د. أحمد الحطاب - فلنُلقي نظرةً على العلاقة الثلاثية "بيئة-مجتمع-تربية"

كل تغييرٍ يحدث في مجتمعٍ ما، كيفما كانت طبيعتُه، يكون مصدرُه هذا المجتمع.

وبعبارة أخرى، المجتمع يُطوِّر نظامَ علاقات يجعل منه أساسا لاشتغاله علما أن هذا النظامَ لا يأتي من فراغ. إنه مبنيٌ على التَّصوُّرأت التي يُدرِك بواسطتها المجتمعُ الواقعَ la réalité الذي يتحرَّك فيه. أو، بعبارة أخرى، إن نظامَ العلاقات المقصود مرتبطٌ بالأسُس النظرية التي تكمن وراء مفهوم الواقع. غير أن نظامَ العلاقات هذا ليس ثابتا، بل بالعكس، إنه دينامي أو متحرِّك، بمعنى أنه في تطوُّرٍ مستمر. وهذا التَّطوُّرُ هو الذي يُفرز التَّغييرات التي تحدث في المجتمع.

وباختصارٍ، إن هذه التَّغييرات إنتاجاتٌ اجتماعية التي، إن عاجلا أو آجلا، تكون لها انعكاسات (آثار) على اشتغال المجتمع نفسه.

لكن، عندما نتحدَّثُ عن الواقع، فالأمرُ لا يتعلَّق بالواقع بالمعنى المُطلق ontologique الذي لا قدرةَ للعقل البشري الوصول إليه. الأمرُ يتعلَّق بالواقع الذي يبنيه اجتماعيا وفكريا الإنسانُ. وبعبارةٍ أخرى، يتعلَّق الأمرُ بالتَّصوُّرات والتَّمثُّلات الاجتماعية représentations sociales التي كوَّنها الإنسانُ إزاء الواقع ومُكوِّناته.

من بين هذه التَّمثُّلات، تلك التي لها علاقة بالبيئة تلعب دورا حاسما في كيفية اشتغال المجتمع.

التَّمثُّلات المرتبطة بالبيئة

قد لا أبالغ إذا قلتُ أن كلَّ شخصٍ يتمثَّل البيئةَ بطريقة خاصة به أو له تمثُّلٌ خاص به إزاء هذه الأخيرة. على المستوى الفردي، هذا شيءٌ صحيح. لكن، فيما بخصُّ الحالة الراهنة، لا نتحدَّثُ عن الكائن الفردي لكن عن الكائن الاجتماعي/التاريخي sujet socio-historique الذي هو جزءٌ من مجموعة أو جماعة تتقاسم اعتقادات وآراء ومعارف ومسلَّمات postulats وقِيم…

وباختصار، يتعلَّق الأمرُ بكائن يجرُّ وراءه واقعا مُعاشاً وتاريخاً اجتماعيين اللذان لا يمكن تجاهلُهما عندما يتعلَّق الأمرُ بتحديد والتَّعرُّف على التَّمثُّلات التي تصوغُها المجموعةُ أو الجماعة إزاء البيئة أو إزاء أي مفهوم أو مُكوِّنٍ من مُكوِّنات الواقع.

علاقةً بالبيئة وبصفة عامة، إن هذه الأخيرة، من الناحية الفكرية، تحظى باتجاهين نظريين أو يؤطرها تياران فكريان يعتمدان على أسُسٍ نظرية/فلسفية متناقضة.

الأول، مُسيطر على الساحة، يؤسِّسُ علاقات الإنسان مع البيئة على التيار الفكري المسمى anthropocentrisme، أي التيار الفكري الذي يرى أن كل شيء في البيئة مُتَمَركِزٌ حول الإنسان. بينما التيار الفكري الثاني يُؤسِّسُ نفس العلاقات على التيار الفكري المُسمَّى écocentrisme، أي التيار الفكري الذي يرى أن الإنسانَ ليس إلا واحدا من مُكوِّنات البيئة وأن الأهمَّ هو الطبيعة ومُكوِّناتها الحية وغير الحية.

التيار الفكري المًتمركِز حول الإنسان conception anthropocentriste

في إطارِ هذا التيار، تتكوَّن البيئةُ من كل شيءٍ ما عدا الإنسان. وبعبارة أوضح، إن هذا الأخيرَ يضع نفسَه، على المستوى الفكري، في موقع خارج البيئة أو، إن شئنا القولَ، أعطى لنفسِه موقعا مفضَّلا يرى من خلالِه البيئةَ كأنه يعيش خارجها.

في هذه الحالة، تُرى البيئةُ من طرف الإنسان كمُجرَّد مجموعة من الموارد المُخصَّصة لسدِّ حاجياته.

وعليه، فكل النماذج أو التَّصرُّفات التي يصوغُها الإنسانُ في مجالات التَّنمية والاقتصاد والتِّكولونيا والعِلم… تصبُّ كلها نحو سدِّ هذه الحاجيات.

في هذه الحالة، البيئة ليست إلا تراكماً من المُكوِّنات التي يرى فيها الإنسانُ منفعةً له دون غيره من المُكوِّنات الحية الأخرى.

التيار الفكري المُتمركِز حول الطبيعة ومُكوِّناتها الحية وغير الحية conception écocentriste

في إطار هذا التيار الفكري، الإنسانُ يعود إلى الطبيعة، وبكل تأكيد إلى البيئة، والأهمُّ، هو أنه يعتبِر نفسَه واحدا من مُكوِّنات هذه الطبيعة مثلُه مثل المُكوِّنات الأخرى، حيةً كانت أو غير حية.

وما يترتَّب عن هذه النظرة الفكرية هو أن البيئةَ يُنظَر لها كنِتاجٍ لشبكةٍ من التَّرابُطات والتَّداخلات التي تربط بين مُكوِّنات هذه البيئة.

في هذه الحالة، يتمُّ الإلحاحُ على أن البيئةَ هي سَكَنٌ لجميع الأنواع الحية بما فيها الإنسانُ. ومن هنا، أتت تسميةُ écocentrisme حيث éco أو oïkos تعني في الأصل اليوناني سَكَن أو دار maison. فهذا التيار الفكري يٌركِّز على الطبيعة/البيئة كسَكَن وليس على سد حاجيات الإنسان وحده.

ومن أهمِّ ما يترتَّب عن هذا التيار الفكري هو فكرة التساكُنُ الشامل لجميع مُكوِّنات البيئة في نفس السَّكنِ الذي هو الطبيعة (الأرض). في هذه الحالة، يرى هذا التيار الفكري البيئةَ كَكُلٍّ متكاملٍ، غير قابلٍ للتجزيء.

انعكاسات التيار الفكري المُسيطِر anthropocentriste على المستويين الاجتماعي والتربوي

على المستوى الاجتماعي، التيار الفكري المُسيطِر يُعتَبَرُ كنموذجٍ نفعي utilitariste للعلاقات القائمة بين الإنسانِ والبيئة، علاقات، غالبا، ما تكون ذات اتجاه واحد، أي من البيئة إلى الإنسان وليس العكس.

وهذا النموذج الرئيسي يُفرِز نماذجَ ثانوية في مجالات التَّنمية والاقتصاد والتِّكنولوجيا، وبصفة عامة، يُؤثِّر على اشتغال المستوطنات البشرية. وخير مثالٍ يمكن سياقُه في هذا الصدد، يتعلَّق باستعمال الموارد الطبيعية لأغراض اقتصادية.

في إطار هذا التيار الفكري المُسيطِر anthropocentriste، يؤدِّي هذا الاستعمالُ، الذي يهدف فقط إلى سدِّ حاجيات الإنسان، إلى استغلالٍ جنوني ومبالغ فيه للموارد الطبيعية وإلى تبذيرِها ليس فقط على مستوى السياسات التَّنموية ولكن كذلك على مستوى المواطنين والبيوت.

بعبارة أخرى، إن التيار الفكري المُسيطر له انعكاسٌ على الحياة اليومية وما يترتَّب عنها من علاقات بين أعضاء المجتمع وبينهم وبين مُكوِّنات البيئة.

ومن جهة أخرى، إن التيار الفكري المسيطِر يُفرِز تكنولوجيات تعتدي على البيئة، وفي الحقيقة، تستجيب لرؤيةٍ تقنية-ميكانيكية-اقتصادوية technico-mécanico-économiste التي، بواسطتها، يبني الإنسانُ تمثُّلاتٍ représentations إزاء مُكوِّنات البيئة.

على المستوى التَّربوي ولو أن هذا غير ملحوظ في أول وهلة، إن التيارَ الفكري المُسيطر بُعدُّ أساساً ويُوجِّه منظومات التَّعليم.

بالفعل، إن هذا الأخير، أي التَّعليم، وبالأخصِّ عندما يتعلَّق الأمرُ بتدريس العلوم enseignement des sciences، يُعدُّ تجسيداً للنظرة المُتمركِزة حول الإنسان vision anthropocentriste التي، بواسطتها، يلعامل الإنسانُ مع البيئة. حسب هذه النظرة وكما سبق الذِّكرُ، البيئة عبارة عن تراكمٍ لأشياء (مُكوِّنات) منعزلة عن بعضها البعض و الغرض منها هو سدُّ حاجيات الإنسان.

تمشِّياً مع هذه النظرة، التَّعليم، هو الآخر، يُجَزِّء الواقع segmente la réalité ويُقدِّمُه للمتعلِّمين كمجموعة من الأشياء غير المترابطة فيما بينها. النتيجةُ هي تجزيء مبالغٌ فيه للمعرفة الذي، بدوره، يقود إلى إقامة حواجز بين التَّخصُّصات cloisonnement des disciplines. وقد يُؤدٍّ الأمرُ إلى إقامة حواجز داخلَ التَّخصُّصات نفسها.

وإذا كانت النظرةُ المتمركِزة حول الإنسان (التيار الفكري المسيطر) تتجاهل العلاقات القائمة بين مختلف مُكوِّنات البيئة، فهذا التَّجاهلُ أدَّى إلى نموِّ الفكر التَّحليلي esprit analytique الذي، بدوره، يتجاهلُ وحدةَ المعرفة unité du savoir وطابعَها الشمولي caractère global.

وهو ما يُؤدي، في آخر المطاف، إلى تبنِّي أنماطٍ فكريةٍ خطِّية modèles intellectuels linéaires حيث يُنظَرُ لمُكوِّنات البيئة كوحدات مستقِلَّة entités autonomes لا علاقةَ لها بباقي المُكوِّنات، وهذا شيءٌ مُنافي ومتناقضٌ مع ما يحدث فعلياً في الواقع.

انعكاسات التيار الفكري النَّاشىء écocentriste على المستويين الاجتماعي و التَّربوي

رغم أن هذا التيار الفكري النَّاشىء له أصولٌ قديمة، لم يترسَّخ كتيارٍ فكري معاصر إلا خلالَ الستينيات، وبالأخصِّ، عند ظهور الحركات اللإيكولوجية mouvements écologistes المعروفة بحركات الخُضر mouvements des verts.

هذه الحركات هي التي كانت وراء ظهور التيار الفكري النًَّاشىء المُتمركِزحول الطبيعة ومُكوِّناتها والذي أعادَ النَّظرَ في التيار الفكري المُسيطِ الذي أحدثَ طلاقاً بين الإنسان والطبيعة. وللتَّذكير، فإن التيار الفكري المُسيطِر يعتبر هذه الطبيعة ثروةً للاستغلال وليس إمكانات لتَفتُّحِ وتناسُقِ الحياة بجميع أشكالِها بما فيها حياةُ الإنسان.

إن الهدفَ الرئيسي للتيار الفكري النَّاشىء écocentriste هو إعادةُ اندماج الإنسانِ مع الطبيعة وداخِلَها، ومن تمَّة، إعادةُ توجيه علاقاته مع البيئة.

على المستوى الاجتماعي، إن هذا التيار، من المفروض، أن يكونَ له انعكاسٌ على أنماطِ فكرِ و حياةِ الجماعات البشرية. وفضلاً عن ذلك، من المفروض أن يُفرِزَ أنماطَ تنميةٍ تأخذ بعين الاعتبار الطَّابعَ الشمولي للبيئة ولترابُطِ مكوِّناتها.

في هذه الحالة، يجب على الإنسان أن لا يعتبِرَ نفسَه ككائنٍ متميِّزٍ بالنسبة للكائنات الأخرى، لكن كمُكوِّنٍ من مُكوِّنات البيئة علماً أن بقاءه survie مرتبِطٌ بنوعيةِ العلاقات التي يُقيمُها مع البيئة. وعِلما كذلك أن هذه العلاقات يجب أن تُوَجَّهَ نحو استدامة التَّنمية. وعوضَ الحديث عن النمو اللامحدود، يكون الحديثُ عن التَّنمية المُستدامة. وعِوضَ الحديثِ عن التَّكنولوجيات العُدوانية technologies agressives، يتِمُّ الحديثُ عن التِّكنولوجيات اللطيفة المناسِبة technologies douces ou appropriées، المُتلائمة مع السياقات الطبيعية processus naturels لاشتغالِ المنظومات البيئية والتي تضمن استمرارَ، في آنٍ واحدٍ، المنظومات البيئية الطبيعية والمستوطنات البشرية.

وفي نهاية المطاف، يتعلَّق الأمرُ بإيجادِ عناصر نزرةٍ جديدةٍ الني تُدمِجُ البُعدَ البشري في الفكر البيئي المُعاصر.

على المستوى التَّربوي، من المفروض أن يكونَ للتيار الفكري الناشىء écocentriste انعكاسٌ حاسمٌ على فلسفة التَّعليمِ نفسِه. بالفعل، إلى يومنا هذا، التَّعليمُ استند إلى النطرة المُسيطِرة anthropocentriste التي تُفضي إلى تجزيئة المعرفة إلى معارف أو وحدات معرفية مستقلَّة. من المفروض أن التيار الفكري الناشىء سوف يضع حدّاً لهذه التَّجزئة وذلك بتقديبم البيئة كنِتاجٍ لشبكة من التَّرابُطات interdépendances. وهو الشيءُ الذي أدى إلى ظهور مقاربة تعليمية تعتمد على تكامل المواد interdisciplinarité التي من شأنها أن تُكسِّرَ الحواجز المُقامة بين التَّخصُّصات وذلك بإنشاء جسورٍ أو ممراتٍ بينها.

عملياً وكما هو الحالُ في الوقت الراهن، المنظومات التَّربوية هي، في الحقيقة، صورةٌ للنظرة التي يتمثَّل بها الإنسانُ الواقعَ. وبما أن هذا الواقعَ خاضِعٌ للتَّجزئة الفكرية، فالـَّعليمُ هو الآخر يسيرُ على نفس النَّهج. ولهذا، فمن الصعب جدا أن يُصبحَ الفكر البيئي شموليا عندما تسعى المنظومات التَّعليمية جاهِدةً لتجزيئه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى