أ. د. عادل الأسطة - الروائي قارئاً ومثقفاً: إلياس خوري نموذجاً

لم يغب عن أذهان دارسي فن الرواية، في فترة نشأتها، نظرة الناس إلى كتابها. وقد أتى نجيب محفوظ في حوار مع جمال الغيطاني، في كتاب «نجيب محفوظ يتذكر»، على نظرة بعض أدباء مصر الجادين، مثل عباس محمود العقاد، إليها يوم كتبها محمد حسين هيكل، ويوم بدأ هو كتابتها. لقد عزف هؤلاء عنها، والتفتوا إلى الشعر «وكان المفكرون هم الذين يحظون بالاحترام في هذه الفترة طه حسين، العقاد وغيرهما، أما الأدب فقد اعتبرته هواية جانبية. كان الاحترام للفكر، للمقالات، للنقد، للعرض، وليس للقصة»(٢٦).
ومع أن زمننا صار زمن الرواية، إلا أن قسماً من القراء ما زال يتبنى الموقف نفسه الذي تبناه نقاد فترة البدايات، وهو ما قرأته في الفترة الأخيرة على صفحات التواصل الاجتماعي. فالروايات تفسد لغة المرء وتضعفها و... و....
وأنا أقرأ رواية إلياس خوري الأخيرة «رجل يشبهني»، لفت نظري حوار جرى بين شخصيتين من شخصياتها هما آدم دنون وخليل أيوب، وهما قارئا روايات سحرهما غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، وآدم يتلاعب باللغة تلاعب إميل حبيبي بها في روايته «المتشائل»، وأظن أن آدم في هذا الجانب قناع للكاتب نفسه، فاللغة التي تسحره في مواطن عديدة من الرواية هي التي تسحر إلياس خوري.
يقول آدم لخليل: «أنا أكتب حين أقرأ»، فيرد عليه خليل «هذه هي الكلمة التي كنت أبحث عنها»، ويضيف: «أنا أكتب حين أقرأ جبرا».
ولا شك أن عبارة آدم وعبارة خليل هما في نهاية المطاف عبارتا الكاتب نفسه، وأعتقد أن ثلاثية «أولاد الغيتو» ما كان لها أن تكون على ما هي عليه لولا قراءات إلياس خوري على مدار ستين عاماً. إنها رواية تحفل بالاقتباسات والتضمينات والإحالات وخلاصة القراءات للآداب العالمية والعربية قديمها وحديثها. وبخصوص قراءات إلياس للرواية، فيمكن اقتباس الفقرة الآتية التي ترد على لسان آدم في الرواية:
«بين رفوف الكتب المستعملة، تصادقت مع الكاتب الأرجنتيني بورخيس، ودخلت في سحر الرمل الذي تحول بين يديه إلى كلمات، وتعرفت إلى جوزيف كونراد الذي أخذني إلى قلب ظلام الأدب، وقرأت بول أوستر وسوزان سونتاغ، وبهرتني لغة الكاتب الجنوب أفريقي كويتزي برشاقتها وإيجازها البلاغي الجميل. المكتبة كانت موعدي الدائم مع برابرة كافافي الغائبين، ومع «استشراق» إدوارد سعيد المبهر».
ويمكن أيضاً أن تقتبس فقرات اقتبسها الروائي من كتب التراث العربي القديم، وهي اقتباسات قد تكون عموماً موضع جدل من القراء المتعددين المختلفين الذين أشرت إليهم في مقال الأحد الماضي.
إن إنجاز قائمة بأسماء الكتاب والشعراء والدارسين والمؤرخين الذين وردت أسماؤهم في الثلاثية لهو أمر مجز، وهو ما يعزز المقولة المقتبسة: «أنا أكتب حين أقرأ».
ما سبق ربما يكون رداً على عبارة ينطقها كثيرون ممن لا يقرؤون الرواية ولا ينظرون إليها نظرة احترام، منذ نشأتها وإلى اليوم. «كلام روايات» أو «قارئ روايات» يردد بعض القراء، وينسون أن الرواية تثقف وتستبطن النفس الإنسانية وتمد المرء بتجارب قد تفيده في مواطن كثيرة، والجدل حول هذا يطول، علماً أنه لا يغيب عن ذهن قسم من المهتمين بالصراع العربي - الإسرائيلي أن المستشرقين الإسرائيليين المرتبطين بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية درسوا، قبل حرب حزيران ٦٧، أعمال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس؛ ليفهموا من خلالها العقلية المصرية والمجتمع المصري، وفي هذا الجانب درس غسان كنفاني الأدب الصهيوني رافعاً شعار «اعرف عدوك».
في «رجل يشبهني»، نقرأ عن عودة الرنتيسي وتهجيره من مدينته اللد في عام النكبة وعن حياته في رام الله، ونقرأ صفحات عديدة من الكتاب الذي ألفه، ونقرأ قصة حياة الشاعر الفلسطيني راشد حسين المأساوية كما لم نقرأها في كتب كثيرة أنجزت عنه، ونقرأ أيضاً اجتهادات وتأويلات لبعض أسطر محمود درويش الشعرية، ولبعض روايات غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، كما نقرأ عمّا ألم بقريتي عيلبون وأبو شوشة وعن ثياب أهلهما. إن الصفحات التي حملت عنوان «فستان الحكاية» تمدنا بمعلومات كثيرة عن الثوب الفلسطيني بما يحتويه من تطريز خاص بكل قرية هو علامة الهوية «الهوية التي يجب ألا يتخلى عنها الفلسطينيون». عدا ما سبق نقرأ عن جان جينيه صديق الفلسطينيين وكتابه «أربع ساعات في شاتيلا» عن مجزرة صبرا وشاتيلا.
«إنني أقرأ كي أكتب»، عبارة تنطبق على كتاب كثيرين وأنا منهم، فمقالاتي تحفل بالاقتباسات والتناصات، وهذا النوع من أنواع المقالة عرفه جنس الرواية في الأدب العالمي.

عادل الأسطة
2023-01-15


* عن جريدة الايام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى