قبل أن استعرض بعض مسائل هذا البحث، نتقدم بسؤال صغير: هل يخلق جو القصة قبل تكوين القصة ذاتها، أي قبل الإلمام التام بكل أوضاعها وشخصياتها وحوادثها؟ أن الإجابة على هذا السؤال قد تبدو مربكة، كثيرة الشعاب، والواقع غير هذا، فان أول ما يجب أن نفهمه أن الجو هو الذي (يؤدي) أو هو الذي يساعد على تأدية عملية الخلق في الرواية أو القصة، ومعنى هذا أن القصة لا يمكن أن تخلق أو تتكون أجزاؤها بعضها إلى بعض، كما لا يمكن أن تمر على أدوار التكوين حتى تصب في قالبها الأخير قبل أن يسبق هذا وجود الجو الذي تقع فيه هذه العمليات، إذ أن القصة كأي شيء حي يحتاج إلى الجو الذي يؤهل له عملية الظهور في الحياة والنمو والاكتمال
ذكرت (آنا جريجو فنا) في مذكراتها عن زوجها فيدرو دوستويفسكي القصصي الروسي الخالد أنه لما كان في سويسرا، كان كثير الاضطراب والملل والسأم، وأنه لم يألف سويسرا ولا أهلها كثيراً، بل كان كثير التحنان إلى روسيا دائم الشوق إليها. وقد بدا هذا ظاهراً في رسائله التي كان يبعث بها إلى بعض خلصائه في روسيا، وقد كان دوستويفسكي في تلك الآونة التي قضاها في سويسرا يعاني ضيقاً ماليا خانقاً، وكانت الديون التي الزم نفسه أدائها بعدى وفاة أخيه ميشيل تجعله يرى في سويسرا مأمناً لو كان رجلاً يلوذ بالفرار من المسئوليات والدائنين الذين ينتظرون عودته إلى البلاد لمطالبته بسداد ديونهم أو زجه في سجن المدنيين حتى يوفي دينه. . لكن هذا الرجل العظيم لم يغفل قط يوماً أثناء إقامته في سويسرا إلى الحنين إلى روسيا حتى أتيح له ذلك بعد سنوات. فلم يكد يصل إلى وطنه حتى أحس بأن الحياة قد عادت تدب في عروقه قوية مشبوبة. . مع أن وفود الدائنين لم تكن لتنقطع عن زيارة بيته على أثر وصله!
كتب دستويفسكي في بعض رسائله (أنني احتاج إلى الجو الروسي حتى أستطيع أن اكتب كما أريد) وهذه العبارة الدقيقة تكاد تحل بنفسها موضوع هذا البحث. فان هذا القصصي على الرغم من انه عاش في روسيا طوال حياته إلا سنوات قليلة قضاها في الخارج، ومع انه استطاع أن يختزن في ذاكرته وقلبه وعقله الباطن كل الاحساسات والحوادث، وأن يخلق الجو الروسي في كافة رواياته التي آلفها في سويسرا كنتيجة للاعتبارات السابقة، إلا انه مع هذا كله خشي أن هو ابتعد طويلاً عن وطنه أن يخف ويتضاءل مقدار الجو الذي اختزنه في حياته الماضية، وشعر بحاجته - على حد التعبير الأدبي - إلى أوكسجين روسي يملأ رئتيه. لأنه أستشعر بأنه مهما استنهض كل الذكريات في خلق الجو فأنه في حاجة إلى أن يكون دائماً في ذلك الجو ليطمئن على فنه من أن يختلط بأجواء أخرى فيفسد وتضعف روعته. أو تشيع فيه الفوضى والاضطراب
إن الفنان العظيم لابد أن يكون له جو خاص، هذا الجو هو ذوب مواهبه، هو العالم الذي يضع فيه افكاره، ويخلق بين جنباته أعماله الفنية؛ فإذا رأينا رجلاً مثل دستويفسكي يحتاج إلى جو روسيا لتكوين إعماله الأدبية، فهو يعطي لهذا الجو شكلاً ولوناً ورائحة تختلف عن غيره من سائر القصصيين الروسيين وإن اتفقوا جميعاً في شيء واحد، وهو الجو العام لبلادهم، إلا أن لكل منهم جوه الخاص. ومن هذه النقطة تتفاوت أقدار الفنانين تبعاً لقدرة كل منهم وسمو فنه وحذقه عن الآخرين
والقصصي الذي لا تلمح في عمله جواً خاصاً به، ولا تحس بهذا الجو أو وجوده، أو ترى جوه خليطاً من تأثرت شتى؛ هذا القصصي لا يمكن أن يكون قصصياً صحيحاً. لأن التركيز ينقصه، بل هو قصصي (اكتسب) فن القصة اكتساباً، والتقط موهبته الفنية من مواهب الكثيرين، واستلب من كل الأجواء الأدبية التي عاش فيها شيئاً، ليعيش لحظات على التقليد أو المحاكاة. وهذا الفنان تبدو حياته الفنية مهددة دائماً بالموت والانتهاء، لأنه شائع بين كافة الفنانين، لا شخصية له بينهم
إن أهمية وجود الجو في القصة لا حد لها. فأن هذا الجو هو الذي تخلق فيه الشخصيات والحوادث، وكلما كان القصصي أو المصور، أو الموسيقي، أو الشاعر، مؤمناً بالجو الذي يعيش فيه ارتفع فنه إلى الذروة، واستطاع أن يبرع في إيضاح عمله الفني
قد تكون القصة - في موضوعها - بسيطة لا شذوذ في حوادثها، ولا مؤثرات مفتعلة كما نرى في القصص الرخيص، ومع هذا فأن القصصي يستطيع أن يسمو بالحادثة الصغيرة إلى أوج الفن القصصي؛ وذلك لان طريقة العرض والتقديم والجو الذي تنطلق فيه القصة هي التي تحيا بها القصة. ومن هنا فقط نستطيع أن نقارن ونفاضل بين القصصيين، فأن القصصي لا يمتاز عن غيره بكثرة الأغراب في الحوادث، بل هو يمتاز بجوه، هذا الجو الذي تحيا فيه شخصيات قصصه؛ حتى ليشعر القارئ بأنه يعيش في مع تلك الشخصيات، وبهذا يحس القارئ أنه أمام عمل فني مجيد، جدير بالتأمل العميق، لا يمكن أن يذهب أو يضمحل بعد قليل كما تذهب صور الحوادث التي يقرأها الإنسان في الصحف، والتي يعتقد بعض الناس - خطأ - أن هذه الحوادث من القصص، وهذه الحوادث في المعنى الفني أحط أنواع القصة وأكثرها تفاهة
ولنقرب هذا، نقول أن كثيرين يسجنون مثلاً، فإذا خرج أحدهم من السجن وأحببت أن يورد لك شيئاً عما رآه وأحسه في المدة التي أمضاها في السجن اقتصر على ذكر الحوادث، وهذا شيء عادي يمكن لكل إنسان أن يفعله؛ بينما لا يعمد إلى ذلك الفنان الذي يعيش في جو السجن، فهو يرى الحوادث التي وقعت له في السجن في المكانة الثانية. أي أن جو السجن ساعد مواهبه على أن يكون شخصاً إيجابياً لخلق الاحساسات والتأملات والأفكار، بعد أن انعكست عليه حوادث السجن المختلفة، فأخرجها على النحو الذي أحس به، وهذه هي شخصية الفنان. إذ أن الحادثة تمر به فلا تعبر بسيطة كما تعبر بسائر الناس، ويرى المنظر، فلا يراه كما يراه غيره بصورته الظاهرة؛ بل يراه بعينه الفنية التي تنفذ إلى أبعاد شتى لا يمكن أن تخطر على ذهن عادي، أو تتلفت شعوره
إن ثقافة الفنان وسعة اطلاعه لا تكفيان لكي يكون القصصي كاتباً مجيداً، يستطيع أن يخلق الجو القصصي؛ وقد يبرع القصصي في تكوين القصة من كل جوانبها، ولكنه يفشل فشلاً تاماً في إيجاد الجو، ولنضرب المثل على هذا نقول: إن الأغاني الريفية تحس فيها حرارة الإيمان بالبيئة، وهي على الرغم من صراحتها وخلوها من الزخارف الكثيرة التي تفسد طبيعة الأغاني وتباعد بينها وبين الحقائق، وقربها من الطبيعة وتعبيرها المبين عن مشاعر إنسانية مأخوذة من البيئة هي في قيمتها الفنية أسمى من الأغاني التي لا تعتمد على الجو، بل تعتمد على اللامعان في التأثير بذكر الهجر، والوصال، والدموع، وما إلى ذلك من العواطف التي يمكن حشدها في كل أغنية في أي إقليم. وقد تكون الأغنية الأخيرة في تجويدها ورقتها وزخارفها، أحسن من الأولى صنعاً، إلا أنها مفقودة الطابع
وعلى هذا الوضع نقول بأن (الجو) لا يمكن أن يخلق عند الفنان إلا إذا كان مؤمناً كل الأيمان بالبيئة، وحقيقة الفن الذي يعالجه. . . .
محمود عزت موسى
مجلة الرسالة - العدد 108
بتاريخ: 29 - 07 - 1935
ذكرت (آنا جريجو فنا) في مذكراتها عن زوجها فيدرو دوستويفسكي القصصي الروسي الخالد أنه لما كان في سويسرا، كان كثير الاضطراب والملل والسأم، وأنه لم يألف سويسرا ولا أهلها كثيراً، بل كان كثير التحنان إلى روسيا دائم الشوق إليها. وقد بدا هذا ظاهراً في رسائله التي كان يبعث بها إلى بعض خلصائه في روسيا، وقد كان دوستويفسكي في تلك الآونة التي قضاها في سويسرا يعاني ضيقاً ماليا خانقاً، وكانت الديون التي الزم نفسه أدائها بعدى وفاة أخيه ميشيل تجعله يرى في سويسرا مأمناً لو كان رجلاً يلوذ بالفرار من المسئوليات والدائنين الذين ينتظرون عودته إلى البلاد لمطالبته بسداد ديونهم أو زجه في سجن المدنيين حتى يوفي دينه. . لكن هذا الرجل العظيم لم يغفل قط يوماً أثناء إقامته في سويسرا إلى الحنين إلى روسيا حتى أتيح له ذلك بعد سنوات. فلم يكد يصل إلى وطنه حتى أحس بأن الحياة قد عادت تدب في عروقه قوية مشبوبة. . مع أن وفود الدائنين لم تكن لتنقطع عن زيارة بيته على أثر وصله!
كتب دستويفسكي في بعض رسائله (أنني احتاج إلى الجو الروسي حتى أستطيع أن اكتب كما أريد) وهذه العبارة الدقيقة تكاد تحل بنفسها موضوع هذا البحث. فان هذا القصصي على الرغم من انه عاش في روسيا طوال حياته إلا سنوات قليلة قضاها في الخارج، ومع انه استطاع أن يختزن في ذاكرته وقلبه وعقله الباطن كل الاحساسات والحوادث، وأن يخلق الجو الروسي في كافة رواياته التي آلفها في سويسرا كنتيجة للاعتبارات السابقة، إلا انه مع هذا كله خشي أن هو ابتعد طويلاً عن وطنه أن يخف ويتضاءل مقدار الجو الذي اختزنه في حياته الماضية، وشعر بحاجته - على حد التعبير الأدبي - إلى أوكسجين روسي يملأ رئتيه. لأنه أستشعر بأنه مهما استنهض كل الذكريات في خلق الجو فأنه في حاجة إلى أن يكون دائماً في ذلك الجو ليطمئن على فنه من أن يختلط بأجواء أخرى فيفسد وتضعف روعته. أو تشيع فيه الفوضى والاضطراب
إن الفنان العظيم لابد أن يكون له جو خاص، هذا الجو هو ذوب مواهبه، هو العالم الذي يضع فيه افكاره، ويخلق بين جنباته أعماله الفنية؛ فإذا رأينا رجلاً مثل دستويفسكي يحتاج إلى جو روسيا لتكوين إعماله الأدبية، فهو يعطي لهذا الجو شكلاً ولوناً ورائحة تختلف عن غيره من سائر القصصيين الروسيين وإن اتفقوا جميعاً في شيء واحد، وهو الجو العام لبلادهم، إلا أن لكل منهم جوه الخاص. ومن هذه النقطة تتفاوت أقدار الفنانين تبعاً لقدرة كل منهم وسمو فنه وحذقه عن الآخرين
والقصصي الذي لا تلمح في عمله جواً خاصاً به، ولا تحس بهذا الجو أو وجوده، أو ترى جوه خليطاً من تأثرت شتى؛ هذا القصصي لا يمكن أن يكون قصصياً صحيحاً. لأن التركيز ينقصه، بل هو قصصي (اكتسب) فن القصة اكتساباً، والتقط موهبته الفنية من مواهب الكثيرين، واستلب من كل الأجواء الأدبية التي عاش فيها شيئاً، ليعيش لحظات على التقليد أو المحاكاة. وهذا الفنان تبدو حياته الفنية مهددة دائماً بالموت والانتهاء، لأنه شائع بين كافة الفنانين، لا شخصية له بينهم
إن أهمية وجود الجو في القصة لا حد لها. فأن هذا الجو هو الذي تخلق فيه الشخصيات والحوادث، وكلما كان القصصي أو المصور، أو الموسيقي، أو الشاعر، مؤمناً بالجو الذي يعيش فيه ارتفع فنه إلى الذروة، واستطاع أن يبرع في إيضاح عمله الفني
قد تكون القصة - في موضوعها - بسيطة لا شذوذ في حوادثها، ولا مؤثرات مفتعلة كما نرى في القصص الرخيص، ومع هذا فأن القصصي يستطيع أن يسمو بالحادثة الصغيرة إلى أوج الفن القصصي؛ وذلك لان طريقة العرض والتقديم والجو الذي تنطلق فيه القصة هي التي تحيا بها القصة. ومن هنا فقط نستطيع أن نقارن ونفاضل بين القصصيين، فأن القصصي لا يمتاز عن غيره بكثرة الأغراب في الحوادث، بل هو يمتاز بجوه، هذا الجو الذي تحيا فيه شخصيات قصصه؛ حتى ليشعر القارئ بأنه يعيش في مع تلك الشخصيات، وبهذا يحس القارئ أنه أمام عمل فني مجيد، جدير بالتأمل العميق، لا يمكن أن يذهب أو يضمحل بعد قليل كما تذهب صور الحوادث التي يقرأها الإنسان في الصحف، والتي يعتقد بعض الناس - خطأ - أن هذه الحوادث من القصص، وهذه الحوادث في المعنى الفني أحط أنواع القصة وأكثرها تفاهة
ولنقرب هذا، نقول أن كثيرين يسجنون مثلاً، فإذا خرج أحدهم من السجن وأحببت أن يورد لك شيئاً عما رآه وأحسه في المدة التي أمضاها في السجن اقتصر على ذكر الحوادث، وهذا شيء عادي يمكن لكل إنسان أن يفعله؛ بينما لا يعمد إلى ذلك الفنان الذي يعيش في جو السجن، فهو يرى الحوادث التي وقعت له في السجن في المكانة الثانية. أي أن جو السجن ساعد مواهبه على أن يكون شخصاً إيجابياً لخلق الاحساسات والتأملات والأفكار، بعد أن انعكست عليه حوادث السجن المختلفة، فأخرجها على النحو الذي أحس به، وهذه هي شخصية الفنان. إذ أن الحادثة تمر به فلا تعبر بسيطة كما تعبر بسائر الناس، ويرى المنظر، فلا يراه كما يراه غيره بصورته الظاهرة؛ بل يراه بعينه الفنية التي تنفذ إلى أبعاد شتى لا يمكن أن تخطر على ذهن عادي، أو تتلفت شعوره
إن ثقافة الفنان وسعة اطلاعه لا تكفيان لكي يكون القصصي كاتباً مجيداً، يستطيع أن يخلق الجو القصصي؛ وقد يبرع القصصي في تكوين القصة من كل جوانبها، ولكنه يفشل فشلاً تاماً في إيجاد الجو، ولنضرب المثل على هذا نقول: إن الأغاني الريفية تحس فيها حرارة الإيمان بالبيئة، وهي على الرغم من صراحتها وخلوها من الزخارف الكثيرة التي تفسد طبيعة الأغاني وتباعد بينها وبين الحقائق، وقربها من الطبيعة وتعبيرها المبين عن مشاعر إنسانية مأخوذة من البيئة هي في قيمتها الفنية أسمى من الأغاني التي لا تعتمد على الجو، بل تعتمد على اللامعان في التأثير بذكر الهجر، والوصال، والدموع، وما إلى ذلك من العواطف التي يمكن حشدها في كل أغنية في أي إقليم. وقد تكون الأغنية الأخيرة في تجويدها ورقتها وزخارفها، أحسن من الأولى صنعاً، إلا أنها مفقودة الطابع
وعلى هذا الوضع نقول بأن (الجو) لا يمكن أن يخلق عند الفنان إلا إذا كان مؤمناً كل الأيمان بالبيئة، وحقيقة الفن الذي يعالجه. . . .
محمود عزت موسى
مجلة الرسالة - العدد 108
بتاريخ: 29 - 07 - 1935