كاهنة عباس - في ذكرى الهجران


ومن معاني الهجرة ، ليس أن ترحل من بلد الى بلد ، بل من ذكرى الى ذكرى بما تحمله من أحداث وأحاسيس،عليك إذا، أن تقتلع من ذاتك شجرة كاملة من الأصوات والألوان المتصلة بكل منها،لإدراكك بأنها لم تسكنك، إلا بعد أن رمت في نفسك ،بتلك اللحظة الزمنية التي أنشأتها وجعلتها تلازمك.
فالذكريات ليست بعض الأحداث التي عشناها ثم نستعيدها، بل ما بقي منها من صور وما علق بها من إحساس.
استعدت إذا، صور العالم كما تبدو من خلال الرسامين الانطباعيين لأنها ذكرتني بانهمار دموعي وغياب الأشكال من حولي لضبابية العالم، بذلك اللون البنفسجي الفاتح، حين لاح لي عند ظهور الشفق في سماء تلك العشية ،بصوت فيروز وهو يعيد هذه الجمل الاغنية " ويلن "، لقد كانت تلك هي مفاتيح الصورة الذهنية التي احتفظت بها ذاكرتي في ذلك الماضي البعيد : عالم ضبابي، تحت بقعة ذات لون بنفسجي في سماء تلك الأمسية ، وصوت فيروز يبحث عن الأحبة الراحلين.
كذلك، استطاع الوجع الكامن داخلي أن يستعيد كل قدرته وقوته، بأن عاد بالزمان إلى ما كان عليه في تلك اللحظة المفعمة بالحنين ،لقد كانت نبرة صوت فيروز بمثابة السهم الذي اخترق نفسي بذبذباته لينفذ إلى جرحي الداخلي ويصدح بألمه حتى أصبح تاريخ ذلك اليوم تاريخا موسيقيا "فيروزيا"، يختص بأجواء الفراق والحنين قد زاده اللون البنفسجي عمقا وشدة.

وفي الحقيقة ، فإن الفراق الأحبة لا يترك في أنفسنا ألما ولوعة، إلا لأنهم تركوا هالة من الضوء بعد أن استوطنوا بجزء منها ، فليسوا هم الغائبون، بل مكان ما في أنفسنا بفرحه وأحلامه واشتياقه ،شبيه بتلك القرية الصغيرة المليئة بالأزهار التي كنا قد زرعناها ودا ومحبة .
كيف سأبحث عن أغاني أخرى تعيد ترتيب العالم من حولي ،وعن ألوان لا تعيد رسم الشفق البنفسجي لتلك العشية ؟
لقد انقسم الزمن في وعيي إلى شقين ما قبل الفراق وما بعده ، كنت قد استأنست العالم في شقه الأول وأنا أحمل داخلي قريتي المزهرة العامرة بوجوه الأحبة، وفي شقه الثاني كنت قد شهدت انهيار الأشكال فجأة ،تحت تأثير غيابهم وما تركوه في نفسي من فقد .
هناك تناغم كان متواصلا بيني وبين أحبتي ثم انقطع ، هو الذي أسدى على العالم كل ذلك الرونق البهيج وكل ذلك الجمال على الكائنات من حولي، من طيور وبحار وهضاب وجبال شاهقة .
فنحن من يعيد تأليف جل الأنغام ورسم جل الصور، ونحن الباعثون لمعانيها تحت فعل الإحساس، ذلك الخيط الخفي الذي يربط بعضنا ببعض .
وحين اقتبست أغنية "ويلن" لفيروز، أدمجتها في روايتي الشخصية خلال ذلك اليوم وألحقتها بما عشت ،حتى باتت لي أمارة أو إشارة صوتية، تعتمدها ذاكرتي لإعادة ترتيب تواريخ الأحداث التي احتفظت بها .
وكان من آثار ذلك الاقتباس، خسران العالم لجل أساطيره القديمة وقصائد كبار شعرائه التي لم تعد تغطيه بذلك الحجاب السميك من الرموز والاستعارات والمعاني، بعد أن بات مسرحا لصوت فيروز المعبر عن الهجران ولألوان الشفق وإشاراته .
فالفقد ليس انفصالنا عن أهلنا وأحبتنا فحسب، بل ضياع معنى العالم كما أسسناه معا ذات يوم تحت خيمة الحلم والوهم، ننعم بالدفء ممسكين بأيادي بعضنا البعض.
لان صلتنا بالعالم في تقديري، إما أن تبعث فينا حالة استئناس أو إحساس بالغربة، أو أن تتواتر الحالتين لدينا، أو أن تمتزجا، فتؤديا إلى غموض الرؤية ثم الى التيه والضياع .
والكائنات التي تسكنه لا تعنى بنا ولا بما نتلوه داخلنا من قصص وحكايات، أما الطبيعة فهي غارقة في سننها وتحولاتها، لم تستفيق بعد من سباتها، لتدرك ما نحن فاعلون بها ،والناس من حولنا منشغلون بقصصهم وأوهامهم الذاتية، بما يغنيهم عن الاكتراث بما نشعر .
ونحن في مواجهة ذلك الانطفاء الداخلي الذي يسمى الحزن ، نحاول أن نعالجه بالتأمل في ضوء شمعة ، كي نهزم الظلمة التي تركها فراغ الأحبة بعد فراقهم ،تواسينا شعلة النار التي تحترق وهي تضيء المكان من حولنا .
فثالوث الحزن والشمعة والفراق هو الإرث الذي تركته لنا العادات ،لمواجهة الفقد ومنحنا القدرة على تقبله ثم تجاوزه.
وما يربطنا من أحاسيس هو أصل إنسانيتنا و إمكانية تحققها ،وهي ما يجعل العالم من حولنا أقل غربة.
والذكريات بتراكمها يوما بعد يوم، هي ما نسميه الماضي أي ما يؤسس هويتنا وحكايتها .

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى