عثمان ابن خضراء - المعركة العلمية بين الرافعي وطه حسين.

إن من يتتبع مراحل تطور الأدب العربي في هذا العصر، من قديم، لا يشك في أن مدى تلك الخصومات العنيفة التي أثارها أصحاب القديم والجديد لا زالت ترن في أذنه.. ولسنا نشك في أن الأدب المعاصر استفاد من هذه الاختلافات التي كانت مثار النزاع بين أصحاب القديم ومذهبه ويتزعمهم المرحوم الأستاذ الكبير مصطفى صادق الرافعي، والمرحوم أمير البيان الأستاذ شكيب أرسلان.. وبين المذهب الحديث ويتقدمهم عبقري الأدب العربي الدكتور طه حسين، والأستاذ سلامة موسى... وغيرهما.
أقول.. مما لا جدال فيه أن الخلاف الذي قام بين الرافعي وطه حسين نتجت منه اختلافات في الرأي بين هذا وذاك. ويظهر من خلال ما كتبه بعض المنتصرين لكل منهما أن الدافع الذي يحثهم على إقحام أقلامهم في الموضوع هو التعنصر للمبدأ الذي يتبعه كل فريق منهما.
لقد كان سير الأدب العربي يتأرجح تارة ويضطرب أحيانا.. تقذف به الأمواج الثائرة إلى الشاطئ ثم لا تلبث أن تجرفه فتعيده إلى وسط الأمواج المتلاطمة في ذاك البحر الخضم من الحيرة والارتباك في تلك الحقبة من الزمن.
ويدفعنا الإنصاف إلى القول بأن الأدب العربي على كثرته وتعداد صنوفه وأنواعه أصيب بالعقم
حيث لوحظ في الجامعات الكبرى كالأزهر والقرويين والزيتونة وغيرها عجز من الإتيان بما يوائم تطور البلاد وعقول طلابها العديدين رغم ما كان الحقل الأدبي غنيا به في تلك الحقبة من الزمن من الشيوخ والعلماء والنوابغ الكبار... ولو أن هؤلاء كان من بينهم الحجة وأمير البيان والمتضلعون في العلوم والفقه والنحو والدين، فقد كانت ثقافتهم عن ابتكار شيء جديد يغير سير الدراسات التي أصبح التعليم فيها محدود أثناء الاحتلال.
ولما انبثقت طائفة المجددين في الشرق بقياده الدكتور طه حسين اعترضتها ثورات صدرت من صفوة من المفكرين في ذلك الوقت ... وكان يقودها المرحوم مصطفى صادق الرافعي - فشاهد الناس في الصحف والمجلات مقالات ممتعة من النقد والرد وتباين الأفكار والاتجاهات... وتبادل الكثيرون وجهات النظر فكأن ان افتتحت أبواب حرية الفكر على مصراعيها، ونمت روح النقد في نفوس الأدباء مما دفعهم إلى إبداء ما يعرض لهم على هامش هذه الخصومات العنيفة التي كانت بين طه حسين والرافعي.
رحم الله الرافعي... لقد كان غيورا على الدين، مخلصا للغته إخلاصا جعله يعتني بالمنطق والمعنى والأفكار في كل ما يكتبه، ولعل هذا هو السبب في بداية تلك الخصومة التي قامت بينهما.
لقد كان يعتب على طه حسين أول الأمر تكراره في أسلوبه للجمل... وكان يرى في هذا عبثا لمن يحاول أن يكون بليغا في أسلوبه - وإذا ما نظرنا إلى كتاب "المعركة بين القديم والجديد" أو "تحت راية القرءان" للرافعي نراه يستعرض شيئا من أسلوب طه ننقله كنموذج لما يؤاخذ الرافعي به على طه حسين، يقول الرافعي : "... ولكني في كل ما قرأت من بدىء تصال الرواية بالعرت إلى اليوم لم أصب مثل هذا الأسلوب الذي تكتب به كقولك في صدر قصة المعلمين التي نشرتها "السياسة" اليوم :
"نعم، قصة المعلمين، فللمعلمين قصة، وللمعلمين قضية، وكنا نحب ألا تكون للمعلمين قصة، وألا تكون للمعلمين قضية، لأننا نربأ بمقام المعلمين من أن تكون لهم قصة أو قضية ... ليست قضيتهم أمام المحاكم، وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تصل إلى المحاكم، وليست قضيتهم مفزعة مهلعة ( كذا كذا ) وإن كانت أوشكت في يوم من الأيام أن تكون مفزعة "مهلعة".
يقول المرحوم الرافعي بعد أن قدم نموذجا من أسلوب طه :
"فهذه عشرة أسطر صغيرة - بأسطر الجريدة - دار المعلمون فيها عدد أيام الحسو، وحكيت "القصة" ست مرات، وكأن "للقضية" ست جلسات غير ما هناك من مفزعة ومهلعة قد أفزعت وأهلعت مرتين وغير ما بقى مما هو طاهر بنفسه، ولا ريب أن الأستاذ - يقصد طه - إما أن يكون قد نحا بهذا نحوا لا نعرفه، وقصد إلى وجه لم نتبينه، فهو يدلنا عليه لنجريه فيما أجرينا من أساليب البلاغة ونؤرخ له في الذوق الجديد، وإما أن يكون عند ظننا به في اعتبار هذه الكلمات رقى وطلاسم للتسخير بقوتها وروحانيته، فإذا قرأ المعلمون هذه المقالة عشر مرات انحلت المشكلة وجاءهم الرزق وهم نائمون... ولكن يبقى يا سيدي أن تختم الكلام بهذه الهمهمة والغمغمة بقولك : الوحي الوحي، العجل العجل، الساعة الساعة، ...والسلام".
على أن الذي عرضناه لا يعد سوى جزء مما كان سببا في أثارة الخصومة بين المرحومين صادق الرافعي وطه حسين... بل هناك المشكلة الكبرى، مشكلة كتابه "في الشعر الجاهلي".
لقد كان الأستاذ طه يعيش في جو جامعي... ومن تقاليد الجامعات أن تأخذ البحوث الأدبية والدراسات العلمية طابع البحث الحر... وسار في نهجه يدرس النصوص ويبحثها بطريقته التحليلية دراسة ناقد بصير...
ونهج الأستاذ طه في البحث الأدبي أن يكون العقل العربي متحررا من كل الرواسب والعفونات... وان يصل ببحوثه إلى نتائج يقررها العقل ويرضى عنها الفكر... الفكر المتحرر - وأثمرت هذه الدروس في كتابه : "في الشعر الجاهلي".
وعند الكلام عن هذا الكتاب ينبغي أن نعرض لكم أهم ما كان جل العلماء يعيب به على الدكتور طه حسين في كتابه هذا عندما كان يتحدث عن الأسلوب الفني والبلاغة في القرءان أراد أن يبحث في الشعر الجاهلي عن الأسلوب الغني البليغ مند امرىء القيس فذكر قصيدته المعلقة التي مطلعها :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمغراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمـال
حتى إذا ما وازن بين أسلوبها وأراد أن يظهر قوته قال :
"قفا نبك أبلغ من التين والزيتون"، وهذه هي المؤاخذة الأولى.
أما الثانية فقد قال : "إن حادثة إبراهيم وإسماعيل - التي نص الكتاب العزيز عليها - حادثة لا يعول التاريخ عليها ولا يمكن التسليم بها، وإنما هي حادثة أرجعها المسلمون لسبب مخصوص هو سبب سياسي أكثر منه دينيا، فلقد جاء في كتابه بالصفحة 26 ما يأتي : "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا... ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرءان لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي.
وقد قال الأستاذ القاياني عند محاكمة كتاب طه في صدد هذا :
"معنى هذا أن دعوى الله أن شيئا حصل لا ينهض دليلا على أن هذا الشيء حصل، والله يعلم أن هذا يساوي في قوله :إن الله كذاب فيما قال ! ثم في نفس الصفحة يقول طه :
"... فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة بها، ونحن مضطرون إلى أن نحرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إنبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، والقرءان والتوراة من جهة أخرى.
"وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبثون فيه المستعمرات، فنحن نعلم أن حروبا عنيفة نشبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد... وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة، فليس بعيدا أن يكون هذا الصلح الذي استقر عليه الرأي بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام... لا سيما وقه رأى أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل، فأولئك وهؤلاء ساميون".
أما الثالثة في أنه ذكر في أول الكتاب أن الواجب على الكاتب الذي يبحث ويحلل الأدب القديم أن يتجرد من الدين لئلا يتأثر أو ينجذب إلى أي عامل من العوامل المؤثرة التي قد تنجلي له أثناء قيامه بالبحث والتنقيب !
لقد كان من الطبيعي أن تثير هذه الأقوال في نفس الرافعي الحريص على القديم حماسة الدفاع عن مذهبه، إن كان الجديد أتى بهذه الجرأة النادرة التي سوف تترك وراءها تخديرا في عقول النشء الذي كان يتلقى على يد طه وأتباعه قراءة العلوم في الجامعة.
فهل يكون هذا سبب الخلاف بين الرافعي وطه حسين على المعوم هذا ما يتبادر إلى المنقب... ولكن إن تعمقنا في الدواعي التي ملأت صدريهما بالحقد على بعضهما نجد أن الرافعي رحمه الله كان يعتد بنفسه، كان يحاول أن يحصل على أشياء كما يقول خصومه، ويرى أن الأسبقية لنيلها له، فألب على نفسه عداوات حيا وميتا... لقد كان ذا لسان حديدي، ينتقد بعنف، ولا يداري ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه، وكانت فيه إلى كل هذا غيرة وحرص على اللغة والدين، وكان يؤمن بأنك : "لن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة".
فحينما انتصب طه حسين مديرا للجامعة المصرية لم يرى المرحوم الرافعي هذا حسب البعض... حيث كان يطمع في أن يكون إليه تدريس الأدب في الجامعة منه أنشئت... وكان كشف عن رغبته هذه في إحدى الصحف، وإذا ما تجاوزنا في هذا ولم نجعله كسبب رئيسي المصاولات التي حدثت وكانت السبب، فإنها كانت فيما بعد بينهما أحد عوامل هذه الخصومة الأدبية والعلمية.إن الفكر المتحرر أو "فكر بلا قيود" المتداول في الجامعة آنذاك على يد أساتيذ تخرجوا من نفس الجامعة وكانوا من أنصار التحرر تصدى لهم العلماء والنقاد على أساس أن حرية الفكر لا ينظمها سوى الفكر نفسه حيث لا يصحح الفكر الخاطئ سوى الفكر الصائب... لأن الحرية المطلقة هي الفوضى بعينها . . . والفوضى معيبة في مختلف صورها سواء أكانت فوضى في السلوك والعمل أم فوضى في الفكر والاعتقاد، وفكر بلا قيود مسرح للأوهام والخيالات، وميدان فسيح للتضليل والمغالطة ! ولا شك أن الفكر يخطئ ويصيب، وقد يقول بالشيء وضده ويستطيع أن يأخذ الرذيلة مأخذ الفضيلة - أما تقييد الفكر في مجال الدين فهناك فرف بين "النصر" الموحى به والذي هو من صميم الدين وأساسه، وبين التفكير في فهم هذا "النص"، فكلما ازددنا فهما للنصوص الدينية ازددنا إيمانا بتلك النصوص... مع مراعاة شعور وإيمان السواد الأعظم... فإذا كانت حريته ستنتهي به إلى إعلان رأي ليس هو ما تأخذ به الناس في شأن دينهم، فإن القائمين على الدين حريصون على مقاومته بكل الوسائل.

دعوة الحق
العدد 235

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
معارك أدبية
المشاهدات
561
آخر تحديث
أعلى