتهم الأساسية هو التَّرحيبُ بالنُّزلاء و ذلك بانتِسامةٍ عريضة. و هذا الأمرّ يتكرَّرُ طيلةَ اليوم و لو دخل النَّزيلُ الفندقَ و خرج منه عدَّة مراتٍ متتالية.
و خلاصة القول، اليابان و كوريا الجنوبية يوجدان معا في مجموعة العشرين G20 و هي المجموعة التي تضمُّّ أقوى الدول اقتصاديا، تكنولوجياً و علميا. و هي المجموعة التي يشكِّلُ اقتصادُها 80% من الناتِج الداخلي الخام العالمي و 75% من التِّجارة الدولية و 60% من سكان المعمور. فتُرى ما الذي جعل هذين البلدين من أقوى الدول؟ الجوابُ هو "المعقول"!
و عندما تكون البُلدانُ مبنيةً على "المعقول"، فإنها، في نفس الوقت، تكون مبنيةً على "الصَّحْ". حينها، يسيرُ فيها كلُّ شيءٍ على ما يُرام : بناء الإنسان (المواطن) الصالح، التَّعليم، السياسة، الاقتصاد، الإنتاج، البحث العلمي، الصناعة، الفلاحة، الإبداع، الابتكار…
و كما سبق الذكرُ، "المعقول" مُرادِفٌ للاستقامة و الجدِّية و الإخلاص و الكفاءة و الأخلاق و الصِّدق و التَّفإني و الشفافية و المصداقية و النزاهة… ولهذا، استطاعَ البلدان أن يُزاوِجا بين التَّنمية و الحضارة. التنمية وراءها الفكرُ و البخثُ و القدرة على الإبداع و الإنتاج بينما الحضارة وراءها القيمُ الإنسانية. و كلاهما وراءها "المعقول". لقد صدق مَن قال : "المعقول هو كُلْشِي". و سبق أن قُلتُ أعلاه، "المعقول" هو ضد الفساد.
و "المعقول" يتعلَّمُه الأطفال، في البلدين، في مدرسةٍ تُعوِّدهم على إتقان العمل و بدل الجُهد و حُسن السلوك و الانضباط داخلَ المجتمع، إضافةً إلى حبِّ النظام و تعلُّم المسئولية و تفضيلِ المصالح العامة على المصالح الشخصية.
و للتَّذكيرِ، إن أول خطوة قامت بها كوريا الجنوبية، في أوائل الستينيات، لوضع قدمها على طريق التنمية و الحضارة تمثلتْ في محو الأمية و القضاء عليها و ذلك بالتخلي عن الأبجدية المعقدة و إبداع أبجدية من 26 حرفا.