في عز الانتفاضة، كان أهلي مشغولين بها، ليس لهم انتماء تنظيميّ واضح، ولكنهم منحازون لكل ما هو إسلاميّ، وكانت الانتفاضة صعودًا مستمرًا لحركة حماس. زوجة أخي الكبير كانت ناشطة، بل قيادية، وتعتز العائلة بها، وكنت أشك بنشاط أخي، زوجها، لطالما شعرت أنه شخص مهم في حماس ولكن الظروف الأمنية لم تسمح بإظهار ذلك.
والدي بحكم عمله تاجرًا وصاحب محال تموينية، كانت علاقته بحماس طيبة، يشترون المساعدات التي يوزعونها على الفقراء منه، ولكن بطريقة متوارية، بدا لي أنه يستفيد من حماس كثيرًا ولكن دون أن يظهر ذلك، ويمكن مداراة الأمر بتبرع سخي يقدمه أبي للأيتام والفقراء وعوائل الشهداء والأسرى.
لم تفوت العائلة بكل أفرادها أي مناسبة وطنية كبرى، جنازات الشهداء والمهرجانات الوطنية الجماهيرية. ومن طريقة تعامل المنظمين والنشطاء مع أفراد عائلتي تأكدت أن لنا مكانة مميزة، ولكنني لم أنشغل بها. بعد سنوات أدركت ذكاء أبي، فلم ينلنا أي سوء من الاحتلال أو من السلطة أو فتح، لم يعتقل أحد من العائلة ولم يدخلوا في الصدام الداخلي بين الفصائل، كان ذكيًا يعرف متى يتقدم ومتى يتراجع دون أن يخسر، تاجر بالفطرة. ولذلك ربما كان منشغلًا بكل ما يقع خارج البيت تاركًا البيت لأمي.
كانت أمي تتباهى بتدينها، تجمع نساء الحي ووجاهات المدينة في المنزل للحديث بأمور الدين، ولا تتردد في الإنفاق بسخاء على المؤمنات وضيافتهن، وحين تجتمع لديها الناشطات سياسيًّا في حماس تستعرض زوجة ابنها البكر أمامهن، فالكل يعرفها. تلك كانت تحيا بهوس واحد وحيد، التنظيم، الحركة. كنت أرصد هوسها بكل ما له علاقة بحركتها، شاغل حياتها الوحيد. وأذكر جيدًا كيف كانت تنتشي وتملؤها سعادة غامرة حين ترى بنات أخواتها في الحركة يكبرن وعليهن ملامح النضج والجمال، سمعتها مرارًا تجاملهن وتقول: "هيك بنتطمن ع شبابنا".
لم يكن يسعدها شيء مثل تدبير الزيجات بين شباب الحركة وبناتها، كأنها تشتري بذلك مستقبلًا للحركة وتضمن استمرارها. ومن خلف باب غرفة الضيوف كنت أسمع تغزلها بإحدى الأخوات أمام أمّ أحد الإخوة. كانت تعرف جيدًا أن الروابط الاجتماعية أهم شيء في الحياة التنظيمية، ولذلك تنهال بالقبلات والأحضان على أمي بعد ترتيبها لأي اجتماع نسائي في البيت.
وأخطر مهمات زوجة أخي تزويج زوجات الشهداء، تصبح الحركة وكأنها حمو أو حماة زوجة الشهيد ابن الحركة، ومستقبلها شيء يخص الحركة، لا مشاعر ولا رغبات. هنالك زوجة أخي ومثيلاتها من ينظرن إلى الأمر كمهمة ويبحثن سريعًا عن أخ يتزوج أرملة الشهيد، كل الاحترام والعناية الخاصة الذي تناله أرامل الشهداء يختفي عند تزويجهن، يمكن أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة لأحدهم، فالمهم أن تتزوج بأي طريقة، وزوجة أخي، تجعل كل هذا ممكنًا بطريقتها النادرة في الإقناع وحرارتها العجيبة في كل ما يخص الحركة.
حين أفكر بها وبمن يشبهنها، حين أتذكر اليوم مراقبتها وأخواتها في غرفة الضيوف من خرم مفتاح الباب، أعرف أن الحركة تقوم على عاتقهن قبل الرجال، وحين أتذكر توجيهاتها المستمرة للصغار، لأبناء وبنات الأخوات، وسؤالها المستمر لهم كم صاروا يحفظون من القرآن، قبل السؤال عن أحوالهم، أستغرب كيف ينشغل الناس بالحديث عن "رجال الدين" دومًا ويغفلون عن "نساء الدين"!
كان أخي سعيدًا بها، ولطالما تخيّلت علاقتهما الخاصة، امرأة بهذه الحرارة والقوة والاقتدار، وبنضج بالغ في ملامحها وجسدها المكرس لأخي، وبالخبرة الطافرة من كل شيء فيها.
عائلتي سعيدة، بنسائها قبل أي شيء، بنسائها المكرسات لخدمة الرجال وإسعادهم، هذا ما لا تخطئه عين في اجتماعهم صباح كل جمعة على مائدة أمي وأبي. تلك الوجوه كانت قد شبعت من ملذات ليالي الخميس، هذه الأفواه التي لا تتوقف عن ذكر الله والصلاة على النبي في تلك الصباحات، كانت تنغمس ليلًا في كل سوائل الشهوة.
كان المخطط أن أصبر قليلًا حتى أنضج، أن أسير على خطى إخوتي وأقلدهم، أن تتدبر لي زوجة أخي عروسًا، كما تدبرت لكثير من العائلة، تقف أمام والدة الشاب الموعود وتحرص على أن يسمعها، تتحدث عن التزامها الديني وأخلاقها وحفظها للقرآن وأهلها الطيبين، ثم بحركة غير متوقعة، وكأنها زلة لسان، تقول: "بنت كاملة، كل شي فيها كامل، من شعرها لحتى أصابع رجليها، يا ربي سامحني، حورية … أستغفر الله".
كانت "أستغفر الله" تلك، شلال إيحاءات تستحم في مسقطه حوريات عرايا.
-مقطع من رواية بالاسم نفسه
عن منشورات المتوسط – ميلانو، طبعة فلسطينية وطبعة عربية.
والدي بحكم عمله تاجرًا وصاحب محال تموينية، كانت علاقته بحماس طيبة، يشترون المساعدات التي يوزعونها على الفقراء منه، ولكن بطريقة متوارية، بدا لي أنه يستفيد من حماس كثيرًا ولكن دون أن يظهر ذلك، ويمكن مداراة الأمر بتبرع سخي يقدمه أبي للأيتام والفقراء وعوائل الشهداء والأسرى.
لم تفوت العائلة بكل أفرادها أي مناسبة وطنية كبرى، جنازات الشهداء والمهرجانات الوطنية الجماهيرية. ومن طريقة تعامل المنظمين والنشطاء مع أفراد عائلتي تأكدت أن لنا مكانة مميزة، ولكنني لم أنشغل بها. بعد سنوات أدركت ذكاء أبي، فلم ينلنا أي سوء من الاحتلال أو من السلطة أو فتح، لم يعتقل أحد من العائلة ولم يدخلوا في الصدام الداخلي بين الفصائل، كان ذكيًا يعرف متى يتقدم ومتى يتراجع دون أن يخسر، تاجر بالفطرة. ولذلك ربما كان منشغلًا بكل ما يقع خارج البيت تاركًا البيت لأمي.
كانت أمي تتباهى بتدينها، تجمع نساء الحي ووجاهات المدينة في المنزل للحديث بأمور الدين، ولا تتردد في الإنفاق بسخاء على المؤمنات وضيافتهن، وحين تجتمع لديها الناشطات سياسيًّا في حماس تستعرض زوجة ابنها البكر أمامهن، فالكل يعرفها. تلك كانت تحيا بهوس واحد وحيد، التنظيم، الحركة. كنت أرصد هوسها بكل ما له علاقة بحركتها، شاغل حياتها الوحيد. وأذكر جيدًا كيف كانت تنتشي وتملؤها سعادة غامرة حين ترى بنات أخواتها في الحركة يكبرن وعليهن ملامح النضج والجمال، سمعتها مرارًا تجاملهن وتقول: "هيك بنتطمن ع شبابنا".
لم يكن يسعدها شيء مثل تدبير الزيجات بين شباب الحركة وبناتها، كأنها تشتري بذلك مستقبلًا للحركة وتضمن استمرارها. ومن خلف باب غرفة الضيوف كنت أسمع تغزلها بإحدى الأخوات أمام أمّ أحد الإخوة. كانت تعرف جيدًا أن الروابط الاجتماعية أهم شيء في الحياة التنظيمية، ولذلك تنهال بالقبلات والأحضان على أمي بعد ترتيبها لأي اجتماع نسائي في البيت.
وأخطر مهمات زوجة أخي تزويج زوجات الشهداء، تصبح الحركة وكأنها حمو أو حماة زوجة الشهيد ابن الحركة، ومستقبلها شيء يخص الحركة، لا مشاعر ولا رغبات. هنالك زوجة أخي ومثيلاتها من ينظرن إلى الأمر كمهمة ويبحثن سريعًا عن أخ يتزوج أرملة الشهيد، كل الاحترام والعناية الخاصة الذي تناله أرامل الشهداء يختفي عند تزويجهن، يمكن أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة لأحدهم، فالمهم أن تتزوج بأي طريقة، وزوجة أخي، تجعل كل هذا ممكنًا بطريقتها النادرة في الإقناع وحرارتها العجيبة في كل ما يخص الحركة.
حين أفكر بها وبمن يشبهنها، حين أتذكر اليوم مراقبتها وأخواتها في غرفة الضيوف من خرم مفتاح الباب، أعرف أن الحركة تقوم على عاتقهن قبل الرجال، وحين أتذكر توجيهاتها المستمرة للصغار، لأبناء وبنات الأخوات، وسؤالها المستمر لهم كم صاروا يحفظون من القرآن، قبل السؤال عن أحوالهم، أستغرب كيف ينشغل الناس بالحديث عن "رجال الدين" دومًا ويغفلون عن "نساء الدين"!
كان أخي سعيدًا بها، ولطالما تخيّلت علاقتهما الخاصة، امرأة بهذه الحرارة والقوة والاقتدار، وبنضج بالغ في ملامحها وجسدها المكرس لأخي، وبالخبرة الطافرة من كل شيء فيها.
عائلتي سعيدة، بنسائها قبل أي شيء، بنسائها المكرسات لخدمة الرجال وإسعادهم، هذا ما لا تخطئه عين في اجتماعهم صباح كل جمعة على مائدة أمي وأبي. تلك الوجوه كانت قد شبعت من ملذات ليالي الخميس، هذه الأفواه التي لا تتوقف عن ذكر الله والصلاة على النبي في تلك الصباحات، كانت تنغمس ليلًا في كل سوائل الشهوة.
كان المخطط أن أصبر قليلًا حتى أنضج، أن أسير على خطى إخوتي وأقلدهم، أن تتدبر لي زوجة أخي عروسًا، كما تدبرت لكثير من العائلة، تقف أمام والدة الشاب الموعود وتحرص على أن يسمعها، تتحدث عن التزامها الديني وأخلاقها وحفظها للقرآن وأهلها الطيبين، ثم بحركة غير متوقعة، وكأنها زلة لسان، تقول: "بنت كاملة، كل شي فيها كامل، من شعرها لحتى أصابع رجليها، يا ربي سامحني، حورية … أستغفر الله".
كانت "أستغفر الله" تلك، شلال إيحاءات تستحم في مسقطه حوريات عرايا.
-مقطع من رواية بالاسم نفسه
عن منشورات المتوسط – ميلانو، طبعة فلسطينية وطبعة عربية.