أ. د. عادل الأسطة - سهرة مع إلياس خوري وروايته "رجل يشبهني" (1....20)

1-
جدل النقد :
إلياس خوري وثلاثيته "أولاد الغيتو"

أنفقت شهرا كاملا في هذا العام في الكتابة عن الجزء الثالث من رواية إلياس خوري " أولاد الغيتو ٣ : رجل يشبهني " الصادرة عن دار الآداب في بيروت في ٢٠٢٢ / ٢٠٢٣ .
اخترت للمقالات ال ٢٩ التي نشرت أكثرها على جدار ( الفيس بوك ) عنوان " سهرة مع إلياس خوري وروايته " رجل يشبهني " .
دونت بعد أن انتهيت من القراءة ، مثل دارس وباحث ، الأفكار والموضوعات التي سأكتب عنها ، وسرت على خطى " أبو حيان التوحيدي " في " الإمتاع والمؤانسة " الذي ألفه وسرد فيه لياليه مع الوزير في أربعين ليلة ، وعلى خطى " ألف ليلة وليلة " الذي تأثر بأسلوبه إلياس خوري كثيرا ، فكانت الحكاية فيه تخرج من الحكاية .
شخصيا لم أحك بقدر ما جادلت وعرضت كما فعل التوحيدي .
لم أعتمد منهجا نقديا صارما في الكتابة ، لأن الجمهور الذي أكتب له جمهور متعدد متنوع في ثقافته واهتماماته ، لا تهمه بنية الرواية والعلاقة بين أجزائها إن كانت علاقة تواز أو تعارض أو إتمام ، بقدر ما تهمه موضوعاتها وطزاجتها وعمق أفكارها وعنصر التشويق فيها وفاعليتها في الزمن الراهن المعيش .
لا يعني ما سبق أنني أغفلت قضايا نظرية نقدية إغفالا كليا ، ففي صلب ما كتبت ناقشت قضايا روائية مهمة جدا وحساسة أهمها علاقة الكاتب بالمكان والزمان اللذين يكتب عنهما وانعكاسهما على دقة المعلومات واللهجة المحكية ، والقراء الذين يتوجه إليهم . وهو ما توقفت أمامه أيضا في كتابتي عن الجزء الثاني من الرواية حين كتبت عنها حلقات مبعثرة أيضا على جدار ( الفيسبوك ) وعلى صفحات جريدة الأيام الفلسطينية .
في كتابتي عن الجزء الثالث لم تختلف طريقتي عن طريقة الدارس والباحث الذي يخطط لدراسته وكتابه ، فيضع المخطط أولا ثم يبدأ الكتابة . إن كان هناك اختلاف فهو يكمن في عدم اعتماد منهج صارم محدد ، إذ آثرت أن أتبع مقولة نقدية يؤمن بها أصحاب النقد التأثري هي " النقد محادثة شيقة بين أناس مثقفين " ، وقد ازدهر هذا النقد في فرنسا بين العامين ١٨٨١ و ١٩١٤ ومن أبرز أعلامه ( أناتول فرانس وجول لوميتر و ريمي دي غورمون و أندريه جيد ) وكان لكل منهم اجتهاده ، فالمفهوم البسيط للتأثرية هو " العلاقة المباشرة بين النص والقاريء والأثر الذي يتركه الأول على الثاني " وهم أعداء للمناهج النقدية المعدة سلفا ؛ لأنهم رأوا أن الكتب تكتب لتقرأ لا ليقاس عليها ، وهم لا يريدون أن يحرموا أنفسهم من اللذة التي تحققها القراءة ، وإن عادوا وخانوا مذهبهم ، فقد أخذوا يقيسون على الكتب الكلاسيكية الفرنسية ، حتى لا تصبح الكتابة بلا ضوابط نهائيا فتسود الفوضى ، عدا أنني لم أذهب مذهب ( أندريه جيد ) الذي ذهب بالنقد التأثري إلى أبعد مداه وهو الكتابة عن الذات أكثر من الكتابة عن الكتاب المقروء . لقد قمت بهذا قليلا جدا ، وبقيت أقرب إلى النقد الذي يحاور المقروء مستعينا أحيانا بحياة كاتبه .
ومن يعد إلى تعليقات القراء يجد تفاعلهم مع ما كتب وقد أكون أفدت منها أحيانا ، وعندما توقفت عن الكتابة عدت إليها لأرتبها من جديد ، وهكذا قدمت وأخرت ، فأعدت تنسيق المادة لتكون دراسة وكتابا متناسقا يشكل قراءة ما لعمل أدبي من المؤكد أنه سيتلقى نقديا بما يليق به ، فهو إحدى الثلاثيات المهمة في الرواية العربية ، بل يمكن القول إنه إذا درس في ضوء ما أنتجه الكاتب من روايات يرقى لأن يكون رباعية أو خماسية أو سداسية أو سباعية ، فمن يمعن النظر في الثلاثية يلحظ أن روح المؤلف فيها هي روحه في أعماله السابقة لها ، ما يعزز مقولة المنهج الوضعي الذي لا يفصل بين النص وكاتبه ويقرأ الأدب في علاقته بحياة منتجه " وحدة المؤلف ونصه " ، علما بأن النقد التأثري لا يهتم إلا بالنص .
ربما يقول ناقد منهجي صارم إن النقد الحديث تجاوز التأثرية منذ مائة عام ويزيد ، وإن ما أكتبه ينتمي إلى النقد الأدبي الذي " أكل الدهر عليه وشرب " ! ربما !
أعرف هذا ، ولكني هنا استشهد برأي نجيب محفوظ في النقد الأدبي الذي صار ينشر في مجلة " فصول " المصرية وأورده الروائي إبراهيم عبد المجيد في شهادته عن النقد الأدبي ؛ رأيه الذي نشر في فصول " ماكنتش أعرف إنو النقد بقى صعب كدا " ( مجلة فصول عدد ٦ خريف ٢٠٢١ ، صفحة ٢٣٠ ) .
هناك كتب نقدية ودراسات تتكيء على مناهج نقدية لا يقرأها إلا كتابها ومن كتب عنهم ، إن أكمل الأخيرون القراءة وفهموا منها شيئا .
شخصيا أفضل أن أكتب نقدا واضحا يفهمه القراء الأدباء والقراء المهتمون بالأدب باعتباره نشاطا إنسانيا على أن أكتب نقدا لخاصة الخاصة من القراء ، وهذا اجتهاد ورأي ، وهو رأي قديم عموما أعيد تبنيه في ضوء النقد الجديد المنهجي الصارم الجاف الجامد .
بقيت ملاحظة أخيرة يضمها السؤال الآتي :
- لماذا لم أنشر هذه الكتابة في الصحيفة ؟
كنت في العام ٢٠١٦ نشرت ٣٧ مقالة في زاويتي في جريدة الأيام ، والزاوية تتطلب تنوعا في الموضوعات لا الكتابة في موضوع واحد أو رواية واحدة ، عدا أن المساحة محدودة ، إذ يجب ألا تتجاوز ٦٠٠ إلى ٧٠٠ كلمة ، وقد توقف إبراهيم عبد المجيد أمام كثرة الإنتاج الأدبي إلى درجة لا تمكن الناقد من مواكبته " كما أن كثيرا من الصحف لا تترك مساحة كثيرة للمقالات . نادرا ما تقرأ مقالا يصل إلى ألف كلمة إلا إذا كان صاحبه ناقدا مشهورا " ، ولعلني كذلك ولكن زاويتي ليست للكتابة النقدية المتخصصة .
٨ / ٢ / ٢٠٢٣
مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١٢ / ٢ / ٢٠٢٣ .

***

2-

" ثالث الثلاثية أم رابع الرباعية أم خامس الخماسية أم سادس السداسية ؟
صدر مؤخرا الجزء الثالث من رواية إلياس خوري " أولاد الغيتو " وكان صدر منها جزآن هما " اسمي آدم " ٢٠١٦ و " نجمة البحر " ٢٠١٩ ، وقد أشار الكاتب في صدر الجزء الثالث إلى أنه يمكن أن يقرأ منفردا ويمكن أن يقرأ متمما لهما ، فآدم الذي كان محورهما يستمر في سرده قصة حياته ويثير الأسئلة التي تؤرقه حول الأدب والفن والخيال وأشياء أخرى مثل الحب والموت والأنا والآخر والأنا وأناه الثاني أيضا .
ولكن قاريء " رجل يشبهني " سرعان ما يجد نفسه متورطا مع روايات أخرى سابقة لها غير " اسمي آدم " و " نجمة البحر " مثل " باب الشمس " ١٩٩٨ التي يرد ذكرها مرات عديدة وأكثر من ذلك تحضر بعض شخصياتها مثل خليل أيوب لتصبح إحدى الشخصيات الفاعلة والرئيسة في " رجل يشبهني " ، فنعيش معها سنوات عمرها وقد عادت إلى أريحا وحلحول ونابلس لتستشهد في حصار الأخيرة في ربيع ٢٠٠٢ .
وإذا كنا نعد تناص " رجل يشبهني " تناصا ذاتيا ظاهريا تفصح عنه الرواية مباشرة ، وإذا عرفنا من الكاتب أنها الجزء الثالث من " أولاد الغيتو " ، وهو ما أدرجه الناشر على صفحة الغلاف ، فإن القاريء المدقق الذي لم تغب عنه روايات إلياس السابقة يستحضر ثلاث روايات أخر هي " الوجوه البيضاء " ١٩٨١ و " مملكة الغرباء " ١٩٩٣ و" سينالكول " ٢٠١٢ .
يستحضر الأولى وهو يتتبع صورة الفدائي الفلسطيني في ٦٠ القرن ٢٠ وما آل إليه ، إذ يغدو خليل أيوب فدائيا شبيها بفدائيي الستينيات ، ويغدو بعض أفراد الأمن الوقائي في السلطة مثل بعض قادة فدائيي السبعينيات في بيروت يسعون وراء الوظيفة والراتب وأسرى الامتيازات .
ويستحضر الثانية " مملكة الغرباء " وهو يقرأ عن غربة آدم ومنفاه المزدوج ؛ في فلسطين ونيويورك ، ويستحضرها وهو يقرأ عن مركز الأبحاث الفلسطيني والدكتور أنيس صايغ وصرامته وما ألم بالمركز الذي تعرض للقصف الإسرائيلي .
تماما كما يستحضر " سينالكول " وهو يقرأ عن سليم العشي والمذهب الداهشي الذي أسسه في لبنان .
حقا إن التناص مع " باب الشمس " هو الظاهر والأبرز والأكثر سطوعا ولفتا للنظر ، إلا أنه ليس الوحيد .
ماذا يقول لنا ما سبق ؟
في كتابتي عن " اسمي آدم " و " نجمة البحر " توقفت أمام الكاتب والمؤلف الضمني والشخصية وذهبت إلى أن هناك تقاطعات بينهم ، وأنهم أحيانا كثيرة ، وفي كثير من ثقافتهم وموقفهم من الأدب والفن والخيال والأسطرة وحفظ الموروث الشعري ... إلخ ، يصدرون عن شخص واحد هو إلياس خوري .
هل أخطأ أصحاب المنهج الوضعي حين آمنوا بمقولة وحدة الأديب وأدبه ؟
مساء الخير
خربشات أدبية
١ / ١ / ٢٠٢٣

***

3- من يشبه من ؟

{ سألني الأستاذ ياسر جوابرة أمس Yaser Jawabreh " رجل يشبه من ؟ فأجبته : انتظر } .
دال العنوان :
" رجل يشبهني " هو عنوان فرعي للعنوان الرئيس " أولاد الغيتو " ، والعنوان الرئيس يتكون من مكونين ؛ شخصي " أولاد " ومكاني " الغيتو " ويتمثل الأول في آدم وبقية الشخوص الذين نشأوا في الغيتو ، والثاني الغيتو ؛ غيتو اللد وغيتو وارسو والغيتوات التي يرد ذكرها في الثلاثية .
أما بخصوص العناوين الفرعية " اسمي آدم ونجمة البحر ورجل يشبهني فتتكون من دوال تدل على بشر " آدم ورجل " وأماكن " نجمة والبحر .
أول سؤال يمكن إثارته هو من هو صاحب العبارة المدرجة على صفحة الغلاف :
- هل هو الكاتب أم هو المؤلف الضمني ؟
والمؤلف الضمني هنا هو آدم صاحب الدفاتر التي آلت إلى سارانغ لي الطالبة الكورية ومن ثم إلى أستاذها إلياس خوري الذي درسها في جامعة نيويورك .
ونفترض أن واضع العنوان هو إلياس خوري الكاتب الحقيقي للثلاثية ، ولكن يجب أن نشير ، ابتداء ، إلى أن هناك تقاطعات كثيرة جدا بين إلياس وآدم فيما يخص الاهتمام بالأدب والتنظير له والواقع والخيال وعلاقتهما ببعض وصلتهما بالقضية الفلسطينية وإقامتهما في نيويورك وصلتهما بالأدب الإسرائيلي و ... و ... .
إن أخذنا بالافتراضات والمعطيات السابقة فإن آدم يشبه إلياس كما يرى الأخير .
غير أن العبارة " رجل يشبهني " ترد في دفاتر آدم الافتراضية التي يكتبها والتي آلت إلى إلياس ، وهي ترد في مواطن عديدة غالبا على لسانه وأحيانا قليلة على لسان غيره ، ومن الأحيان القليلة ما ورد على لسان خضر جرار الذي زار مطعم ( بالم تري ) والتقى بآدم وتحدث معه وأخبره قصته وسأله إن كان يتذكر صورة الطفل الذي كسر له الجنود الإسرائيليون عظام يده " هذا الطفل يشبهني " . وفي " الكتاب الأزرق " لعودة الرنتيسي الذي طرد من اللد وهو في الثانية عشرة كتابة عن طفل لقيط في العام ١٩٤٨ . إن هذا الطفل اللقيط يشبه آدم ، فقصتهما متشابهة ، ما يدفع آدم حين يقرأ الكتاب وقصة الطفل فيه يتساءل إن كان عودة كان يكنب عن آدم نفسه .
ويستطيع المرء أن يحصي المواطن التي وردت في المتن وتكررت فيها عبارة يشبهني ، ليربط بينها وبين العنوان ، وعلى العموم يظل الباحث عن مدلول العنوان يبحث عنه حتى الصفحة ما قبل الأخيرة من الرواية ٤٩٨ .
يوصل السائق آدم إلى مكان سكنه وحين يهبط يأتي شاب لينهضه ويشير له إلى بيته :
" في تلك اللحظة ظهر الشاب الذي يشبه أبي ويشبهني وأمسكني بيدي وأنهضني عن الأرض وقادني إلى مدخل المبنى " .
غير أن التأويلات السابقة هي أضعف التأويلات لدال العنوان ، وهناك قصص أكثر قوة كقصة التشابه بين راشد حسين وآدم وقصة التشابه بين فياض وآدم ثم هناك موقف آدم من فكرة تغيره كل عشر سنوات أو كلما أراد أن يبدأ بداية جديدة ، فهنا يصبح شخصا مختلفا ويغدو شبيها بالشخص الذي كانه من قبل . " لقد كررت بداياتي ونهاياتي عدة مرات ، وفي كل مرة كنت أخلع الإنسان العتيق وألبس إنسانا جديدا ، وكلما تيقنت من بداية أكتشف أنها صارت نهاية ، إلى أن وصلت إلى لحظة الحيرة أنني أعيشها وحيدا مع شبح رجل يشبهني ".
في بداية الرواية يقص آدم عن منام مر به يذهب فيه إلى مكتبة تقع في الشارع ١٣ بحثا عن " الكتاب الأزرق " وهناك يقف رجل في مواجهته " رجل شاب يشبه صورة أبي " ويشبه أيضا آدم حين كان في العشرينيات من عمره ، وهنا نقرأ " أنا لا أشبه أبي ولكن هذا الرجل الذي يشبهني يشبه أبي " .
في صفحة ١٢٣ نقرأ عبارة مهمة :
" هل هو شبيهي أم عدوي ؟
أراد هذا الرجل أن يشدني إلى الماضي ، وطلب مني أن أعيش ما تبقى لي من حياة وسط الماضي " ، وقد عاش آدم وسط الماضي ومثله من قبل الشاعر راشد حسين الذي لم يكن يرى سوى حيفا ، فلم تنسه إياها مدينة نيويورك . لقد أمضى عمره هناك يصرف ما تبقى له من سنوات ليكتشف أن ما كتبه وكتب عنه يشبهه لكنه ليس هو .
حكاية راشد هي مرآة آدم الثالثة عثر عليها عن طريق المنام ، فهو لم يلتق أصلا براشد الذي مات في نيويورك في العام ١٩٧٧ ، وآدم أيضا مات في نيويورك في آذار ٢٠٠٧ .
هنا يمكن الإشارة ثانية إلى الذات المنشطرة في داخل آدم ، كما لو أنه نصفان يبحث نصفه الحاضر عن نصفه الغائب .
وأعود إلى قصة فياض .
يذهب آدم بعد وفاة أمه ، بعد أن يقص قصة ثوب أمه على مسمع دالية ، يذهب إلى عيلبون ليحضر من بيت خاله ثوبها ، فيطرده خاله الذي يكون يلعب النرد مع فياض . يلحق فياض بآدم ويتحدثان والحكاية تجر الحكاية ، وإذا بفياض مر وأمه في ١٩٤٨ بما مر به آدم وأمه . لقد فقد أيضا أباه وربته أمه .
" اسمع يا فياض . أستطيع أنا آدم ابن منال وحسن أن أقول لك إنك لست نسيبي فقط ، بل أنت أخي وتوأمي ، لأنك مثلي كنت ابنا لشجرة الزيتون " .
في الكتابة عن شياطين الشعر في الشعر العربي نقرأ عن الشاعر وشيطانه ، إذ اعتقد العرب أن لكل شاعر شيطانا ، وهذا الشيطان شخص آخر يعيش في داخل الشاعر يوحي له ما يقول وكأن الشاعر لا شيء . فبعد ٥٠ سنة يكتشف آدم بأنه ليس هو ، وقد حرره هذا الاكتشاف من ذاته وجعل منه لا أحد " مجرد شاهد على حياة رجل يشبهني ، لكنه ليس سوى ظل لرجل اختفى في رحلة التاريخ وأوحال المذبحة " .
وعموما فنحن في الرواية لسنا أمام شخوص يتشابهون شكلا أو شخوص تتشابه تجربتهم ، وإنما نحن أمام حكايات تتشابه ، والحكاية تجر الحكاية وما حدث في اللد حدث في قرية عيلبون وحدث أيضا في قرية أبو شوشة . هكذا نفهم العنوان جيدا .
مساء الخير .
خربشات أدبية
٢ / ١ / ٢٠٢٣

***

4- { فانتازيا المؤلف ... فانتازيا القاريء }

خطر ببالي وأنا أقرأ الرواية السؤال الذي وجهته إلي فتاة ألمانية تعرفت إليها في مدينة ( توبنغن ) الألمانية :
- من أنت بالضبط ؟
ويومها أهدتني رواية ( Uwe Johnson )
" Mutmassungen ueber Jakob "
- أي " تخمينات حول يعقوب " وكأنها تقصد " تخمينات حول عادل " .
وقد أسهم في الموضوع إهداء إلياس خوري روايته " إلى ماهر جرار " الذي التقيت به مرة واحدة بصحبة الدكتور محمود عطا الله في المدينة الألمانية المذكورة ، وأظن أنه كان يعرف الفتاة الألمانية . لقد أوردت سؤال ( أندريا ) لي في نص " ليل الضفة الطويل " ١٩٩٣ .
وكما أن الكاتب لجأ إلى الخيال في بناء روايته ، والمؤلف الضمني آدم دنون ، وهو قناع إلياس ، يقر بذلك ، فلماذا لا ألجأ أنا أيضا إلى المخيلة في قراءة الرواية وأرى في علاقة دالية بآدم شيئا من علاقتي ب ( أندريا)؟
قبل مدخل الرواية الذي احتوى على صيغة السؤال :
"- من أنت "
وبعد الإهداء ، يصدر الكاتب روايته ببيت شعر للمتنبي مع بعض تصرف فيه يقر به . بيت الشعر هو :
" وهكذا كنت في أهلي وفي وطني
إن النفيس غريب حيثما كانا "
ويستبدل إلياس الغريب بالنفيس ، ويغدو البيت :
" وهكذا كنت في أهلي وفي وطني
إن الغريب غريب حيثما كانا "
والرواية كلها عموما تكتب عن غربة الفلسطيني ممثلا هنا في غربة آدم دنون وراشد حسين معا ؛ غربة الشخصية الروائية المتخيلة وغربة الشخصية الروائية الحقيقية أيضا ، وقد تمحورت رواية إلياس " مملكة الغرباء " من ألفها إلى يائها حول غربة الإنسان منذ المسيح عليه السلام ؛ غربة اللبناني وغربة الأرمني وغربة الفلسطيني وغربة اليهودي أيضا ، وقبل ذلك كله غربة المسيح .
" من أنت ؟"
تسأل دالية التي أحبها آدم عشر سنوات ثم افترقا ، والسؤال هو :
- لماذا سألته ؟
الإجابة نقرأها في الصفحة ١٩ .
" قالت دالية إنها لا تعرفني على حقيقتي ، لأني أمزج الحقيقة بالخيال والمزاح بالجد والحزن بالفرح . أضحك حين تتوقع مني أن أبكي ، وأشعر بالحزن حين تتوقع مني أن أفرح " .
وكان آدم في الصفحتين السابقتين أخبرنا شيئا عن حقيقته . إنه ليس بطلا . إنه مجرد عابر اصطدم بمأساة هبطت عليه لحظة موته ، أو ما كان يجب أن يكون موتا لكنه لم يكن .
آدم دنون وحكايته يلخصان " مسيرة الموت التي خاضها سكان اللد بعد طردهم من مدينتهم ، تحت شمس رصاصية لا ترحم ، بل هي تلخص الحكاية الفلسطينية كلها ، إنها رمز إنساني شامل " .
لقد أراد آدم أن يعيش " من دون ذلك الشعور بأن علي أن أكون بطلا أو أن أتصرف كالأبطال " فهو والحق يقال كما يقول يكره الأبطال " فالبطولة ملأى بالسذاجة وثقل الدم " وهو يحب أن يمزح ويلعب بالكلمات ويتهكم على نفسه وعلى الآخرين . ولا تخلو دفاتره من تلاعب بالكلمات نلحظه في بعض الاشتقاقات والتحويرات مثل " غوغلت " من البحث في محرك البحث ( غوغل ) و " تبرنشت " من المفردة التي يستحدمها الأمريكييون لوجبة الإفطار المتأخرة التي تغني عن وجبة الغداء " برانش " .
ويبدو اللعب على الأسماء واضحا في الصفحة ٢٩ ، ففي حديثه عن الحروب والملك سرجون أو سركون يذكر الشاعر العراقي سركون بولس صاحب ديوان " الوصول إلى مدينة أين " .
وماذا يريد مما سبق ؟
إنه يسخر من الدولة الإسرائيلية ، فلن يبقى منها في سجل التاريخ إلا سطر واحد مثلها مثل القائد سركون .
ويخيل إلي أن إلياس خوري يلجأ إلى اللعب في الرواية ، وليس هذا بجديد في نصوصه ، وربما تذكر المرء هنا رواية " يالو " واللعب فيها ، وعموما فإن في " رجل يشبهني " ما يذكر أيضا ب " يالو " وهو أن يبدأ الكتابة من الأول.
كلما كتب يالو التقرير الذي طلبه منه المحقق يمزقه الأخير ويطلب منه أن يكتب حكايته من جديد ، وفي " رجل يشبهني " نقرأ :
" أمرني رجل يشبهني بأن أكتب كل شيء من الأول ، وعندما عجزت عن ذلك ، قام هو بكتابة ما يشاء . الخط خطي ، واللغة لغتي . أنا من كتب من دون أن أكتب . هل يعني هذا أن علي أن أعيد كتابة كل شيء ، أم أكتفي بكتابة نهاية الحكاية؟"
في " رجل يشبهني " من الخيال الكثير ، فهل تبدو كتابتي هذه نشازا ، وفي " رجل يشبهني " تهيؤات وهلوسات ومنامات ، فليتقبل إلياس خوري مني هذه الكتابة !!
خربشات أدبية
٣ / ١ / ٢٠٢٣

***

6 - { تكرار السؤال : من أنت ؟ تكرار التجربة ... تكرار الحكاية}

يعد سؤال الهوية أحد أهم أسئلة " أولاد الغيتو " بأجزائها الثلاثة . إنه السؤال الذي تصدر الجزء الأول وظل يتكرر في الجزئين اللاحقين بصيغ متعددة " من أنا ؟ من أنت يا آرنا ؟ من أنت ؟ من أنتم ؟ من هم ؟
وكنت توقفت أمامه في كتابي " أسئلة الرواية العربية : الياس خوري " أولاد الغيتو : اسمي آدم " نموذجا ، وقد أعادني الجزء الثالث إلى الجزء الأول ، وفي الصفحات الأخيرة من " اسمي آدم " كان هناك التباس في تحديد هوية آدم : أهو إسرائيلي أم فلسطيني ؟ " إن الرجل ليس إسرائيليا ، بلى ، إنه يحمل جوازا إسرائيليا ، لكنه فلسطيني ، أعتقد أنه من نواحي اللد ، لكنه يحب الالتباس ، ولا يمانع في أن يعتقد الناس أنه إسرائيلي " " إن هذا الرجل كاذب يدعي أنه إسرائيلي مع عشيقاته ، مع أنه فلسطيني ، وهويته الفلسطينية هذه كانت حجته الكبرى ضد روايتي ، كأنه لا يحق لي أن أكتب عن فلسطين لمجرد أنني لست من أبوين فلسطينيين " .
وكنت توقفت أمام سؤال دالية لآدم : من أنت ؟
تجربة آدم مع دالية تتكرر في نيويورك مع الأمريكية جوديت .
وجوديت امرأة أمريكية بيضاء مطلقة يلتقي بها آدم في الحديقة وهي تتنزه ، وتنشأ بينهما علاقة حب عابر لا تتجاوز الشهر ، إذ سرعان ما تتركه وتذهب .
أراد آدم أن ينسى الماضي ويتحرر منه ، وأراد أيضا أن يعيش في المكان الجديد وأن يكتبه كمن يكتشف عالما جديدا مليئا بالمشاهد الغرائبية ، ولم يكن ذلك ممكنا دون امرأة " يجب أن أعشق امرأة أمريكية ، أمريكية بيضاء بأسنان كبيرة بيضاء ، تأخذني إلى عالمها الأبيض وتجعل حاضري أبيض لا ماضي له " .
في أثناء العلاقة بين جوديت وآدم تسأله إن كان ما يقوله عن كتابة الرواية صحيح أم أنه يكذب ، فيجيبها أنه يعمل في مطعم الفلافل ولكنه يحاول أن يكتب شيئا يشبه الأدب ، وحين يعطيها دفاتره يطلب منها أن تقرأ ، وحين تحتار في شكل اللغة يعلمها أن اللغة التي يكتب فيها هي لغة آدم التي نسيها حين طرده الله من الجنة .
لا تقرأ جوديت وتطلب من آدم أن يقرأ لها فهي تحب أن تستمع إلى إيقاع اللغة العبرية . هنا يصرخ آدم بأن اللغة التي يكتب فيها هي العربية ، فآدم عليه السلام كان يتكلم في جنة عدن العربية .
" أنت تكتب بالعربية ؟"
" نعم ، هذه لغتي التي لم أضيعها ، ضعت في أزقة العمر ، لكن لغتي لم تضع : .
" أنت ... "
" أنا عربي ، أنا فلسطيني ، أكتب حكايتي بلغتي "
" عربي "! قالت بصوت مرتجف .
" نعم نعم ، عربي فلسطيني ، هذا أنا ، تريدين ان تعرفي كل شيء ، الآن عرفت " .
.....
......
" هل أنت مسلم ؟" قالت ، " يا إلهي " .
تتغير مشاعر جوديت وتقول لآدم :
" لكنني أكرهك ، لماذا قلت لي إنك إسرائيلي ؟" .
وهنا يرد عليها :
" كذبت عليك ، لا لم أكذب عليك بل كذبت على نفسي ، لا لم أكذب على الإطلاق ، فأنا إسرائيلي أيضا "
وحين لم تفهم الأمر يوضحه لها :
" إسرائيلي حاضر وفلسطيني غائب ، أو العكس ، لا أعرف " .
ونظرت إليه وهي ترتجف ، فأكمل :
" اسمعي يا حبيبتي ، أنا أحبك ، لكنني عربي وفلسطيني ومسلم ومسبحي وملحد ، هذا أنا ، تعبت من لعبتي القديمة "
تستغرب جوديت ما سمعت ولا يروق لها فتخاف أكثر ، وهنا يعلمها آدم أن اسمه الآن آدم لكنه ليس متأكدا من اسمه الحقيقي ، وكنا عرفنا أن مأمون الأعمى التقط الطفل عن صدر أمه الميتة وأسماه آدم ، ولم نعرف الاسم الذي أطلقه والداه عليه ، وهنا يطلب منها أن تجيبه إن كانت على استعداد لتواصل علاقتها معه ، ويصر أنه لا يحب أن يموت إلا كفلسطيني ، وهذا ما لا يروق لها ، ويتظاهر آدم بالنوم فتنهض من السرير وتذهب إلى الحمام وتستحم وتلبس ثيابها وتغادر على رؤوس أصابعها وتقطع علاقتها معه .
" من أنت ؟"
هذا جزء من السؤال ويبقى الجزء الثاني " من أنتم ؟"
{ ورحم الله العقيد معمر القذافي فحين تفجرت الثورة الليبية على حكمه وجه سؤاله للثائرين :
- من أنتم ؟ }
{ وآخر ثلاثة أسطر لا صلة لها بالرواية فهي من باب التمليح في الكتابة ويمكن شطبها لاحقا } .
Adel Osta Khoury Elias
مساء الخير
خربشات أدبية
٤ / ١ / ٢٠٢٣
-
***

{ الفلسطيني اليهودي ، اليهودي الفلسطيني }
6 : جوليانو خميس وسؤال الهوية : من أنت ؟

لا يوجه سؤال : من أنت ؟ إلى آدم دنون الذي عثر عليه على صدر أمه تحت شجرة الزيتون والتقطه مأمون الأعمى وسماه آدم وربته منال فصارت أمه ، لا يوجه إلى آدم وحسب ؟ إنه يوجه إلى أشخاص آخرين أيضا ومنهم جوليانو خميس ابن العربي الفلسطيني صليبا خميس واليهودية القادم أبوها من لاتفيا ( آرنا ) .
ما هي هوية الفلسطيني الذي يولد من زواج مختلط ينتمي الزوجان فيه إلى قوميتين مختلفتين متصارعتين ؟
ثمة روايات فلسطينية قاربت هذا الموضوع كنت توقفت أمامها منها رواية الأسير كميل أبو حنيش " مريام .. مريام " ( ٢٠٢٠ ) ورواية راوية بربارة " شواطيء الترحال " ( ٢٠١٥ ) . { هنا يمكن التذكير برواية سلمان ناطور " أنت القاتل يا شيخ " التي كتبها في ٧٠ القرن ٢٠ عن قتل الدرزي للدرزي لانتماء كل منهما إلى طرف من أطراف الصراع . يخدم الدرزي الفلسطيني في الجيش الإسرائيلي ويخدم الدرزي السوري في جيش بلاده وفي الحرب يتواجهان عدوين } .
ولعل من الصفحات الجميلة في رواية " رجل يشبهني " تلك الصفحات التي تأتي على قصة جوليانو خميس وأمه آرنا وحياتها وتحولاتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار . من قيادتها سيارة القائد ( غاندي ) في ( البالماح ) إلى زواجها من الشيوعي صليبا خميس الذي أنجبت منه ثلاثة أبناء ، وكان إلياس خوري كتب عنها مقالا طويلا في مجلة الدراسات الفلسطينية نشره في عدد خريف ٢٠١١ ، وما ورد في الرواية يطابق ما ورد في المقال .
كيف ينظر إلى جوليانو ؟ هل هو فلسطيني بحكم الأب أم أنه يهودي بحكم الأم والديانة اليهودية ؟
يخدم جوليانو في الجيش الإسرائيلي ، فهو حسب الديانة اليهودية يهودي ، وذات نهار توقف الدورية التي يخدم فيها عمه القادم من الناصرة إلى جنين ليعالج أسنانه .
يخجل جوليانو من الموقف ومن تفتيش عمه وسؤاله عن هويته ، فيدير وجهه ويتهرب من مسؤوليته ، وحين يأمره الضابط ( داني ) أن ينفذ التعليمات يضربه جوليانو فيسجن .
كان آدم دنون قرأ قصة صليبا خميس وزوجته وأبنائه الثلاثة في رواية الكاتب العراقي كمال صلاح / سمير مارد / سامي ميخائيل " ملجأ " ، ولكنه لم يلتق بجوليانو ، وتم اللقاء لاحقا في نيويورك حين ذهب جوليانو ليعرض فيلمه " أولاد آرنا " عن أطفال مسرح الحرية في جنين ؛ المسرح الذي أسسته أمه . وهناك يتحاوران ويقود الحوار إلى سؤال هوية جوليانو الذي يجيب آدم حين يسأله " وهلق إنت إيش ؟" يجيبه بالآتي :
" أنا عربي فلسطيني مئة بالمئة ويهودي مئة بالمئة " .
وفي صفحات لاحقة يواصل جوليانو سرد مأساته :
" أمي كانت اليهودية المضطهدة [ اسم مفعول ] التي شعرت بأن عقدة المضطهد [ اسم مفعول ] التي تعانيها كيهودية امتزجت بعقدة المضطهد [ اسم فاعل ] التي تعانيه كإسرائيلية .
والله يا أخي تعبت من صفة العربي التي لاحقتني وجعلتني أشعر بأنني غريب في بلادي ، فقررت أنني يهودي لأن أمي يهودية ، وتطوعت كمجند في جيش الدفاع الإسرائيلي ، والتحقت بإحدى فرق النخبة ، أي المظليين " .
يسجن جوليانو إذن لأنه خجل من سؤال عمه على الحاجز عن هويته ثم يخرج ويقول حول تجربته :
" دخلت إلى السجن يهوديا وخرجت منه عربيا " .
يحكي آدم عن الفرق بينه وبين جوليانو الآتي :
" جوليانو عكسي تماما ، فهو فلسطيني حقيقي ويهودي حقيقي ، أما أنا فاخترت أن اجعل من حيرتي هويتي . ادعيت أنني يهودي كما ادعيت أنني فلسطيني ، وفي الحالين كنت في اللامكان . أما هو فكان في المكانين ، سجن وأدخل إلى مستشفى للأمراض العقلية العصبية ، لأن الفلسطيني الذي فيه ضرب ضابطا إسرائيليا بكعب بندقيته " .
وربما كان الكاتب الإسرائيلي ( يورام كانيوك ) في روايته " عربي جيد " أول من ناقش هذه الإشكالية ، وقد توقفت أمامها في كتابي " أسئلة الرواية العربية " ٢٠١٨ .
جوليانو ابن الفلسطيني سجنه قوم أمه اليهودية - أي الدولة الإسرائيلية ، وقتله قوم أبيه الفلسطيني في مخيم جنين ، هذا إن كان القاتل فلسطينيا !! .
خربشات أدبية
٥ / ١ / ٢٠٢٢

***

7- من أنت ؟ من أنا ؟ من أنتم ؟

في مدخل الرواية لاحظنا أن الروائي أتبع كلمة " مدخل " بالسؤال :
" من أنت ؟ "
وسنلحظ أنه بعد العنوان " المرايا المتقاطعة " في صفحة ١٢١ يبدأ الكتابة بالسؤال " من أنتم ؟ " .
هل تبادر ال " أنت " بسؤال من سألوها ، فترد على السؤال بسؤال ؟
هل لما سبق علاقة بإنكار ال " أنتم " وجود ال " أنت " ؟
لا يوجد شعب اسمه الشعب الفلسطيني . هذا ما قاله بعض المسؤولين الإسرائيليين . إنهم لا يعترفون بوجود شعب على أرض فلسطين ؛ لأن اعترافهم ينقض الفكرة التي بنوا مشروعهم عليها " أرض بلا شعب ، لشعب بلا أرض " .
ربما فيما سبق بعض شطط لا تقوله الرواية ، وربما هو إسقاط القاريء لكثرة ما قرأ في الموضوع .
غير أن الضمائر في الرواية تتكرر بكثرة : الأنا والأنا المنشطرة عنها والأنا وشيطانها = المثنى ، والهم " الآخرون هم الجحيم " والأنا المتكلم الذكر والأنت المتكلم الأنثى والنحن والأنتم .
في الصفحة ٥٠ استحضار لمقولة ( جان بول سارتر ) " الجحيم هم الآخرون " ونقض لها . يكره آدم تعبير سارتر ويرى الفليسلسوف مخطئا ، فالجحيم هو غياب الآخرين ، والحياة هي الآخرون ويتجادلان حول ال " هم " الذين يختلفون عن بعضهم والذين هم وجوهنا الأخرى وقد يكونون مرآتنا التي لا نريد أن نراها . وسيكتشف آدم بمرور الأيام " أن الآخرين الأقرب إلى قلبي وحياتي صاروا جحيمي " ( ٥١ ) . هل آباؤه الثلاثة الذين اخترعهم صاروا جحيمه ؟
في حواره مع دالية عن عذابات الفلسطينيين التي سببها لهم المشروع الصهيوني تتحدث عن العذابات التي يعاني منها الشباب الإسرائيليون الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي .
كان آدم ودالية ظنا أن الحب وحدهما فصارا أنا واحدة لا شخصين اثنين ، ولما أتيا على سيرة داني الجندي الذي قتل وانتحار صديقه الجندي عساف / آساف يحتد الجدل بينهما وتصرخ في وجهه :" توقف عن هذا الهراء ، هذا انتحار سياسي !" .
يسأل آدم دالية :
"- شو يعني ؟ "
فترد :
" يعني هذا احتجاج . أنت لا تعرف شيئا عن معاناة جنودنا بسببكم ؟"
وهنا يسألها :
" من أنتم ومن نحن ؟"
فترد :
" هؤلاء الشبان الصغار يؤخذون إلى الموت من دون أن يعرفوا لماذا يموتون " .
" المعاناة ليست بسببنا إذا ، بل بسببكم أنتم ".
فتسأله :
" شو هالحكي ؟ من نحن ومن أنتم ؟ "
فيجيب :
" سألتك هذا السؤال ولم تجاوبي ، فأنت استعملت هذه الضمائر أولا ، وهذا ما أذهلني . كنت أعتقد أننا - أي أنت وأنا - كسرنا هذا التقسيم ودخلنا في مكان آخر " .
ثمة حديث متواصل بين آدم ودالية يظل لضمائر نحن أنتم أنتم هم حضور فيه ، وحين يتأزم الحديث وتغضب يعتذر ويتظاهر بأنه كان يمزح وأن مزاحه لم يكن في مكانه . ومع ذلك يظل الحديث عن الإسرائيليين والفلسطينيين كطرفين .
إن مرايا آدم المتعددة التي يظهرها لدالية : إسرائيلي يهودي يتعاطف مع عساف / آساف لأنه إنسان وليس جنديا إسرائيليا ، وكونه أيضا فلسطينيا تفرض عليه في النهاية الافتراق عنها ، واللقاء الذي يتخيله معها في نيويورك في نهاية الرواية لا يتحقق . ( في الجزء الثاني " نجمة البحر " يزور آدم غيتو وارسو ويتخيل نفسه صار يهوديا ليفهم معاناة اليهود ) .
إن الضمائر في الرواية وإشكالاتها ليست بأقل تعقيدا من تعقيدات سؤال الهوية ، وكلا الأمرين يشكل محورا يظل يتكرر في الجزء الثالث تكرارا لافتا . إن الضمائر شكلت مفاتيح لأجزاء من الرواية حضرت في المتن ، وقد يذكرنا هذا بقصائد محمود درويش " سجل أنا عربي " - أنا أنت و" عابرون في كلام عابر " - نحن أنتم - و" قال المسافر للمسافر " - أأنا أنا ؟ .. في كل " أنت " أنا ، أنا أنت المخاطب ، ليس منفى أن أكونك . ليس منفى أن تكون أناي أنت .... .وهلم جرا.
وعموما فإن الكتابة - اللعب فكرة تكمن عميقا في وعي إلياس خوري وتتطلب من يتابعها ويقتفي أثرها في أعماله ابتداء من " باب الشمس " ومرورا ب " يالو " وانتهاء ب " رجل يشبهني " .
خربشات أدبية
٦ / ١ / ٢٠٢٣

***

8- { دفاتر آدم ... دفاتر إلياس }

آدم دنون ابن شجرة الزيتون ، إذ لا يعرف من هو أبوه ولا تعرف أيضا أمه الحقيقية ؛ لأنها ماتت في يوم تهجير أهل اللد وطردهم في عام النكبة ١٩٤٨ ، آدم الذي التقطه مأمون الأعمى وربته منال يدرس كما لاحظنا في " نجمة البحر " في جامعة حيفا ويغدو كاتب مقال أسبوعي ، حول الموسيقى ، في صحيفة إسرائيلية عبرية ، ويقيم فترة في تل أبيب فيثقف نفسه ويقرأ ، وحين يهاجر إلى نيويورك ويعمل في مطعم ( بالم تري ) مع شريكه الإسرائيلي ناحوم هيشرمان ، يبدأ يكتب عن تجربته التي عاش بها ، ويظل سؤال الهوية والأدب يلازمه ، يكتب في دفاتر خاصة ستصل ، بعد موته ، كما لاحظنا مرارا ، إلى إلياس خوري عن طريق طالبته الكورية ( سارانغ لي ) التي تكتمل شخصيتها الروائية وتتضح أكثر في " رجل يشبهني " . لقد ظهرت ( سارانغ لي ) في " اسمي آدم " ثم سافرت إلى لندن لتكمل دراستها وتعود إلى نيويورك وتزور أستاذها اللبناني وتعلمه عن مشروعها في الزواج ومآل علاقتها بآدم الذي مات في نهاية " رجل يشبهني " وآلت دفاتره إليها فسلمتها بدورها إلى إلياس خوري ، وعليها بنى ثلاثيته . ( يرد ذكر تسليم سارانغ لي الدفاتر لإلياس خوري في مقدمة الجزء الأول " أسمي آدم "( صفحة ١٣ ) وتتكرر الكتابة عن الدفاتر وعلاقة سارانغ لي بها في الصفحة الأخيرة من " رجل يشبهني " ( صفحة ٥٠٠ ) ، )
ما سبق يعيد القاريء إلى المقولة النقدية التي تميز بين الكاتب والمؤلف الضمني والشخصية ؛ وكنت كتبت عنها في " أسئلة الرواية العربية : الياس خوري في روايته " أولاد الغيتو : اسمي آدم " .
نحن إذن أمام دفاتر آدم وقد غدت بين يدي الروائي والناقد والأستاذ الجامعي والكاتب الصحفي إلياس خوري .
في الجزء الأول " أخبر إلياس قراءه عما قام به . كأنه أعاد نشر الدفاتر مع تغييرات طفيفة ، وعليه كأننا نقرأ نحن دفاتر آدم ، فنقرأ عنه وكأن لا صلة لإلياس بآدم إلا إن كان آدم نموذجا لأشخاص تشابهت تجربته مع تجربتهم أو تقاطعت معها . هنا يصبح آدم نموذجا لكل أولئك الذين يشبهونه أو تتقاطع تجربتهم مع تجربته : سعيد .س في رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " ١٩٦٩ والطفل الذي كتب عنه عودة الرنتيسي في كتابه عن تجربة الخروج من اللد وكان هو نفسه أحد ضجاياها ، إذ كان يومها في الثانية عشرة من عمره ، ومن المؤكد أن هناك تقاطعات أيضا بين تجربة آدم وتجربة الشاعر راشد حسين الذي مات في نيويورك في شباط ١٩٧٧ .
" كانت ايما بوفاري تمثل نفسها وتمثل في الوقت نفسه كل امرأة تتطلع إلى ما تطلعت إليه ايما . إن ايما نموذج لها ولطبقتها " يقول النقد الماركسي . وهكذا يمكن أن يكون آدم نموذجا للأطفال الفلسطينيين الذين عاشوا النكبة وتقاطعت تجربته مع تجربتهم .
كيف إذن يمكن أن نرى في دفاتر آدم دفاتر إلياس ونوحد بين الاثنين والياس ولد في بيروت ؟
إن التقاطعات بين الاثنين تكمن في أنهما من جيل واحد ، فهما من مواليد العام نفسه ، وهو العام ١٩٤٨ ، وتكمن في أنهما مثقفان وأنهما أقاما في نيويورك ولهما اهتمامات بالقضية الفلسطينية والأدب والفن ويؤرقهما سؤال الهوية وأسئلة أخرى عديدة ، وقد انعكس ما سبق في دفاتر آدم وكتابات إلياس خوري في مقالاته ودراساته ورواياته السابقة .
في " رجل يشبهني " كتابة ومناقشة لفكرة العرب عن شياطين الشعراء الذين يوحون لهم بما يكتبون ، كأن الشيطان هو آخر الشاعر ، وكأن آدم هنا آخر إلياس أو العكس - أعني أن إلياس هو آخر آدم . وبما أن الرواية تحفل بمناقشة دور الخيال في الأدب ، فيمكن القول إن إلياس خوري هو من اخترع شخصية آدم من خلال قراءاته لروايات كثيرة ولكتب مذكرات فلسطينيين كتبوا عن اللجوء ، وقد أقر إلياس بأن روايته ما كان لها أن تنجز لولا ذلك ولولا مساعدات عشرات الشخوص له .
يستطيع قاريء إلياس خوري أن يعود إلى كتاباته قبل صدور الرواية ليقرأها من جديد وليجري موازنة بين ما ورد فيها وما ورد في الرواية ، وقد أشرت إلى هذا في قراءة سابقة حين أتيت على قصة جوليانو خميس .
إن إجراء موازنة بين ما ورد في دفاتر آدم وما ورد في إحدى افتتاحيات إلياس لمجلة الدراسات الفلسطينية في العام ٢٠١١ تقول لنا إن افتتاحية إلياس هي إحدى دفاتر آدم التي شكلت مادة كتابة ثلاثية " أولاد الغيتو".
كان الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا يوزع أفكاره على شخصياته . هل يمكن القول إن إلياس فعل هذا أيضا ؟
الموضوع يحتاج إلى متابعة .
خربشات أدبية
٨ / ١ / ٢٠٢٣


***

9- { جبرا إبراهيم جبرا وإلياس خوري وتوزيع أفكار الكاتب على شخوصه }

أنهيت الكتابة السابقة بالسؤال إن كان إلياس خوري ينهج نهج جبرا في توزيع أفكاره على شخصياته ، ولجبرا ولروايته " السفينة " حضور في " رجل يشبهني " ، فما لم يحققه وديع عساف من العودة إلى حلحول ، وهو ما كان يحلم به ، تحقق بعودة خليل أيوب أحد شخصيات رواية " باب الشمس " حيث أقام هناك في حلحول وعاش على أرض فلسطين و " تحلحل " بعد أن تزوج من امرأة من حلحول . لقد كان خليل معجبا بجبرا وعده مثله الأدبي الأعلى وقال إنه مسحور بقدرته على مزج الاستعارات الأدبية بثقافة موسوعية .
كان في شخصيات جبرا شيء منه ، وكان أحيانا يوزع أفكاره عليها فينطقها بما يدور في ذهنه هو ، وكان أحيانا يحملها أكثر مما تحتمل كأن ينطق طفلا في الثالثة عشرة من عمره بعبارات لا تتناسب وسنه ، فهل أنطق إلياس خوري بعض شخصياته بما يدور أيضا في ذهنه .
ماذا لو عدنا إلى ما كتبه إلياس عن أشعار محمود درويش وحياة راشد حسين في مقالاته ودراساته وقارنا بما ورد ، في الرواية ، في هذا على لسان الأستاذ الجامعي مأمون الأعمى وعلى لسان الكاتب الصحفي آدم دنون ؟
وماذا لو تابعنا رأي آدم في جبرا ورواياته وقارناه بما كتبه إلياس عن جبرا ؟
ويمكن أن نذهب إلى ما أكثر مما سبق فنفحص مستويات اللهجة في الرواية كلها ومدى مطابقتها للهجة الشخصيات الروائية ؟ ، علما بأن إلياس في هذا الجانب سيقول إن الفلسطينيين عاشوا في فلسطين وفي بيروت فصاروا يتحدثون اللهجتين .
فيما بدا لنا من آراء لمأمون في أشعار محمود درويش وما كنا نقرأه من مقالات ودراسات كتبها إلياس نستطيع أن نقول باطمئنان إن آراء مأمون هي آراء إلياس نفسه . المثنى وفجوات الصمت والفواصل واتساعها وتأويلات أسطر درويش في رثاء راشد هي كلها عبارات وتأويلات إلياس خوري وقد جعل مأمون في الرواية ينطق بها .
ومثل ما سبق لهجة آدم ولهجة بعض الشخوص التي تبدو أحيانا مزيجا من اللهجتين اللبنانية والفلسطينية ، وأحيانا تكون مبررة ومقنعة وأحيانا تبدو غير ذلك . لقد تتبعت دال " هيدا " فوجدته يتكرر على لسان شخصيات لم تقم في لبنان ، ولو كانت أقامت لكان هناك مبرر لنطقها . لم يقتصر الأمر على اللهجة اللبنانية بل تجاوزه إلى اللهجات الفلسطينية ، فكانت بعض الشخصيات تنطق بلهجة حيفا " إسا " وهي بعيدة كل البعد عن حيفا .
في الكتابة عن الصلة بين إلياس وجبرا يمكن التوقف أمام الصفحة ٢٠٢ واقتباس الآتي :
" قال خليل إن جبرا هو مثله الأدبي الأعلى ، تحدث عن الأدب الأنيق ، قال إنه مسحور بقدرة هذا المقدسي على مزج الاستعارات الأدبية بثقافة موسوعية . " هل تعرف أنا كنت أتمنى أن أصير كاتبا مثلك ، لكن جبرا كتب بدلا عني ، وهذا يكفي " .
ويخيل إلي أن القسم الأول الذي يثمن أدب جبرا صادر عن إلياس خوري نفسه ، بخلاف القسم الأخير ، فما لم يحققه خليل أيوب حققه إلياس خوري وصار كاتبا يشار إليه وربما تفوق على جبرا .
ويمكن أيضا اقتباس الحوار الآتي بين آدم دنون وخليل أيوب :
" الشعراء الفرسان ، هادي عبارة لجبرا وقت كتب عن إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي " ، قلت .
" عليك نور ، إنت جبراوي زيي "، قال .
" جبراوي وبحب غسان كنفاني "، قلت .
" زي بعضه ، كلهم كتبونا "
" يا بختك " قلت . " .
يضاف إلى ما سبق أن كثيرا من التنظيرات النقدية التي صدرت عن الشخصيات لا تبتعد عن تنظيرات إلياس ، وهي تنظيرات يتكرر قسم منها في روايات غير الثلاثية ومنها :
- اللعب
- المحو
- المنامات وحضورها
- الاستشهاد بالشعر
- طريقة القص : الحكاية تجر الحكاية
- الخيال والحقيقة
- لعبة الاستعارات
- الكتابة من الأول وأول الكتابة
- المثنى ... إلخ .
ومثل الكلمات السابقة تعبير النكبة المستمرة . إنه تعبير يكرره إلياس خوري في كتاباته ونجده يتكرر في الرواية على لسان بعض شخصياته .
إن فكرة الكتابة والمحو تتكرر في " رجل يشبهني " وقد تكررت في " يالو " على الرغم من التباين الثقافي الواسع بين يالو وآدم ، ولعل دارسا ما يتتبعها ويتتبعها في كتابات إلياس خوري خارج نطاق رواياته .
خربشات أدبية
٨ / ١ / ٢٠٢٣

***

10- { جنين ونابلس والمكان الروائي الذي لم يره الروائي : جدل الناقد والروائي }

السؤال الذي أثير حول " أولاد الغيتو : اسمي آدم و نجمة البحر " يثار هنا أيضا وهو :
- ما هي صلة إلياس خوري بالأمكنة التي يكتب عنها ؟
جرت الأحداث الروائية في الجزأين الأولين من الرواية في أماكن متعددة ، منها ما كان وثيق الصلة بالكاتب مثل نيويورك ، ومنها ما كانت صلته المباشرة فيه منعدمة حتى ولو من خلال زيارة عابرة ، و الأماكن الأخيرة شغلت حيزا مكانيا واسعا مثل اللد ويافا وحيفا أيضا ، وتجري الأحداث في " رجل يشبهني " في أماكن يعرفها الكاتب وأخرى صلته العيانية فيها معدومة مثل جنين ونابلس وحلحول .
ويبدو أن السؤال الذي أثير حول الجزأين السابقين ، عن الكاتب وصلته بالمكان الذي يكتب عنه ، لم يفارق مخيلة إلياس خوري وهو يكتب الجزء الثالث ، ففيه نقرأ الآتي على لسان آدم وهو يحاور ( سارانغ لي ) حول الأدب وحول أستاذها إلياس خوري صاحب رواية " باب الشمس " الذي يكتب حكايات " لملمها " من المخيم ويكتب عن شخصيات لا يعرفها :
" أستاذك كتب عن مكان لم يره ، وعن شخصيات لا يعرفها . التقط بعض حكايات المخيم وعبأ بها روحه " .
ولما كنت أحد النقاد الذين جادلوا في هذا الموضوع ، فكتبت عن كتاب كتبوا عن أماكن لا يعرفونها ، معتمدا على مقولات وردت في كتاب محمد يوسف نجم " فن القصة " فقد وجدتني في الفقرة السابقة المقتبسة متجسدا جزئيا في الرواية في شخصية آدم ، وكأن لساني هو من نطق سؤال آدم ، وكأن إلياس خوري في جزئه الثالث يواصل رفضه لمثل هذا الزعم ويرى أن الكاتب يمكن أن يكتب عن أماكن لا يعرفها ؛ أماكن لم يقم فيها ولم يزرها حتى زيارة عابرة .
وأنا أقرأ " رجل يشبهني " كنت أمعن النظر في كيفية جعل الكتابة عن جنين ونابلس وحلحول مقنعة للقاريء . هكذا ترك إلياس خوري إحدى شخصياته القادمة من جنين ومخيمها والمشاركة في أحداث ربيع ٢٠٠٢ ، هكذا تركها تقص عن جنين وما جرى فيها بحضورها ومشاركتها . إن من يروي عن معركة المخيم في نيسان ٢٠٠٢ هو خضر جرار الذي زار مطعم الفلافل ( بالم تري ) والتقى هناك بآدم .
يمكن قول الشيء نفسه عن القص عن نابلس وحلحول أيضا . بل ويمكن القول إن ما ورد عن الحروج من اللد في ١٩٤٨ بدا أيضا مقنعا ، فآدم / إلياس هنا يقتبس من كتاب عودة الرنتيسي الذي وصف تجربته في الخروج من اللد ، وكان عمره يوم خرج ١٢ عاما . لم يعش إلياس تجربة الخروج من اللد ولم يكن شاهدا عليها ، ولكنه اعتمد في سرده على الاقتباس من كتابة من عاش الخروج وكان شاهدا عليه .
هل يعني ما سبق أن آدم ، وأنا هنا ومحمد يوسف نجم من قبلي ، لم نكن محقين فيما نذهب إليه ؟
وأنا أقرأ ما كتب عن نابلس كنت أقرأ بدقة متناهية لأرى إن كنا ؛ آدم ومحمد يوسف نجم وأنا ، محقين في معتقدنا أو مخطئين .
يروي خليل أيوب العائد من لبنان إلى الضفة الغربية إثر اتفاق أوسلو ١٩٩٣ أنه شارك في الدفاع عن نابلس في ٢٠٠٢ - ثمة خطأ تاريخي ناجم عن السهو إذ يرد مرة إن القتال حدث في أيلول لا في نيسان - ويصف خليل المكان الذي نزل فيه ، وهو المقاطعة ، وحين يحدد مكانها غير مرة يقول إنها تقع في شارع فيصل ، والمقاطعة تقع في شارع جمال عبد الناصر لا في شارع فيصل الذي هو امتداد لشارع جمال عبد الناصر . هل يمكن تبرير هذا الخطأ فنيا ؟
ربما يقول لنا إلياس خوري إن خليل أيوب القادم من لبنان والذي استقر في حلحول ذهب إلى نابلس قبل اجتياحها بفترة وجيزة ، وبالتالي فإنه لم يكن يعرف المكان جيدا فخلط بين أسماء الشوارع ولم تسعفه معرفته بالمكان في التحديد الدقيق . ربما!
هل كان آدم محقا في اعتراضه على كتابة إلياس خوري ؟ وهل يكفي خطأ بسيط ليدحض كتابة الرواية التاريخية أو الرواية التي تجري أحداثها في مكان وزمان صلة الروائي بهما منعدمة ؟
لعل ما يستحق أن يكتب عنه بخصوص نابلس هو ما ورد عن الكنافة النابلسية ، ولنؤجل هذا إلى السهرة القادمة .
خربشات أدبية
٩ / ١ / ٢٠٢٣

***

11- الكتابة عن المكان وبشره وطعامه وثيابه :

ترتبط الكتابة عن المكان بالكتابة عن سكانه وعاداتهم وتقاليدهم وطعامهم ولهجتهم وأمثالهم أيضا ، وقد بدا هذا أوضح ما يكون في رواية إلياس خوري " سينالكول " ٢٠١٢ ، وقد جهد أن يكرره في رواياته التي تناولت بيئات أخرى غير البيئة التي ترعرع فيها أو أنفق فيها سنوات عمره ، فهل تحقق له فيها ما أراد تحققه في سينالكول؟
للإجابة عن السؤال السابق لا بد من دراسة للروايات معا وملاحظة كم الصفحات التي ورد فيها كتابة عن الطعام وأنواعه وكذلك تتبع الشخصيات ولهجاتها وتردد الأمثلة على لسانها ، ولا أبالغ إذا قلت إن " سينالكول " في هذا الجانب تبدو متميزة أكثر من غيرها . إن المائدة اللبنانية فيها تبرز أكثر من بروز المائدة الفلسطينية في " أولاد الغيتو " بأجزائها الثلاثة ، وكذلك وصف العادات والتقاليد ، علما بأن رأيي لا يعتمد على دراسة إحصائية وصفية قدر اعتماده على قراءة انطباعية ظلت عالقة بالذاكرة ، ويمكن لطالب ماجستر أو طالب دكتوراه من إثبات هذا الانطباع أو نفيه .
في " رجل يشبهني " يكتب إلياس عن الكنافة النابلسية والفول والفلافل الجنيني ، ويكتب عن العكوب الفلسطيني والحلاوة والزلابية والعنبية وعنب حلحول / الخليل وأشكاله وأنواعه ، ويكتب أيضا عن الزي الفلسطيني ممثلا في الزي التراثي لقرية أبو شوشة وعيلبون ، ويشغل هذا صفحات لا بأس بها من الرواية . كأن دحض الرواية الصهيونية لا يكفي من خلال إثبات أن فلسطين كانت أرضا يسكنها شعب وحسب ، بل إن لهذا الشعب تراثه الفولكلوري وله طعامه و ... و ... .
تحضر الكتابة عن المكان إذن ويحضر أيضا الطعام الخاص بذلك المكان ، وقد خبر إلياس خوري طعام الجليل في مخيمات لبنان التي تردد عليها وجمع من سكانها حكايات لجوئهم وتشردهم والمذابح التي تعرضوا لها في قراهم . لقد قدمت له عائلات اللاجئين المنقوشة الفلسطينية وطبخة المقلوبة والمسخن والمنسف ووجبات أخرى .
في كتابته عن نابلس يكتب إلياس عن الحلوى النابلسية ممثلة في الكنافة والحلاوة والزلابية ، بل ويكتب عن الطقوس الملازمة لتناول هذه الحلوى ؛ الطقوس التي غالبا ما لا تخلو من تندر وغرائبية .
عندما يذهب خليل أيوب ، العائد مع العائدين ، إلى نابلس ، يتناول فيها الكنافة التي لا يعلى عليها . يطلب صحن كنافة ويأكله ببطء وهو واقف لأنه لم يجد كرسيا يجلس عليه :
" والتفت إلى البائع ، وطلب منه أن يعطيه كعكة .
" لأيش الكعكة ؟" سأل البائع متعجبا .
" عشان الكنافة " قال خليل .
" بدك توكل الكنافة بالخبزة ! إنت من وين يا أخ ؟"
" هيك كنا ناكلها ببيروت " قال خليل .
" شو هالحكي ! لا يا حبيبي ، إحنا اخترعنا الكنافة والكنافة بتتاكل لوحدها ، ما بينضاف إلها إشي ، الله يساعدنا على بيروت وأهل بيروت " .
ويخيل إلي أن الذي زود إلياس خوري بالمعلومات السابقة عن نابلس وأكل الكنافة فيها واستغراب البائع النابلسي من طلب خليل الكعكة / الخبزة لأكل الكنافة معها لا يعرف السخرية الشائعة في المدينة حول الموضوع ولا يعرف أيضا أن أكل الكنافة بالخبز معروف في نابلس قبل عودة العائدين في ١٩٩٤ بعقود .
كان أهل نابلس يتندرون على من يأكل الكنافة بالخبز باعتباره فلاحا أو يشبه الفلاحين .
وبعض أهل نابلس ممن زاروا بيروت وأقاموا فيها لا يستغربون أكل الكنافة بالخبز لأنهم جربوها ، وهؤلاء صاروا يسخرون ممن يسخر من الريفيين ، فأهل بيروت فعلوا ذلك قبل أهل الريف .
ليس أكل الكنافة بالخبز هو ما يتندر به أهل نابلس والقرى حول صناعة الكنافة في المدينة ، بل أيضا الفرق بين كنافة الصباح المصنوعة لأهل الريف وكنافة المساء المعدة لأهل المدينة ، ولم يكتب عن هذا ، كما لم يكتب عن كنافة " الفتفوت " أحد أبرز قصص الكنافة النابلسية في التندر على سكان الريف .
ما يلفت النظر أيضا في الصفحات التي يكتب فيها إلياس عن نابلس هو لهجة النابلسي ماجد بريك . ترد مثلا العبارة الآتية على لسانه :
" أشك ، بس إسا مش وقتها " . إن " إسا " لهجة حيفاوية بامتياز ، لا لهجة نابلسية .
ربما ما لفت نظري أيضا هو السطر الآتي حول موقع مدرسة جمال عبد الناصر :
" فهذا الاجتماع الذي سيعقد في مدرسة جمال عبد الناصر في مدخل حارة الياسمينة سيكون الاجتماع الأخير " .
هل تقع مدرسة جمال عبد الناصر حقا في مدخل حارة الياسمينة ؟
كما ذكرت فإن خليل أيوب وصل إلى نابلس قبل اجتياحها بأيام قليلة ، وإن من أمد إلياس / السارد آدم بالمعلومات لم يكن ملما إلماما دقيقا ببعض الأمكنة وببعض عادات الناس في تناول أطعمتهم وباللهجة النابلسية أيضا .
كتبت عن نابلس ابنة المدينة سحر خليفة في أكثر رواياتها ، وكتبت عن انتفاضة الأقصى فيها أيضا Afaf Khalaf " لغة الماء " وكتب ، من قبل ، عن الانتفاضة الأولى فيها الروائي الفلسطيني رشاد ابوشاور " شبابيك زينب " ، كما كتب عنها كميل أبو حنيش " جهة سابعة " ووليد الشرفا " ليتني كنت أعمى " ، ولعل طالب دراسات عليا يلتفت إلى هذه الروايات معا ويكتب دراسة تقوم على التوازي ويركز على رؤية المكان من الداخل ورؤيته من الخارج ، وهذا ما أنجزته عن رواية القدس .
خربشات أدبية
١٠ / ١ / ٢٠٢٣


***

12

كنت تساءلت في بداية الكتابة إن كان الجزء الثالث من " أولاد الغيتو " رجل يشبهني " ثالث الثلاثية أم رابع الرباعية أم خامس الخماسية أم سادس السداسية ، ولم يكن تساؤلي من فراغ .
يعود خليل أيوب أحد شخصيات رواية " باب الشمس " إلى الضفة الغربية إثر اتفاق أوسلو ويستقر في حلحول ويتزوج إحدى فتياتها ، محققا حلم وديع عساف الفلسطيني في رواية جبرا " السفينة " ، وفي أثناء عودته يلتقي بآدم دنون الشخصية الرئيسة في ثلاثية " أولاد الغيتو " ، ويتم اللقاء الأول بين العائد والمقيم في أحد مستشفيات رام الله ، وأما اللقاء الفعلي فتم في بار إسرائيلي على شاطيء البحر الميت .
كان آدم في البار وحيدا مع كأسه حين التقى بثلاثة رجال يطلبون قنينة ويسكي ويتكلمون العربية ، وفهم من كلامهم أنهم من العائدين . اقترب منهم يدفعه الفضول إلى معرفة " كيف يشعر فدائيون أمضوا أعمارهم في مقاتلة الإسرائيليين ، وهم اليوم يحتسون الويسكي في بار إسرائيلي " ، وكان أحد هؤلاء الثلاثة خليل أيوب الذي أبدى بآدم اهتماما كبيرا لأنه يعشق الست أم كلثوم المغرم بها آدم الذي يكتب في صحيفة إسرائيلية عن الموسيقى الشرقية .
يسرد آدم حواره مع خليل ابن الغابسية في الجليل الذي استقر في حلحول ، إذ شأنه شأن لاجئي ١٩٤٨ ممن عادوا ولم يسمح لهم بالعودة إلى مدنهم وقراهم الأصلية ، وقد عبر عن عودتهم هذه محمود درويش بقوله :
" عدنا إلى غدنا ناقصين "
وعبر عنها أحمد دحبور بقوله :
" وصلت حيفا ولم أعد إليها "
وظلت الحسرة والشعور بالخيبة ملازمة لهما ، ما دفعني إلى تأليف كتابي " أدب المقاومة : من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات " ( ١٩٩٨ ) .
يقول خليل مميزا بين المجيء والعودة :
" عندما أعود إلى قريتي الجليلية ، أكون قد عدت " ولم يناقشه آدم " في دلالات الفرق بين العودة والمجيء ، أو في معنى صدى الرائحة ، هل الرائحة كالصوت تغيب ويبقى صداها ؟"
فكرة العودة الناقصة يعبر عنها خليل أيوب في لقائه مع آدم دنون مستخدما لفظ " العودة بلا كرامة " ، فالعائدون لم ينقصهم المال والسيارات والبيوت والامتيازات . كان ينقصهم شيء واحد فقط هو الكرامة ، وكما قال خليل يخاطب آدم :
" هناك شيء واحد أرجو ألا تسألني عنه رجاء ، وهذا الشيء اسمه الكرامة " و " الآن ، أنا هنا في حلحول والكرامة بعيدة " و " لذلك لا تسألني عن الكرامة " .
ويستعرض خليل مراحل الثورة منذ ١٩٦٧ ومعركة الكرامة وبطولة الفدائيين وحياتهم في المنافي . في المنافي كان ينقصهم الاستقرار والراحة والامتيازات ولكنهم كانوا يملكون الكرامة .
عندما تندلع انتفاضة الأقصى وتحاصر مدن الضفة يساور خليل الشك فيما صار إليه ويغدو ممزقا بين عالمين ؛ عالم الفدائي وعالم موظف السلطة ، الكرامة واللاكرامة ، وعليه أن يختار ، ويختار أن يقف إلى جانب المدافعين عن البلدة القديمة في نابلس .
" لم يسأل خليل نفسه إلى أيهما ينتمي . رأى كيف أشعلت المدينة القديمة جمرات روحه المنطفئة ، وأحس بأن عليه ألا يمزق ثيابه المدنية أو العسكرية فقط ، بل عليه أن يمزق جلده أيضا ، فاللاكرامة تصير جلدا يلتصق بالجلد وينمو فوقه ويمحو معالمه .
استخدم خليل كلمة اللاكرامة ، مع أنه كاد ينزلق إلى كلمة أخرى لا يريد أن يتخيل أن ورثاء دم الفدائيين الفلسطينيين ، سقطوا فيها ، لكن البلدة القديمة جعلته يشعر بالخيانة " .
" لكننا علقنا هنا ، وعلينا أن ندافع عن كرامتنا " يجيب خليل أبو الرائد الذي ميز بين المقاومة والانتحار ورأى في التصدي لقوات الاحتلال انتحارا ، ويعود فدائيا كما كان الفدائيون في بيروت قبل أن يتلوثوا بوهم السلطة ووهنها .
ولا شك أن قاريء المقال الأسبوعي الذي يكتبه إلياس خوري وينشره كل يوم ثلاثاء يلمس بوضوح مواقفه من اتفاق أوسلو وما أوصل الشعب الفلسطيني إليه . إن لهجة انتقاد إلياس للسلطة الفلسطينية في مواقفها في العام الأخير وقبله تبدو حادة جدا .
مثل خليل أيوب الذي يستشهد في نابلس ويستشهد ابنه الوحيد في حلحول نقرأ عن أبو جندل الذي يستشهد في مخيم جنين أيضا ، فقد فضل الاستشهاد على الاستسلام .
في كتابتي عن الفلسطيني في روايات إلياس خوري تتبعت الصور المتعاقبة للفلسطيني ؛ من فدائي أسطوري إلى فلسطيني مساوم ورجل سلطة ، وتتجسد الصور في مسيرة خليل أيوب وأبو جندل وأبو الرائد وفي الرموز التي سارت في طريق المفاوضات ورضيت بما آلت إليه . آثر خليل وأبو جندل أن يموتا فدائيين لا رجلي سلطة ، ورأى رجال السلطة في سلوكهما انتحارا ففضلوا الانحناء للعاصفة .
خربشات أدبية
١١ / ١ / ٢٠٢٣

***

13- {الخيال وقصة الفلسطينيين الحقيقية الأغرب منه}

في الحكي الفلسطيني غالبا ما يكرر الفلسطينيون العبارة " قصتنا صارت أغرب من الخيال " ، يكررونها لا لأنهم مغرمون بحكايا الشاطر حسن والحكاية الشعبية " اللي أولها كذب وآخرها كذب " ، ولا لأنهم مغرمون بألف ليلة وليلة وحكاياتها التي تأثر إلياس خوري بأسلوبها ، وإنما لأن الواقع الفلسطيني يبدو أحيانا أغرب من الخيال ، وقد كتب في هذا إميل حبيبي الذي سحر به وبأسلوبه وبلغته خوري ، وبخاصة برواية " المتشائل " التي كتب فيها كاتبها عن تحرك شواهد القبور في غزة وعن رجل الفضاء والثريا التي رجعت تسف الثرى .
لقد ذهب إلياس إلى أن إميل كذب حياته وصدق أدبه ، وصار آدم دنون في حيرة من أمره وأمر ما يجري معه . إنه يكتب قصة حياته في دفاتره ويكتب فيها أيضا مناماته ، ولم يعد يميز بين ما يحدث معه وما يراه في مناماته . كيف إذن يقص هذا على الناس هو الذي صار يرتاب في حياته ؟
يتساءل آدم في الصفحات الأولى من الرواية :
" أنا لا أصدق نفسي ، فكيف يصدقني الناس " .
صارت حكاياته التي يعيشها ويراها في مناماته ويكتبها ، صارت له " أشبه بكابوس " عليه أن يصحو منه .
تحت عنوان " الكتاب الأزرق " يروي لنا آدم عن كتابة أحد دفاتره متسائلا إن كان نام وهو جالس على الكرسي أمام طاولته " حيث تركت دفتري مفتوحا على نهاية هذا النص ، مثلما أردت له أن ينتهي ؟"
في المنام يرى رجلا مغطى بظلاله يقف في مواجهته " كأنه مرآة غبشها الزمن . وفي ذلك الغبش ، رأيت رجلا يشبه صورة أبي ، حسن دنون ، كما علقت في ذاكرتي ، بشاربيه الأسودين الكثيفين ، لكنه يشبهني أنا أيضا ، كأنه أنا وقد عدت شابا في العشرين من العمر .
أنا لا أشبه أبي ، لكن هذا الرجل الذي يشبهني يشبهه ، كأنه هو ، أو كأن وجهينا امتزجا " . هذا التشابه بين الرجل وأبيه وبينه وبين الرجل يدفعه إلى الاعتقاد ب " صار الآخرون وجهي " .
الكتابة عن الواقع والخيال وامتزاج الواقع بالخيال كنا لاحظناه في الجزأين الأولين ، وقد كتبت عن هذا وأنا أكتب عنهما ، وفي " رجل يشبهني " يطنب الكاتب على لسان آدم في تناول الحقيقة والخيال .
تحت عنوان " أول الحكاية " يكتب عن زيارة دالية إلى نيويورك لعرض فيلم وثائقي أنتجته ويعد العدة لاستقبالها ويتخيل كيف سيكون اللقاء ، ولا يلتقيان . ما قصه آدم تحت هذا العنوان يبدو ضربا من الخيال . يمرن آدم ذاكرته معتقدا " أن الأدب في جوهره هو هذا التمرين المستمر على تحويل الذاكرة إلى نص يجمع الواقع والخيال ، أي الحقيقة وأختها كما يقولون " لكنه اكتشف مع هذه التمارين التي لا تنتهي " أنه بدلا من تحويل الواقع إلى خيال ، امتزج الخيال بالواقع ، فضاعت الحدود بينهما " بحيث صار آدم في كلامه اليومي مع الناس لا يميز بين الشخصيات المتخيلة والشخصيات الحقيقية ، وصار عاجزا عن قراءة نفسه " هل أنا إنسان حقيقي من لحم ودم ، وهل ما عشته كان تجاربي الشخصية ، أم أنني خارج هذه المعادلة كلها ؟ أتفرج على نفسي وعلى حكاياتي كأنها من صنع الخيال ؟" .
" أنا حائر " يعترف آدم ، ويضيف " أنا حائر ، ولست مترددا ؛ الحيرة لحظة تراجيدية ، أما التردد فمرادف للخوف ، تعرف أن عليك القيام بأمر ما لكنك تخاف لتجد نفسك وقد سقطت في الحفرة التي أخافتك من دون أن تقرر " وأما الحيرة فهي أن تمتلك حرية القرار فتختار مثل أبي فراس ما يوصلك إلى المأزق نفسه : الموت المعنوي / الأسر أو الموت الحقيقي / الردى .
يعود آدم في صفحة ٤٦٢ ليواصل الكتابة عن الحقيقة والخيال :
" لا أغفو إلا حين أرسم في رأسي شخصيات متخيلة أتقمصها . أبني عوالم لا علاقة لها بي ، وأنام على إيقاع منامات أخترعها ، وقد احتلت مخيلتي مؤخرا شخصيتان : خليل أيوب وراشد حسين . تعرفت على خليل بصفته بطل رواية قرأتها ، ثم التقيت به مرات قليلة ، لكن طريقة موته مثلما عاشتها يسرى أو تخيلتها احتلتني " .
وأعود هنا إلى ما كتبته في كتابي " أسئلة الرواية العربية : الياس خوري في روايته " أولاد الغيتو : اسمي آدم " نموذجا " عن توفيق الحكيم ومسرحيته " بجماليون " . من عشق توفيق الحكيم : التمثال الذي اخترعه أم التمثال وقد نفخت فيه الحياة فصار إنسانا ؟
هل تذكرون ما قاله الحكيم :
" مجنون يهذي بالألحان
يسرق حلى زوجته ويهديها لعشيقته
يسرق حلى عشيقته ويهديها لزوجته .
من تكون عشيقته ؟
من تكون زوجته ؟ " .
وفي " رجل يشبهني " يشعر آدم بأنه فقد عقله وأن وجع الروح يضربه . إن وجع الروح هو أقسى درجات الألم ، يقول آدم الذي يتلوى بروحه ويتساءل :
- ماذا يجري ؟
" لا أستطيع أن أصدق منامي ، لكنني لا أستطيع تكذيبه أيضا . هل أنا أنا أم هذه أعراض انفصام الشخصية؟".
هل كان خليل أيوب شخصية حقيقية أم شخصية روائية ؟
وحول إلياس خوري وشخصياته إن كانت حقيقية أم متخيلة يكون لآدم أيضا حديث .
إن الأجواء العجائبية الغرائبية هي مكون أساس من مكونات " رجل يشبهني " وقد كانت في " اسمي آدم " و " نجمة البحر " كذلك أيضا .
خربشات أدبية
١٢ / ١ / ٢٠٢٣

***

14- {الخروج من اللد }

جرت أحداث الجزء الأول " اسمي آدم " في اللد في العام ١٩٤٨ وفي بقية فلسطين وفي مدينة نيويورك ، وانتقل بنا الجزء الثاني إلى حيفا وصور حياة آدم فيها " نجمة البحر " ، وأخذنا آدم ، ومن ورائه إلياس خوري ، إلى غيتو وارسو ، فقرأنا عن مأساة اليهود في ( اوشفيتس ) ، وفي " رجل يشبهني " يأخذنا آدم إلى جنين ونابلس وحلحول في فترة أوسلو وانتفاضة الأقصى واجتياح المدينتين ؛ جنين ونابلس ، فنقرأ عما حدث فيهما ، ولكنه قبل ذلك روى عن النصف الثاني من مأساة اللد ، متكئا على كتاب عودة الرنتيسي الذي عاش مأساة الخروج وكتب عنها .
تحت عنوان فرعي هو " ثلاثة أيام " يقص ما يقارب الأربعين صفحة عن الخروج المأساوي الذي أحالنا عليه في الجزء الأول حين أتى على رواية ( ايثيل مانين ) " الطريق إلى بئر سبع " ، فكانت الرواية الوجه المتمم الآخر لما حدث في اللد نفسها في ١٥ / ٧ / ١٩٤٨ .
في " رجل يشبهني " يعثر آدم على مذكرات عودة الرنتيسي ويقتبس منها ما رواه كاتبها عن تجربته وتجربة آلاف الأطفال الذين مشوا في تيه اللد ونجوا من الموت عطشا فولدوا من جديد " لكن في كفن " ، والطريف أن الرنتيسي كتب أيضا عن طفل التقط في غمرة النزوح : " وفي الصفحة ٢٣ من الكتاب الأزرق ، كتب : " اليوم التالي جلب معه تجارب أكثر قسوة ، إذ لا يزال المشهد محفورا في ذاكرتي ، فإلى جانب الطريق رأيت طفلا رضيعا ملقى على صدر أمه الميتة وهو يمتص ثدييها " . لقد كانت الأيام الثلاثة أياما من العطش والخوف والموت . أيام ثلاثة طويلة اختصرت العمر كله . كما لو أن من كتب عنه كان هو آدم دنون ، وكما لو أن عودة كتب كتابه لأجل قاريء واحد " هو أنا " كما يقول آدم .
يرى آدم / إلياس أن " الغيتو ليس سوى نصف الحكاية ، أما نصفها الآخر فهو مسيرة الموت " ويضيف " وربما كنت أنا الشخص الوحيد الذي عاش النصفين " .
ويبحث آدم في كتاب الرنتيسي عن حكاية الطفل الذي كتب عنه ، فلقد علمته أمه أنه كي يجد حكايته عليه أن يبحث في شقوق حكايات الآخرين " .
هنا في هذه الصفحات يناقش إلياس خوري عبارة " الضحية التي تحولت إلى جلاد " ليقدم اجتهادا جديدا .
" لا تقل إن قاتليك كانوا ضحايا ، وعلينا أن نتفهمهم ، فالقاتل لا يمكن أن يكون ضحية ، القاتل الذي يتلذذ بعطش الناس سفاح وليس ضحية ، الضحية لا تحكي ، الضحية تموت فقط " و " هؤلاء يا سيدي ليسوا يهودا . وعلينا نحن كي لا نصبح كأننا لسنا فلسطينيين ألا نبيع فكرة الضحية ونشتريها " .
كان اليوم الأول هو يوم الاثنين ١٣ تموز ١٩٤٨ . في هذا اليوم خرجت عائلة الرنتيسي من البيت لتبدأ المأساة:
" كان يوم الأحصنة والباذنجان ، الجنود يمتطون الأحصنة ويطلقون النار في الهواء ، ونحن نعصر حبات الباذنجان الكبيرة في أفواهنا كي لا نموت من العطش " . ( يروي جورج حبش في مذكراته رحلة الخروج ويأتي على رواية ( ايثيل مانين ) وراجع مقالتي عن جورج حبش والخروج من اللد ٢٨ / ٨ / ٢٠٢٠ ) .
اليوم الثاني هو يوم الثلاثاء ١٤ تموز ١٩٤٨ ، وكان يوم الماء والأذن المشرومة ، وفيه اغتصبت نساء ونهبت بحثا عن الذهب وصلمت آذان لأجله " روت لي أن أمي شاهدت جنودا إسرائيليين يبولون في صهاريج الماء " و " لم أر المشهد . أختي رأته ، وأمي كادت تصاب بالإغماء ، سمعناها تروي لأبي همسا ، عندما أقمنا في حاكورة المدرسة في رام الله ، أن الجنود كانوا يفنترون فوق الصهاريج كأنهم أولاد يلعبون بأشيائهم الصغيرة ، وأنه أغمي عليها عندما رجت أحد هؤلاء أن يسقي طفلتها الرضيعة من مطرة الماء التي كان يحملها ، فأجابها بأن دلق مطرته على الأرض وهو يضحك بشكل هستيري ." .
اليوم الثالث هو يوم الأربعاء ١٥ تموز ١٩٤٨ . في هذا اليوم رأى عودة ثلاثة مشاهد ؛ مشهد البئر وكيفية حصول الناس على الماء منه وتحلق الناس حول الرجل الذي نزل إلى البئر كي يمتصوا ثيابه المبللة بالماء والطين ، ومشهد القبور التي بلا مقابر ، حيث ترك الناس من مات في رحلة الخروج في مكانه دون أن يدفنوه ، تركوه " وسط أصوات الضباع والجوارح التي كانت تتنافس مع الذباب على نهش بقايانا " ، ومشهد آدم المكتوب عنه آنفا - الطفل الرضيع الملقى على صدر أمه .
وأكرر : إن الكتابة عن الخروج من اللد تذكرنا بما كتبته الروائية الإيرلندية ( ايثيل مانين ) وبما كتبه الدكتور جورج حبش الذي عاش تجربة الخروج كما عاشها الرنتيسي .
هل اكتملت الكتابة عن حكاية اللد في ١٩٤٨ ؟
كان ثمن المنفى كبيرا وكان ثمن العودة إلى المكان هائلا . يقول مأمون الأعمى ، وحين يريد آدم أن يقول له إننا دفعنا ثمن العودة من دون أن نعود ، يقول له : لا ، فالثمن الذي ندفعه منذ حوالي ستين عاما ليس ثمن العودة ، بل ثمن النكبة المستمرة " النكبة التي لم تبلغ ذروتها المأساوية بعد ، " فهؤلاء الإسرائيليون المصابون بلوثة أرض الميعاد لن يرتووا من دمنا ، ولن يتوقفوا عند أي حد " .
خربشات أدبية
الجمعة ١٣ / ١ / ٢٠٢٣ .

***

15- {جدل الناقد والروائي ثانية : تعدد اللهجات}

في جدل الناقد والروائي يمكن أن يذهب المرء إلى أبعد مما ذهبت إليه من قبل وأنا أناقش علاقة الروائي بالمكان الذي يكتب عنه والزمان الذي لم يكن شاهدا عليه والشخصيات التي يكتب عنها ، دون أن يعرفها جيدا ويتتبع حياتها أيضا ، وقد ألمح إلياس خوري وآدم دنون إلى أركان الرواية المذكورة ، في المتن الروائي ، وبدا لنا اعتراض الثاني على رواية الأول " باب الشمس " في غير مكان من " أولاد الغيتو " بأجزائها .
كانت كتابة إلياس خوري في الموضوع الفلسطيني موضع استغراب آدم ، ما جعل إلياس يتساءل إن كان لا يحق له أن يكتب رواية في الموضوع الفلسطيني دون أن يكون فلسطينيا ، وكان تتبع آدم لشخصيات " باب الشمس " مكان انتقاد أيضا ، فهو يعرفها وهي في الواقع ويراها غيرها في الرواية .
ما لم يبده آدم ، إن لم تخني الذاكرة ، هو رأيه بلهجة الشخصيات في " باب الشمس " ، وهو ما سأكتب عنه في " أولاد الغيتو " ، فاللهجة تعبر عن هوية ما ، واللهجة ملتصقة التصاقا كبيرا بالشخصية والمكان أيضا ؛ ولأن إلياس تنقل في روايته بين لبنان وفلسطين ومدنها ، دون أن يزور مدن فلسطين ، فقد أراد أن تكون للأمكنة وللشخصيات خصوصيتها ، معتمدا على طعام المكان وزيه ولهجته أيضا ، فإلى أي حد استطاع تمثل هذه كلها ؟
لو كنت مكان إلياس لسلكت طريقا من اثنين ؛ الأول ألا أحدد المكان وأن أدخل لغة شخصياتي في مياه نهر ( ليثي ) - الذي كتب عنه ( ميخائبل باختين ) في دراسته لغة الشعر ولغة الرواية - فأنطقها بلغة واحدة عربية فصيحة مبسطة ، أو ، وهذا هو الثاني ، أن أعطي مسودات روايتي ، قبل طباعتها ، لأشخاص يعرفون المكان وعادات أهله وطعامهم ولهجتهم معرفة دقيقة .
ربما يتذكر إلياس خوري الجدل الذي أثاره غالب هلسا ونقاد آخرون ، بخصوص المكان واللغة ، حول رواية عبد الرحمن منيف " شرق المتوسط " .
لم يحدد منيف مكانا معينا تجري فيه أحداث روايته ، ولم يستخدم العامية أيضا ، فازداد تحديد المكان غموضا ، ورأى غالب هلسا في ذلك ضربا من عدم الشجاعة في مواجهة هذا النظام أو ذاك ، فيم قال منيف إنه قصد ذلك لأنه أراد أن يكتب عن شرق المتوسط كله . هلسا اجتهد ومنيف أيضا اجتهد ، ويبدو أن خوري يميل إلى اجتهاد هلسا ، فكتب عن فلسطين ومدنها وعادات سكانها وأمعن في إضفاء التفاصيل فوظف لهجاتها المتعددة المختلفة من مدينة إلى أخرى ، بل وكتب عن تأثر فلسطينيي لبنان باللهجة اللبنانية فصارت اللهجتان ؛ الفلسطينية الخاصة بمكان نشأة الشخصية واللبنانية ، تجريان على لسانها ، وهو ما لاحظناه في حوار آدم دنون مع خليل أيوب ابن الغابسية الذي عاش في لبنان :
" شو هالجمال ! شو هيدا ، لا إله إلا الله " ، صرخ خليل .
فجأة ، انقلبت لهجة الرجل ، فأمال ألف لبنان كما يفعلون هناك ، وكرجت المحكية اللبنانية على لسانه " .
إن ازدواجية المحكية / اللهجة على لسان خليل تبدو في الرواية مقنعة فنيا ، فالرجل عاش في البيئتين . ومثلها يبدو مقنعا ورود بعض العبارات بالعبرية على لسان دالية وآدم ، ولكن ماذا لو طلبنا من مختص باللهجات الفلسطينية أن يفحص لنا لهجة بعض الشخصيات الروائية فحصا دقيقا ؟
مثلا لو أخذنا بعض الشخصيات النابلسية مثل الشهيد مازن بريك ؟
مازن بريك نابلسي لا ترد على لسانه بعض المفردات التي تميز لهجة أهل نابلس . أحيانا نجده يتكلم باللهجة الحيفاوية ، وقد أشرت إلى هذا في الكتابة عن المكان الروائي :
" ابتسم الطبوق بسخرية .
" معلوماتي أكيدة " قال خليل .
" أشك ، بس إسا مش وقتها " قال ماجد .
ويمكن اقتباس الفقرة الآتية على طولها لتبيان أن بعض المفردات فيها لا تنطق باللهجة النابلسية كما وردت :
" اسمعني منيح " قال ماجد " فيييش أمنعك تبقى ، بس لازم تعرف هون أنا القائد مش أنت . وأمري الأول إنك لازم تتذكر دايما إحنا منقاتل حتى ندافع عن الحياة مش حتى نموت ، يعني ممنوع تموت . وأمري الثاني هو إنك رح تكون معي بمجموعة جامع النصر ، بكرا الصبح بيجي شاب ومعاه السلاح والثياب ، وبيوصلك على الجامع وأنا بكون ناطرك هناك . موافق ؟" .
إحنا منقاتل و أنا و بيوصلك و ناطرك ، لا يلفظها النابلسيون هكذا . هل يقول النابلسيون إحنا أم يقولون إحني ؟ و منقاتل أم بنأآتل ؟ و بيوصلك أم بوصلك ؟ و ناطرك أم بستناك أو منتزرك - منتظرك .
كانت لهجة إلياس خوري اللبنانية تتسلل أحيانا إلى لسان بعض شخصياته الفلسطينية التي لم تعش في لبنان ، ولعل الفصل في اجتهاده واجتهادي هو أن يكتب متخصص في اللهجات الفلسطينية دراسة مطولة عن الشخصيات ولسانها في الرواية .
برر إلياس لخليل أيوب ازدواجية لهجته ، وتبرر الرواية لآدم ودالية التفوه ببعض المفردات العبرية ، ولكنها لم تقنع فنيا في استخدام شخصيات أخرى لهجات مدن لم تقم فيها ، ولعلني مخطيء .
إن ما كنت أمعن النظر فيه وأنا أقرأ الرواية هو مدى إقناع كاتبها لنا في الكتابة عن أماكن لم يقم فيها وفي تناوله زمنا لم يكن شاهدا عليه وفي انطاق شخصيات هذه الأماكن وذلك الزمن بلهجتهم التي تعد معيارا من معايير تحديد هويتهم . مرت فترة في الحرب الأهلية في لبنان كان الذبح يتم فيها ، كما كتب آمين معلوف في " هويات قاتلة " ، على تحديد هوية الإنسان من لهجته . بندورة أم بنادورة ؟ وهلم جرا .
ما ينبغي أن يشار إليه أن روايات إلياس خوري تترجم إلى لغات أخرى ، وأغلب الظن أن ميزة إنطاق الشخصية بلهجتها الخاص تنتفي تلقائيا ويبدو جدل الناقد والروائي ، للقاريء باللغة المترجمة ، في هذا الجانب ، عديم الأهمية .
خربشات أدبية
١٤ / ١ / ٢٠٢٣

***

16- الروائي قارئا ومثقفا : إلياس خوري نموذجا

لم يغب عن أذهان دارسي فن الرواية ، في فترة نشأتها ، نظرة الناس إلى كتابها . وقد أتى نجيب محفوظ في حوار مع جمال الغيطاني في كتاب " نجيب محفوظ يتذكر " على نظرة بعض أدباء مصر الجادين ، مثل عباس محمود العقاد ، إليها يوم كتبها محمد حسين هيكل ويوم بدأ هو كتابتها . لقد عزف هؤلاء عنها والتفتوا إلى الشعر " وكان المفكرون هم الذين يحظون بالاحترام في هذه الفترة طه حسين ، العقاد وغيرهما ، أما الأدب فقد اعتبرته هواية جانبية . كان الاحترام للفكر ، للمقالات ، للنقد ، للعرض ، وليس للقصة "( ٢٦ ) .
ومع أن زمننا صار زمن الرواية إلا أن قسما من القراء ما زال يتبنى الموقف نفسه الذي تبناه نقاد فترة البدايات ، وهو ما قرأته في الفترة الأخيرة على صفحات التواصل الاجتماعي . فالروايات تفسد لغة المرء وتضعفها و ... و ... .
وأنا أقرأ رواية إلياس خوري الأخيرة " رجل يشبهني " لفت نظري حوار جرى بين شخصيتين من شخصياتها هما آدم دنون وخليل أيوب وهما قارئا روايات سحرهما غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا ، وآدم يتلاعب باللغة تلاعب إميل حبيبي بها في روايته " المتشائل " ، وأظن أن آدم في هذا الجانب قناع للكاتب نفسه ، فاللغة التي تسحره في مواطن عديدة من الرواية هي التي تسحر إلياس خوري .
يقول آدم لخليل " أنا أكتب حين أقرأ " فيرد عليه خليل " هذه هي الكلمة التي كنت أبحث عنها " ويضيف " أنا أكتب حين أقرأ جبرا " .
ولا شك أن عبارة آدم وعبارة خليل هما في نهاية المطاف عبارتا الكاتب نفسه ، وأعتقد أن ثلاثية " أولاد الغيتو " ما كان لها أن تكون على ما هي عليه لولا قراءات إلياس خوري على مدار ستين عاما . إنها رواية تحفل بالاقتباسات والتضمينات والإحالات وخلاصة القراءات للآداب العالمية والعربية قديمها وحديثها ، وبخصوص قراءات إلياس للرواية فيمكن اقتباس الفقرة الآتية التي ترد على لسان آدم في الرواية :
" بين رفوف الكتب المستعملة ، تصادقت مع الكاتب الأرجنتيني بورخيس ، ودخلت في سحر الرمل الذي تحول بين يديه إلى كلمات ، وتعرفت إلى جوزيف كونراد الذي أخذني إلى قلب ظلام الأدب ، وقرأت بول أوستر وسوزان سونتاغ ، وبهرتتي لغة الكاتب الجنوب أفريقي كويتزي برشاقتها وإيجازها البلاغي الجميل . المكتبة كانت موعدي الدائم مع برابرة كافافي الغائبين ، ومع " استشراق " إدوارد سعيد المبهر " .
ويمكن أيضا أن تقتبس فقرات اقتبسها الروائي من كتب التراث العربي القديم ، وهي اقتباسات قد تكون عموما موضع جدل من القراء المتعددين المختلفين الذين أشرت إليه من قبل .
إن إنجاز قائمة بأسماء الكتاب والشعراء والدارسين والمؤرخين الذين وردت أسماؤهم في الثلاثية لهو أمر مجز وهو ما يعزز المقولة المقتبسة " أنا أكتب حين أقرأ " .
ما سبق ربما يكون ردا على عبارة ينطقها كثيرون ممن لا يقرأون الرواية ولا ينظرون إليها نظرة احترام ، منذ نشأتها وإلى اليوم . " كلام روايات " أو " قاريء روايات " يردد بعض القراء وينسون أن الرواية تثقف وتستبطن النفس الإنسانية وتمد المرء بتجارب قد تفيده في مواطن كثيرة ، والجدل حول هذا يطول ، علما بأنه لا يغيب عن ذهن قسم من المهتمين بالصداع العربي - الإسرائيلي أن المستشرقين الإسرائيليين المرتبطين بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية درسوا ، قبل حرب حزيران ٦٧ ، أعمال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ليفهموا من خلالها العقلية المصرية والمجتمع المصري ، وفي هذا الجانب درس غسان كنفاني الأدب الصهيوني رافعا شعار " اعرف عدوك " .
في " رجل يشبهني " نقرأ عن عودة الرنتيسي وتهجيره من مدينته اللد في عام النكبة وعن حياته في رام الله ، ونقرأ صفحات عديدة من الكتاب الذي ألفه ، ونقرأ قصة حياة الشاعر الفلسطيني راشد حسين المأساوية كما لم نقرأها في كتب كثيرة أنجزت عنه ، ونقرأ أيضا اجتهادات وتأويلات لبعض أسطر محمود درويش الشعرية ولبعض روايات غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا ، كما نقرأ عما ألم بقريتي عيلبون وأبو شوشة وعن ثياب أهلهما . إن الصفحات التي حملت عنوان " فستان الحكاية " تمدنا بمعلومات كثيرة عن الثوب الفلسطيني بما يحتويه من تطريز خاص بكل قرية هو علامة الهوية " الهوية التي يجب ألا يتخلى عنها الفلسطينيون . عدا ما سبق نقرؤ عن جان جينيه صديق الفلسطينيين وكتابته " أربع ساعات في شاتيلا " عن مجزرة شاتيلا وصبرا .
" إنني أقرأ كي أكتب " عبارة تنطبق على كتاب كثيرين وأنا منهم ، فمقالاتي تحفل بالاقتباسات والتناصات ، وهذا النوع من أنواع المقالة عرفه جنس المقالة في الأدب العالمي .
الاثنين
٩ / ١ / ٢٠٢٣
الخميس
١٢ / ١ / ٢٠٢٣ .

***

17- "الأدب الإسرائيلي وحضوره في الرواية"

كنت عندما كتبت عن الجزء الأول " اسمي آدم " توقفت مطولا أمام التناص مع الرواية الإسرائيلية متوقفا عند أسماء لافتة مثل بنيامين تموز ويورام كانيوك وعاموس عوز ، والكاتب العربي أنطون شماس الذي كتب روايته الوحيدة بالعبرية . ( أنظر كتابي " أسئلة الرواية العربية : الياس خوري في روايته " أولاد الغيتو : اسمي آدم " نموذجا ، دار الآداب ، ٢٠١٨ ) .
وعندما كتبت عن الجزء الثاني " نجمة البحر " أنجزت مقالا عنوانه " إلياس خوري و ( ا.ب.يهوشع ) : " أولاد الغيتو " و " العاشق " " ( أنظر جريدة الأيام الفلسطينية ١٠ / ٢ / ٢٠١٩ ) ، عدا ما كتبته في صفحة الفيس بوك عن قصة عاموس عوز " الأفعى والرحل " وبعض الإشارات إلى الكتاب اليهود العرب .
حضور الأدب الإسرائيلي في الجزأين السابقين كان يجري على لسان آدم الذي درس الأدب المقارن في جامعة حيفا .
يتواصل حضور نماذج من هذا الأدب في الجزء الثالث ، منه ما يعود إلى اليهود العرب ، وقليله إلى الشاعر اليهودي ( بياليك ) الذي ترجمه راشد حسين إلى العربية .
الكاتب اليهودي العراقي العربي الذي يذكر هنا هو سامي ميخائيل ، ويرد ذكره حين يروي آدم عن علاقته بجوليانو مير خميس الذي وردت الكتابة عنه سابقا .
يروي آدم عن قراءته رواية سامي ميخائيل :
" لا أدري ، هل دله أحد على مكاني في مقهى لانتيرنا ، أم جاء من طريق المصادفة ؟
كنت أجلس وحيدا في البار الجديد في الطابق السفلي من المقهى . فيلم " أولاد آرنا " لجوليانو مير خميس قادني ليلة أمس إلى إعادة قراءة رواية سامي ميخائيل . لم أنم طوال الليل ، وأنا أتنقل بين صفحات الرواية وبين مشاهد الفيلم . قلت في نفسي إن هذا الروائي الإسرائيلي أضاع في روايته شخصية كبرى تستحق أن يكتب لأجلها رواية كاملة تتغلغل في ثتايا حكايتها وتحمل دلالات إنسانية وتراجيدية ، هي شخصية آرنا مير .
وسامي ميخائيل هو اليهودي القادم من العراق ، وكان اسمه هناك " كمال صلاح وصار سمير مارد وقت كان يكتب باللغة العربية بجريدة " الاتحاد " بحيفا ، ورجع وغير اسمه لما قرر يصير إسرائيلي ، بعد سنوات من الهجرة إلى إسرائيل " .
أطلق سامي ميخائيل على آرنا في روايته " حوسوت / ملجأ " اسم " شوشانا " ، ولم يلجأ إلى ما يلجأ الكتاب إليه في العادة وهو محو أثر الشخصيات الحقيقية التي يستلهمونها في رواياتهم ، فجاءت روايته أشبه بالفضيحة ، لأنها تحيل إلى شخصيات عامة ومعروفة في الوسطين السياسي والثقافي " فتحي هو سميح القاسم ، وإميل هو إميل توما ، وإميليا هي خايا زوجته ، وفخري هو محمود درويش ، وفؤاد هو صليبا خميس ، وشوشانا هي آرنا ، وإلى آخره " ...
يرى آدم أن القصد من الرواية كما لو أنه عملية تصفية حساب مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي " يقوم بها مردوخ العراقي المهاجر مكرها إلى إسرائيل ، وهو هنا يجسد كاتب الرواية " - أي سامي ميخائيل .
يبدي آدم في رواية ميخائيل آراء نقدية إذ يتساءل :
" لماذا أطلق ميخائيل على " حسوت " أي " الملجأ " صفة رواية ؟ ألم يكن من الأفضل أن يكتبها بشكل واضح كمذكرات ؟
والطربف هو أن الرأي النقدي الذي يتبناه آدم بشأن رواية ميخائيل لا يتبناه في تجنيس ما يكتبه هو ، فغالبا ما يتساءل عن الجنس الأدبي الذي يمكن أن يدرج تحته دفاتره التي يكتبها ؛ الدفاتر التي صنفها إلياس خوري على غلاف كتابه " رجل يشبهني " رواية .
يواصل آدم إخبارنا عن موقفه من رواية ميخائيل وكيف تلقاها :
" عندما قرأت هذه الرواية للمرة الأولى أحسست بالسأم ، وشعرت بأن لغة الكاتب في اللجوء إلى تغطية شخصيات حقيقية ومعروفة بحكاية استدعائه كاحتياطي في الجيش في حرب تشرين ١٩٧٣ ليست موفقة ، ولا تجعل من عمله رواية أو حتى شهادة على زمنه . إنها مجرد تعبير عن السخط على تجربته في الحزب الشيوعي الإسرائيلي ، ومحاولة انخراط متأخرة وغير كاملة في المشروع الصهيوني ، مع أن الكاتب بقي داعية سلام ورافضا للاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع " .
صورة آرنا في الرواية تحتلف عن الصورة التي قدمها لها ابنها جوليانو في فيلمه " أولاد آرنا " ، وهذا الاختلاف في الصورة يقود إلى حوار بين آدم وجوليانو . هنا نصغي إلى تقييم جوليانو للرواية :
" هذه رواية منسية ، اعتقد أن كاتبها نفسه قرر أن ينساها بعدما فعلت آرنا ما فعلته " وكانت آرنا بعد أن قرأت الرواية كتبت نعيا لسامي ميخائيل وعلقته على باب بيته . " وفي الصباح عندما قرأ الكاتب إعلانه ميتا على باب منزله ، غطى خوفه بالغضب ، وذهب إلى إميل حبيبي يشكو له الشيوعيين وهو يحمل الورقة بيده " .
ويستمر إبداء الرأي في الرواية ، وتذكر رواية أخرى للكاتب هي " فكتوريا " . يلخص جوليانو رأيه في رواية " حوسوت " بالآتي :
" هذا الكتاب هو محاولة لتحطيم صورة العرب الفلسطينيين . كان يريد تهشيم صورة صليبا و آرنا اللذين عاشا المأساة في حياتهما اليومية ، فقام بتحويل المأساة إلى مسخرة " .
في أثناء الكتابة عن الشاعر راشد حسين يؤتى على ناحمان بياليك .
يوجه ، في الرواية ، السؤال الآتي إلى راشد الذي ترجم أشعار الشاعر العبري :
" هل أنت حاييم ناحمان بياليك الفلسطيني ؟ قل لي بربك لماذا ترجمت الشاعر القومي الإسرائيلي إلى العربية ؟" .
فيجيب :
" بياليك كان إنسانا مات في غير أوانه " .
ولعل حضور راشد حسين في الرواية يستحق مقالا خاصا لعلني أنجزه في شباط القادم حيث ذكرى رحيل الشاعر السادسة والأربعين .
خربشات أدبية
١٥ / ١ / ٢٠٢٣ .

***

18- {أدباء المقاومة الفلسطينية بين آدم وإلياس خوري}

أنفقت اليوم ١٦ / ١ / ٢٠٢٣ ثلاث ساعات في البلدة القديمة في نابلس أتتبع الأماكن التي كتب عنها إلياس خوري ، حالي في هذا حال إميل حبيبي عندما تتبع حيفا غسان كنفاني في روايته " عائد إلى حيفا " ، ولي عودة إلى هذا الموضوع ، إذ كنت في الصباح قررت أن أكتب تحت عنوان " أدباء المقاومة الفلسطينية بين آدم وإلياس " لأخطو خطوة ثانية في إيجاد التشابه بين الكاتب والمؤلف الضمني .
كان السؤال الذي يراودني وأنا أقرأ الرواية بأجزائها الثلاثة هو :
- لماذا اقتصر آدم في الحديث عن ثلاثة روائيين فلسطينيين ، هم كنفاني وحبيبي وجبرا ، ولم يتتبع غيرهم ، ولماذا ركز على شاعرين ، هما محمود درويش وراشد حسين ، دون غيرهما ، سواء أدرسهما هو أم مأمون الأعمى ؟
كتبت وأنا أدرس " اسمي آدم " تحت عنوان " التناص مع الأدب الفلسطيني " فدرست حضور الروائيين الفلسطينيين الثلاثة وإدوارد سعيد ومحمود درويش ، وأتيت على راشد حسين . لقد كان هؤلاء الأعلام الخمسة وبعض أعمالهم ساطعي الحضور في ذهن الشخصية الروائية ، ومع أنها ستحكي عن أماكن فلسطينية جديدة ذكرناها إلا أنها لم تأت على أدباء فلسطينيين جدد ، فبالكاد يذكر سميح القاسم أو كمال ناصر ، ولا يذكر معين بسيسو أو فدوى طوقان أو غيرهم . هل ظلت قراءات آدم للأدب الفلسطيني محصورة في الأسماء الخمسة تقريبا ، وفي أنطون شماس الذي درسته في باب التناص مع الأدب الإسرائيلي ؟ وكما حضرت الأسماء الخمسة في " رجل يشبهني " يحضر أيضا شماس .
كان إلياس خوري أصدر بضعة كتب في النقد الأدبي قبل أن يتحول إلى روائي يخلص إلى فن الرواية ويهمل النقد إلى حد كبير ، وهذا التحول يدركه جيدا ، إذ يحكي آدم عن مشكلة النقاد المزمنة المتمثلة بكتابة الرواية :
" هكذا ينهي الناقد حياته الأدبية عبر التحول إلى روائي ... هذا ما أراد إدوارد سعيد القيام به عندما خط كتابه " خارج المكان " ، فكتب مذكرات مدهشة لكنه لم يكتب رواية " .
وما يشغل بال آدم أيضا هو أن لا علاقة له بما يكتب ، فالكتاب مجرد أداة للكتابة ، ولهذا تجدهم يكتبون على الكتابة :
" الأدب هو إعادة كتابة أدب سابق عليه ، وهذه مسألة يجب أن تشغل النقاد ، كي يصلوا في النهاية إلى الكتاب الذي كتب الأدباء مقاطع منه من دون أن يدروا ... "
أنهى إلياس خوري ، أو كاد ، حياته ناقدا ليكتب الرواية ، وروايته هذه " أولاد الغيتو " تبدو ، في جانب منها ، تبدو إعادة كتابة على أدب سابق عليها ، وقد أشرت تحت عنوان " الروائي قارئا ومثقفا " إلى اكتناز الثلاثية بأبعاد معرفية وبينت هذا بالتفصيل في كتاب " أسئلة الرواية العربية " .
حين عدت إلى كتابي إلياس " دراسات في نقد الشعر " ١٩٧٩ و " الذاكرة المفقودة : مقالات نقدية " ١٩٨١ لأتصفح أدباء المقاومة الذين درسهم فيهما لاحظت أنه درس الروائيين الفلسطينيين الثلاثة والشاعرين الفلسطينيين وركز عليهم أكثر من أي روائيين فلسطينيين أو شعراء فلسطينيين آخرين ، وأغلب الظن أنه درسهم في الجامعة أكثر من تدريس غيرهم . صحيح أنه كتب في " الذاكرة المفقودة " عن شعراء الثلاثينيات والأربعينات من القرن الماضي وكتب أيضا قليلا عن فدوى طوقان ، إلا أنه لم يقارب الأخيرين مقاربة الخمسة ، وهكذا رسخ كنفاني وجبرا وحبيبي ودرويش وراشد حسين في ذاكرته ، فظل يحلم بعوالمهم وبمدلولات كتاباتهم الرمزية ، فحضروا حضورا لافتا في " أولاد الغيتو " .
" جبراوي وبحب غسان كنفاني " ، قلت " زي بعضه ، كلهم كتبونا " . " ما الشعر وما الأدب ؟ إنهما روح ، وإلا فلا معنى لهما " . " هذا النقاش الذي تخيلته كان مدخلي كي أجمع مزق حكايات راشد حسين في حكاية واحدة . أقول حكاية واحدة وأنا أعرف أن لا وجود لوحدانية الحكاية ، فكل حكاية هي تأويل ، وكل تأويل خاضع بدوره للتأويل " ، وقد درس إلياس خوري الموت الجانبي في أعمال راشد حسين معا .
لا أريد أن أتساءل لماذا درس إلياس خوري الأسماء المذكورة فقط ، فهذا متعلق به ، ولكني أرى أنه لم يكتب في رواياته عن غيرها ؛ من شعراء وروائيين وكتاب قصة قصيرة ، إلا لأنه منذ بدايات ثمانينيات القرن ٢٠ تحول إلى روائي ، ولم يواصل كتابة النقد فيكتشف أسماء جديدة أخرى .
خربشات أدبية
١٦ / ١ / ٢٠٢٣

***

19- { إشكالية التجنيس : أنا وإلياس وآدم }
هل غدوت شخصية مسطحة ؟

حسم إلياس خوري أمره فيما يتعلق بثلاثيته " أولاد الغيتو " حين كتب دال " رواية " على غلاف روايته الخارجي وفي الإشارات التي ختم بها الرواية " لم تكن كتابة هذه الرواية ممكنة لولا المساعدة التي قدمها لي مجموعة من الأصدقاء الأوفياء ... " وفي الصفحة ( ٥٠٢) " أنجزت كتابة هذه الرواية في ... " ، وحسمت أنا نصي " خربشات ضمير المخاطب " ( ١٩٩٧ ) بتعريفه مرارا بأنه " نص " ، ولم يحسم المؤلف الضمني ل " أولاد الغيتو " أمر تجنيس ما يكتب ، وقد ناقشت هذا من قبل وأنا أكتب عن الجزأين ؛ الأول والثاني ، واستمر آدم في حيرته في الجزء الثالث ، ولم تقتصر الحيرة على تجنيس ما يكتب وحسب ، فلقد كان حائرا أيضا في هويته وفي حياته .
تكرر تساؤل آدم حول ما يكتبه بشكل لافت ، وتكررت كتابتي عن إشكالية تجنيس دفاتره حتى صار تكراري صدى لتكراره ، وخفت أصير شخصية مسطحة يمكن اختصارها في جملة كما يعرف ( فورستر ) في كتابه " أركان الرواية " الشخصية المسطحة / الثابتة / غير النامية .
لنر التكرار في كتابة آدم عن الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه دفاتره :
" أنا لست روائيا " ، أجبتها .
" كل آن وله أوان ، فالحكايات لا تكتب إلا حين تنتهي ، لذا نميز بين الكاتب والبطل ... كنت أريد أن أفهم من أنا فلم أفهم شيئا ، وبدلا من أن أكتب حكاية أو مذكرات كتبت مزيجا غريبا من النصوص التي لا أعرف كيف أصنفها . "
" صارت ( سارانغ لي ) هي الإنسان الوحيد الذي رافق مغامرتي مع هذه الدفاتر ، من مشروع حكايتي عن وضاح اليمن إلى أزمتي النفسية التي سببها لقائي بمأمون وحكاياته ، إلى قراري بكتابة شذرات من سيرتي كبديل من رواية لن أستطيع كتابتها"
" لكن ما علاقتي بالموضوع ؟ ولماذا اعتقدت أن جنيا أو شيطانا برز من مكان ما ، ودفعني إلى كتابة هذا النص الذي أردته أن يكون سجلا للحقيقة "
" لا أدعي أنني أكتب أدبا ، أقصى طموحاتي هو أن يكون ما كتبته شبيها بالأدب . لكن الكتابة أكثر إيلاما من الصمت ، فلماذا أتابع ؟ ولماذا أخضع لهذا الهاجس الذي رفض أن يخلي سبيلي .
وكيف أنهي الحكاية بحكاية ، على عادة الرواة " .
" ولن أروي لها عن مشروع حكايتي المجهضة عن وضاح اليمن ، أو أحكي لها أنني أكتب كتابا لا أول له ولا آخر ، كتابا لا يشبه الكتب لأنه لا يروي حكاية واحدة ، بل يمزج مئات الحكايات كي يصل بالكتابة إلى كونها فعلا مستحيلا " .
" أريد أن أعترف بأن جميع ما كتبته في هذه الدفاتر ، لم يكن سوى محاولة لتضميد جروح روحي بالكلمات . هذا الشعور الذي يقدمه لنا الأدب .... لكنني لست إنسانا مهما كي أكتب مذكراتي ، ولست كاتبا كي أكتب أن الكتابة صارت عندي شكلا للتنفس " .
" وعندما سأل ناحوم الفتاة التي تدعى سارانغ لي عن الدفاتر ، قالت إنها كتابة عن نصوص كتبها الرجل باللغة العربية ... "
ولننظر في الدوال التي يكتبها آدم : لست روائيا ، فالحكايات ، مذكرات ، نصوص ، هذا النص ، كتابة شذرات من سيرتي .... " . لم يقر آدم على دال واحد يعتمده فحيرنا معه في تصنيف ما يكتب .
عندما كتبت " خربشات ضمير المخاطب "( ١٩٩٧ ) وكتبت عن تجربتي الروائية المحدودة شهادة ألقيتها في مؤتمر الأدب الفلسطيني في جامعة بير زيت ، قلت إن الخربشات هي كوكتيل من الأجناس الأدبية ، فهي سرد وبعض سيرة ويوميات وقصائد نثر وقصص قصيرة ، ذلك أننا إذا اعتمدنا الرواية التقليدية معيارا سنسقط " الخربشات " من جنس الرواية ، ولا أظن أنها تقبلت يومها على الإطلاق ، ولذلك لم أتشجع لنشرها ورقيا ونشرتها على مواقع إلكترونية يمكن أن يعثر عليها المرء الآن في موقع " ديوان العرب " . ( حول تجربتي الروائية ، جريدة الأيام الفلسطينية ، ٢ / ٥ / ١٩٩٧ )
هل قرأ إلياس خوري هذه الخربشات التي رفض محمود درويش نشرها في مجلة " الكرمل " ؟
ما ينبغي أن أقر به هو أن ثلاثية " أولاد الغيتو " مختلفة كليا عن " خربشات ضمير المخاطب " ولا تتقاطع معها إلا في جانب واحد هو إشكالية التجنيس ، وهذه إشكالية لا يعاني منها إلياس ، وإنما تعاني منها شخصيته الروائية - أي المؤلف الضمني .
ها أنا أكرر الكتابة وتكرار الحكي سمة اتسم بها آدم في أجزاء الرواية الثلاثة ويبدو أن عدواها انتقلت إلي .
خربشات أدبية
١٧ / ١ / ٢٠٢٣

( ملاحظة :
ينظر دراستي " المابعد في الرواية العربية : لعبة الشكل " وهي ورقة شاركت فيها في مؤتمر عقدته الجامعة الأردنية في ٢٠١٨ ، وصدرت في كتاب المؤتمر وهي مدرجة على مواقع إلكترونية .
وأنظر مداخلتي في آذار ٢٠١٩ في مؤتمر القاسمي / باقة الغربية ) .


***

20- {الضمير المعذب لبعض العائدين}

في العام ١٩٩٦ ترجمت دراسة الأستاذ الألماني ( Stefan Wild ) عن رواية غسان كنفاني " أم سعد " . كان عنوانها " أم سعد والضمير المعذب للثوري " ، والثوري هو الذي كان يصغي إلى أم سعد تقص عن حياة اللاجئين في المخيم ومعاناتهم ، ولم يكن قادرا على حلها .
تبادر إلى ذهني العنوان وأنا أكتب عن " العائدين والكرامة الناقصة " وقلت إن هناك لا شك فضيلة لهؤلاء وضميرا ما يعذبهم أبرزه إلياس خوري ، بخاصة حين كتب عن معركة مخيم جنين ودور الفدائي أبو جندل فيها وعن معركة نابلس ودور خليل أيوب فيها . فهذان لم يكونا من العائدين الذين اشتكى قسم من الناس منهم وتذمروا من سلوكهم وتصرفاتهم . لقد كانا من العائدين الذين لم تمت روح الفدائي فيهم ؛ الفدائي الذي قبع في أعماقهم وحين آن الأوان انطلق من قمقمه .
نغمة الرواية عموما تميز بين من سار في فلك أوسلو ودافع عن سلامها وبين من خاض المواجهة ولم يتخل عن القتال في انتفاضة الأقصى .
هاجم آدم ، ومن ورائه إلياس ، أوسلو وما أدت إليه ، ووقف إلى جانب رافضيها من العائدين ، ممن ضحوا في انتفاضة الأقصى وأغلبهم من غير العائدين . هكذا فهمت مما كتبه عن معركة البلدة القديمة في نابلس .
لقد شعر هؤلاء ، كما أوضحت من قبل ، أنهم جاؤوا ولم يعودوا ، فالعودة لخليل أيوب تعني العودة إلى الغابسية لا إلى رام الله ، وظل ضميرهم الثوري يعذبهم .
في المشهد الذي أكل فيه خليل أيوب الكنافة النابلسية في شارع النصر جرى حوار بينه وبين الكنفنجي ، وعقب الأخير بالعبارة الآتية التي كنت اقتبستها :
" شو هالحكي ! لا يا حبيبي ، إحنا اخترعنا الكنافة والكنافة بتتاكل لوحدها ، ما بينضاف إلها إشي ، الله يساعدنا على بيروت وأهل بيروت "
وعبارة " الله يساعدنا على بيروت وأهل بيروت " عبارة دالة دلالة كبيرة لم أتوقف أمامها ، وتعبر عما يعتمل في نفوس بعض الفلسطينيين المقيمين .
لم ينجز العائدون الدولة الفلسطينية المستقلة وصاروا موظفين قبل أن يحالوا إلى التقاعد ويحصلوا على امتيازات صاروا يدافعون عنها ونسوا الهدف الذي عادوا من أجله أو أنسوه قصدا - ( خطة دايتون ) ، ومنهم من حصل على امتيازات من الإسرائيليين كان الحاصل عليها قبل أوسلو موضع شك وريبة وغالبا ما كان يتهم بالعمالة . كما لو أن العائدين ، بامتيازاتهم ، صاروا الأسياد على المقيمين وأصبحوا في الوقت نفسه عبيد امتيازاتهم التي منحها إياهم الإسرائيليون .
من المؤكد أن هناك وجهات نظر متعددة في الموضوع يرويها كل حسب موقعه ، فالعائدون لم يعودوا إلا بعد أن ضاقت " بهم الأرض العربية وحشرتهم في الممر الأخير " ، والسطر لمحمود درويش . لقد عادوا ليدفنوا في أرض بلادهم ، وكانوا أحيانا في المنافي لا يجدون لهم قبرا ، وحكاية معين بسيسو وناجي العلي ودفنهما في القاهرة ولندن حكاية .
أليس في استشهاد أبو جندل وخليل أيوب فضيلة تحسب للعائدين ؟
مما لا شك فيه أن هذين ومن قاتل واستشهد مثلهما يختلفون عن أولئك الذين عادوا مع السلطة قانعين بالعودة والامتيازات وأولئك الذين عادوا وسووا أوضاعهم المالية ثم رجعوا إلى المنافي ثانية .
كلام كثير قيل وما زال يقال في هذا الموضوع لم يظهر إلى العلن ولكنه يتهامس به . هذا ما تقوله عبارة الكنفنجي لخليل أيوب " آه من بيروت وأهل بيروت " وتقول أيضا أشياء أخرى ، فالعائدون من بيروت كانوا منفتحين بسبب طبيعة الحياة المنفتحة فيها ، والباقون صاروا منذ انتفاضة ١٩٨٧ محافظين اجتماعيا . لقد اختفت مظاهر الانفتاح التي كانت سائدة قبل الانتفاضة فأغلقت دور السينما والخمارات وارتدت النسوة الحجاب واختفت مظاهر الاختلاط بين الذكور والإناث في الأعراس ... إلخ ، وبذلك لم يتقبل المقيمون سلوك العائدين إلا في قليل من المدن مثل رام الله وأريحا ، أما نابلس وجنين والخليل فقد اختلف الأمر فيها .
وأنا أفكر في هذا في " رجل يشبهني " حضرت رواية فاروق وادي " سوداد : هاوية الغزالة " ( ٢٠٢٢ ) في ذهني .
كان ياسين شخصيتها المحورية شخصية انتهازية تماما ، فهو " لم يخض حربا في يوم من الأيام من أجل الوطن . لم يخض حتى معركة خاسرة ليقول في نفسه باعتداد : ومع ذلك فقد خضتها بشرف . لم يبذل قطرة من الدماء الزكية التي بذلها آخرون من أجل الوطن . لم يرفع علما في مظاهرة أو يافطة احتجاج عند باب سفارة معادية .... لم يبدد قطرة واحدة من مواد قلمه لأجل الوطن " . إنه متسلق وانتهازي وفيه من النقائص ما فيه ، وقد عاد مع العائدين ، لكن فضيلته الوحيدة أنه عاد إلى الوطن . عاد إلى وطن بدا له " خواء . فضاء فظ لا يحتمل ، فيما العالم كله ، حتى العالم المترامي الأطراف خارج الوطن ، تجلى له قاسيا ، موصدا ، بلا معنى " . عاد ياسين ليموت غريبا وحيدا ومتروكا فوق تراب الوطن . لم يمت ميتة أبو جندل وخليل ، ولم يتشابه ماضيه مع ماضيهما الثوري ، ولكنهم يتشابهون في أنهم ثلاثتهم ماتوا في أرضهم . هل تكفي فضيلة العودة لتغسل ذنوب ياسين ؟
لعلني أقارب في الكتابة القادمة نهاية آدم دنون وطريقة موته في المنفى ، وهي بلا شك طريقة موت لا يرغب فيها أحد .
في شبابه كتب محمود درويش :
" وأبي قال مرة :
الذي ما له وطن ،
ما له في الثرى ضريح ،
ونهاني عن السفر "
ومن قبل قال إبراهيم طوقان :
" فكر بموتك في أرض نشأت بها
واحفظ لموتك أرضا طولها باع " .
قبل أن يتوفى إميل حبيبي أوصى بأن يدفن في حيفا ويكتب على شاهد قبره :
" باق في حيفا " .
لعل البقاء على أرضنا هو فضيلتنا ، ولعل هذه هي فضيلة العائدين ولا أقول الوحيدة .
خربشات أدبية
١٨ / ١ / ٢٠٢٣

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى