د. أحمد الحطاب - القافلة تسير والكلاب تنبح

لا داعي لتفسير هذه المقولة المشهورة. القافلة يمكن أن تُمثِّلَ شخصا أو جماعةً من الأشخاص أو بلدا بأكمله. ما يجمع هذا الشخص أو جماعةَ الأشخاص أو البلدَ بأكمله هو أن لهم هدفٌا أو أهدافا يريدون تحقيقَها مهما كانت الظروف والأحوال ومهما كانت الصعوبات ومهما انتصبت العراقيل في وجهِ هذا المسعى. ما يميِّز أعضاءَ القافلة أو الأطراف الثلاثة لهذه القافلة هو أنهم مُسلَّحون بعزيمة قوية لا تنكسر بأي حالٍ من الأحوال. أما الكِلاب، فهم جماعةٌ من الأشخاص شُغلُهم الشاغل هو أنهم لا يريدون الخيرَ لا للشخص ولا للجماعة ولا للبلد بأكمله. ما يُضمرونه لهذه الأطراف الثلاثة هو الحقدَ والحسدَ المجانين ولو أن بعضَ الكلاب حِقدُهم وحسدُهم مدروسان ومخطَّطٌ لهما مسبقا.

وعندما نقول "والكِلاب تنبح"، فهذا معناه أن الجهةَ الحاقدةَ والحاسدةَ تنزعِج عندما ترى الأطرافَ الثلاثةَ تُحقِّق الأهداف التي رسمتها، وخصوصا، عندما يتأتَّى هذا التَّحقيقُ بعد التَّغلُّب على الصعوبات والعراقيل. ولماذا ينزعج الحاقِدون والحُسَّاد؟ لأنهم، بكل بساطة، لا يستطيعون أن يوقفَوا مسيرةَ القافلة رغم الحِقد والحسد وكيد الكائدين والتَّآمُر والدسائس.

والآن لندخُلَ في صُلب موضوع هذه المقالة ونقول، بكل وضوح وبصوتٍ عالي، أن القافلةَ هي المغربُ، أي بلد بأكمله، والكِلاب كثيرة ومتنوِّعة وعلى رأسها النظامُ الجزائري الذي أصبحت لديه "عُقدةٌ إسمُها المغرب". عُقدةٌ تُلازمه صُبحاً ومساءً. عُقدةٌ تُؤرِّق هذا النظامَ وتخنق أنفاسَه. بل إن هذا النظامَ أصبح شغلُه الشاغل هي هذه العُقدة التي دفعته ليُكِنَّ عداءً للمغرب ما بعده عداء. عداءٌ لم يشهد المغربُ مثيلاً له طيلةَ قرون. بل إن هذا النظامَ أصبحت له سياسةٌ خارجيةٌ وحيدة ويتيمة خيطُها الناظم، حصريا، يتمثَّل في الإساءة للمغرب كلما سمحت له الظروف الإقليمية والدولية بذلك.

وأكثر من هذا وذاك، هو أن النظامَ الجزائري مستعِد اتمَّ الاستعداد للتَّضحية بمصالح الدولة والشعب الجزائريين شريطةَ أن تؤدِّيَ هذه التّضحيةُ إلى الإساءة للمغرب. واللهِ لغريبٌ أمرُ هذا النظام وغريبٌ كذلك غباءُه المفرط وغريبٌ تماديه في الإساءة للمغرب رغم سقوطِه بانتظامٍ في الحُفَرِ التي حفرها ويحفِرها لهذا الأخير. فما هو سرُّ هذا الإلحاح والتَّمادي في الإساءة للمغرب؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بدَّ من توضيح من الأهمِّية بمكان. الجزائر، منذ أن نالت استقلالَها، تحكُمُها طُغمةٌ عسكرية إما مباشرةً كما كان الشأن في عهد هواري بومدين وإما بكيفية غير مباشرة، أي تحكمها فعليا طغمة عسكرية من وراء الستار لكن بواجهة مدنية لا حول ولا قوَّةَ لها. واجهةٌ مدنِيةٌ لا تملك سلطة القرار ولو في أبسط الأمور واتفهها.

فما دام العسكرُ (الجنيرالات) هو مَن يحكم فعليا الجزائر، فرئاسة البلاد والحكومة والبرلمان والقضاء والإعلام والأحزاب السياسية والمؤسسات العمومية… ليسوا إلا عناصر من الواجهة المدنية التي تخدم مصالحَ العسكر عوضَ أن تكونَ بجانب الشعب وتستجيب لهمومه وتطلُّعاته. والدليل على ذلك، ما هو تفسيرُ أن تكونَ الجزائرُ غنيَّةً بالنفط والغاز وشعبُها يقضي أوقاتاً طويلةً في الطوابير للحصول على "شكارة حليب" والزيت والدقيق والعديد من المواد الأساسية في الحياة اليومية للمواطنين الجزائريين… فأين تذهب ملايير الدولارات مقابل بيع النفط والغاز؟ تذهب لزرع الفساد وشِراء الضمائر والذِّمم للإساءة للمغرب. تذهب لشراء دول بأكملها ولشراء السياسيين من ذوي النفوذ على المستوى الإقليمي والدولي… تذهب إلى زرع الفساد، وبالتالي، إلى حِرمان المواطنين من أبسط حقوقهم المعيشية… فكيف تواجه قافلةُ المغرب هذه الإساءة المُمَنهجة؟

تواجه قافلةُ المغرب هذه الإساءةَ بمنتهى الذكاء والحِكمة، أي أن غباءَ الحُكم العسكري تقابلُه عقلانيةٌ فائقة تحلِّل الأوضاعَ وتستشف منها الدروسَ على المدى المتوسط والبعيد. بل إن ما يظنه العسكر عرقلةً لمسيرة القافلة، يحوِّله الذكاءُ المغربي إلى مزايا في صالح مسيرة هذه القافلة. أكثر من هذا وذاك، هو أن القافلةَ لا تردًّ على هذه الإساءة ولا تدخل في سِجالٍ مع الطُّغمة العسكرية كما ترغب هذه الأخيرة في ذلك. بل إن القافلةَ تواصل سيرَها بتأنٍّ وصمتٍ في جميع الاتجاهات (اجتماعيا، اقتصاديا، صناعيا، ثقافيا…) غير آبهة بنُباح الكلاب. فهل يستوي أولو الغباء مع أولي الألباب؟

لا يستوون لأنه، بكل بساطة، شتان ما بين النظام الجزائري العسكري الحاكم وبين نظام الحُكم المغربي. النظام العسكري الجزائري مفروض على الشعب الجزائري بالقوة وبالتَّزوير وبالإرشاء والكذب والنِّفاق وبَيعِ الوهم… بينما نظام الحُكم الملكي في المغرب تضرب جذورُه في أعماق التاريخ ومحبوب لدى المواطنين وتربطه بالشعب أواصرٌ تضرب، هي الأخرى، جذورُها في أعماق التاريخ. أما النظامُ السياسي المغربي، رغم عيوبه وفُتُوَّة ديمقراطيته، فإنه مُدستَرٌ ويعطي للمواطن حرِّيةَ التَّعبير عن آرائه وهمومه، خلافا للنظام العسكري الجزائري الذي، بدون قمعٍ، لاوجودَ له. كل ما هو مدني، في ظل حكمِ العسكر، ليس إلا ذرُّ الرماد على العيون وتخديرٌ للرأي العام العالمي.

فما هو سرُّ هذا الإلحاح والتَّمادي في الإساءة للمغرب؟

السِّرُّ هو أن النظامَ العسكري يتَّخذ من قضية الصحراء المُفتعلة (المُفَبْرَكَة من طرف العسكر) ومن أكذوبة تقرير مصير الشعوب وسيلةً يخدِّر بها عقولَ وإحساسَ الشعب الجزائري ليضمنَ بقاءه في الحكم وليستمرَّ في نهب ثروات وأموال هذا الشعب. بمعنى أن وجودَ هذا النظام مرتبطٌ بوجود جار يعتبره هذا الأخيرُ عَدُوّاً للجزائر، شعبا وحكومةً. بل إن النظامَ العسكري يعمل ليل نهار، عبر وسائل إعلامِه المختلفة، ليرسِّخَ فكرةَ "العدو" في أذهان المواطنين الجزائريين. كما أن النظامَ العسكري يعرف حق المعرفة أن المغربَ خطأ خطوات جبارة في مجالات التَّطوُّر والتَّنمية بجميع أشكالهما. ولا داعيَ للقول أن المغرب أصبح فعلا قوَّةً إقليمية، اقتصادية، سياسية ودِبلوماسية. وأسبابُ غلقِ الحدود بين البلدين ليست هي تلك التي يُصرِّح بها النظام العسكري. السبب الحقيقي هو أن تَركَ الحدود مفتوحةً سيمكِّن المواطنين الجزائريين من السفر إلى المغرب وسيرون بأم أعينهم التَّطوُّرَ الحاصل في البلاد، وخصوصا أن هذه الأخيرة لا تتوفَّر على النفط والغاز كما هو الشأنُ في الجزائر. حينها، سيتساءل المواطنون الجزائريون عن مصير الأموال الهائلة التي يُوفِّرها بيعُ النفط والغاز! وهذا، بالطبع، ليس في صالح الطُّغمة العسكرية التي، هي وأتباعُها، المستفيد الوحيد من ثروات البلاد.

كل التَّصرُّفات والنَّعرات التي يقوم بها النظامُ العسكري الحاكم في الجزائر لا علاقةَ لها لا بالسياسة ولا بتقرير مصير الشعوب ولا بالتَّقارب مع إسرائيل ولا بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن… كل ما في الأمر، أن هذه التصرفات والنعرات هي محاولات يائسة لضمان بقائه في السلطة ولتحريف الشعب الجزائري عن قضيتِه الحقيقية المتمثِّلة، أولا وقبل كل شيء، في التَّخلُّصِ من الحكم العسكري وتعويضه بحكم مدني نابع من إرادة الشعب. فإن كان هناك من تقريرٍ لمصير الشعوب، فالشعبُ الجزائري أولى من غيره بتقرير مصيره سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا، صناعيا، دوليا، إقليميا… لقد صدق مَن قال : "اللِّي حْفَرْ شي حُفْرَة يِطِيحْ فيها".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى