1 - نظرية ذرات القوة
2 - التآلف الأزلي
3 - نظرية المعرفة 4 - الله والعالم
لست أدري كم ندنو من الحق حين نقرر أن لكل أمة طابعا في التفكير يطبع إنتاجها الفكري بوجه عام، ولولا أن ما تبادله الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد لم يجف مداده بعد لزعمت هذا التقييم في يقين لا يعرف الشك. ألا تتميز إنجلترا بالنزعة الواقعية ألمانيا بالنزعة التفكيرية أليست إنجلترا مهدا للأفكار العملية التي تقف عند الواقع المحس (لا تعدوه) بل تكاد ألا تعترف بما وراءه. أليست ألمانيا منبتا خصبا للمجهود العقلي العميق، الذي يضرب فيما وراء الطبيعة، ويوشك ألا يعترف لهذا العالم المادي بحقيقة أو وجود، ثم أليست فرنسا موطنا للنزعة الرياضية؟ ألا يتميز الرجل الإنجليزي بالوضوح الذي أدى به إلى التمسك بالحقائق الواقعة، والفرنسي بالدقة التي طوحت به في بيداء اللاأدرية والشك، لأنه ينشد حقا يبلغ حد اليقين الرياضي فلا يجد. كما يتميز الألماني بالعمق في التفكير الذي انتهى به إلى اعتبار الفكر أصلا للوجود؟ عندي أن هذا كله حق يؤيده تاريخ الفلسفة.
ولم يكن ليبنتز فيلسوفا ألمانيا فحسب، انما كان أب الفلسفة الألمانية الحديثة غير منازع، أفتستطيع إذن أن تصور لنفسك عمق تفكيره وإمعانه في البحث عما وراء الطبيعة؟ وقد شاء له ربك أن يكون مهبطا تجتمع عنده أطراف النقائض، فيمثلها جميعا، ثم يخرجها للناس فلسفة متحدة متجانسة، فهاهو ذا قد تسلم ميراث ديكارت وسبينوزا من ناحية، وباكون ولوك من ناحية اخرى، فالتقت لديه بذلك سلسلتان متضاربتان من التفكير، إحداهما (ديكارت وسبينوزا) تنكر الحقائق الفردية وتؤكد قانونها الخالد: أي أن هذا الإنسان المعين أو تلك الشاة أو ذلك الطائر أو ما شئت من أفراد، ليست حقائق مقصودة لذاتها، انما هي مجرد تطبيق لقانون شامل، فأما هذه الافراد فذاهبة مع الموت، وأما ذلك القانون فخالد لا يعتريه الفناء. والأخرى (باكون ولوك) تسخر من كل هذا، ولا تعرف الا هذه الحقائق الفردية التي نراها ونلمسها. التقى هذا المذهبان في رأس ليبنتز فوقف منهما، موقفاً وسطا، وأخذ من كل منهما بمقدار، ففرض أن العالم يتكون من ذرات أولية لا تقبل التجزئة وليس لها امتداد، ثم زعم أن كل ذرة منها (يلاحظ إننا نستعمل كلمة ذرة هنا في شيء من التجوز لأن الذرة المادية تختلف عن الذرة التي فرضها ليبنتز في أن للأولى امتدادا وإنها تقبل التجزئة، واما الثانية فروحية تتألف من القوة لا من المادة) حقيقة متميزة مستقلة الا انها في الوقت نفسه تشمل صورة الكون بأسره في جوفها وتمثله أدق تمثيل. وبقدر دقتها في هذا التصوير والتمثيل يكون دنوها من الكمال، فهي فردية من ناحية وكونية من ناحية اخرى. ولابد لنا لكي نفهم ليبنتز على حقيقته أن نتناول بالشرح نظريته في الذرات ثم فكرته في إئتلافها، كما نلم برأيه في المعرفة وطريقة وصولها إلى الذهن. وسنرى أنها محاولة أخرى للتوفيق بين ديكارت ولوك، فقد مزج بين ما ارتآه الأول من وجود آراء فطرية تولد مع الطفل عند ولادته ولا تجيء عن طريق التحصيل، وما ذهب إليه الثاني من ان العقل يخرج إلى هذا العالم صحيفة بيضاء ثم تخط فيها التجارب ما تشاء.
1 - نظرية ذرات القوة
مم تتكون أجزاء هذا الوجود؟ مم يتكون هذا الرجل وذلك الماء وتلك القطعة من السكر؟ يجيب ديمقريطس أن هذا الوجود على تباين ظواهره إنما يتكون من ذرات اجتمع بعضها إلى بعض، فكونت هذا الشيء أو ذاك، وينكر ديكارت وسبينوزا هذا القول ويؤكدان أن اجزاء العالم على اختلافها إنما تتكون من مادة كونية متحدة لا تنقسم إلى أجزاء لأنها عنصر أولي واحد، ولكن ليبنتز يرد الفكرتين جميعا، فهذه المادة الكونية التي فرضها سبينوزا شاملة للوجود تبرز الكون حقيقة واحدة تتلاشى فيها كل الحقائق الفردية التي نصادفها في الحياة العملية، وتلك الجزئيات التي زعمها جماعة الذريين أصلا للأجسام، لابد ان تكون (نظريا على الأقل) قابلة للتقسيم إلى مالا نهاية، مادامت قطعا من المادة، لأن الذهن لا يستطيع أن يتصور جزءاً ماديا لا يقبل التجزئة، وإذن فهي مركبة ونحن إنما نقصد إلى أيجاد أبسط العناصر التي يمكن اعتبارها أصلا مطلقا للكون. فلابد لنا من الإمعان في البحث حتى ننتهي إلى عنصر لا يقبل التجزئة، ويكون له في الوقت نفسه وجود حقيقي ملموس. ولا تصلح النقطة الهندسية أن تكون هي العنصر المنشود. لانها تحقق شرطاً واحداً وهو عدم قابلية التقسيم، ولكن لا يتوفر فيها الوجود الحقيقي، كذلك لا يجوز أن نفرض جسما ماديا كائنا ما كان حجمه، لأنه وإن توفر فيه الوجود الحقيقي، لا يحقق شرط البساطة، إذ لا يسعنا الا أن نتصور إمكان تجزئته إلى مالا نهاية له من الأجزاء. يقدم ليبنز هذا الاعتراض، ثم يزعم أن ذرات القوة هي العنصر المنشود. لانها موجودة لا ريب في وجودها. وليست مادية حتى تتهم بإمكان التقسيم. وهي فضلا عن ذلك منبثة في الكون بأسره، هذه القوى الأولية هي التي تتكون منها حقيقة كل شيء، فهي العنصر الذي بنيت منه المادة والروح على السواء. وهي تختلف عن المادة التي فرضها سبينوزا في انها ذرات فردية لا نهائية في عددها وطبيعتها. أما مادة سبينوزا فهي كتلة متحدة متجانسة كما تباين ذرات ديمقريطس في أنها ليست مادة متينة بل مشحونة بالحياة والحركة. وهي ليست مجرد تكرار الصورة بعينها بل متباينة مختلفة إلى أقصى حدود التباين والاختلاف في الكيف والفاعلية. حتى إنك لا تجد في الكون كله ذرتين متشابهتين، لأنه لو كان ذلك لكان خلق إحداهما عبثا لا مبرر له. ولهذه الذرات القوية (نسبة إلى القوة) خاصتان: فهي في آن واحد شاملة للكون ومنعزلة عنه. هي من ناحية وحدات بسيطة مستقلة وليس لها نوافذ تطل منها على العالم الخارجي أو ينفذ لها شيء منه، لا يمكن أن توجد من عدم كما يستحيل أن تعدم بعد وجود الا بإرادة الله. كل واحدة منها عالم صغير يسير بمقتضى طائفة من القوانين كما لو لم يكن في الوجود غيرها سوى الله. وهي من ناحية اخرى شاملة للكون، لانها وإن تكن منعزلة بنفسها مستقلة في سيرها الا أن لها من القوة ما تستطيع به أن تمثل كل ما يحتوي الكون من ذرات قوية، أو بعبارة أخرى كل ذرة ينعكس فيها الكون كله، بحيث لو استطعنا أن نصل إلى فهم واحدة فقد فهمنا الكون بأسره. فكل واحدة تحمل في طياتها ماضي العالم ومستقبله. ويعزو ليبنتز إلى هذه الذرات نوعا من الإدراك يختلف عن إدراك الكائنات المفكرة، أي أن هناك درجات للإدراك لا نهاية لها، ومعنى ذلك أنه لا يعترف بوجود المادة الميتة، إنما أجزاء المادة جميعا ضروب من الأحياء تختلف في كمية الحيوية والتفكير. وبعبارة أخرى يقول: أن هناك درجة من الإدراك الصحيح الكامل، ثم يأخذ هذا الإدراك في النقص والغموض كلما نزلت في سلم الكائنات، وكلما كان إدراك الذرة واضحاً وتصويرها للكون دقيقاً، كانت أكثر حيوية وأحد نشاطا، والله تعالى هو وحده القادر على ان يكون له إدراكات واضحة لا يشوبها شيء من غموض أو ما يشبه الغموض، وإذن فهو وحده عبارة عن فاعلية خالصة ونشاط مطلق، وكل مخلوق سواه من الإنسان فنازلاً إلى أحط الكائنات، يكون فعالا من ناحية ومنفعلا من ناحية اخرى، وهذا الجانب المنفعل من الذرة، أي الجانب السلبي، هو ما يسمى بالعنصر المادي. أي أن وجود المادة السلبية في الذرة القوية هو الذي يحول دون وضوح إدراكها. وبعبارة واضحة. كلما رجحت في الكائن كفة الجانب الروحي الفعال على العنصر المادي السلبي كان اكثر وضوحا في إدراكه.
وانك لترى العالم مليئا بهذه الذرات المدركة، كل منها مستقل منعزل. ومع ذلك لن تجد بينها فواصل تباعد بينها، بل هي متداخلة بعضها في بعض، متصلة على أشد ما يكون الاتصال، وهذا ما يسميه ليبنتز بقانون الاستمرار. فليس ثمة تناقض أو اضطراب. أبدأ من المادة الجامدة إلى العقل المفكر تجده طريقا واحدة متصلة يتزايد فيها الإدراك شيئاً فشيئا في تدرج غير محسوس، وسر من النبات إلى الإنسان فسترى انك انما تسلك سبيلا ليس فيها حوائل أو عثرات. بل تعلو بك قليلا حتى تنتهي إلى قمة الجبل دون أن تشعر بالصعود!
ويشير ليبنتنز إلى مراحل ثلاث تجتازها في طريقك من الكائنات الدنيا إلى طبقاتها العليا. فذرات الطبقة السفلى. أي ذرات الجماد والنبات تدرك وكفى. فهي أشبه ما تكون بالأحياء الغافية أو النائمة التي لا يرتفع إدراكها إلى درجة الشعور. والمرتبة التالية لتلك هي ذرات الحيوان، ولها فوق الإدراك ذاكرة. ولكنها لا تسمو إلى درجة العقل، وإدراكها شبيه بالأحلام الغامضة، ثم تجيء الكائنات البشرية فوق تلك المرتبة، وهي التي وهبت عقلا وشعورا بالذات. ويذكر لينتنز ان الله تعالى هو أسمى هذه المراتب جميعا فبينما تراها تتفاوت في إدراكها غموضا ووضوحا، ترى إدراكاته سبحانه وتعالى واضحة كلها.
وليست هذه الذرات مطمئنة إلى مراتبها راضية بمقامها، بل تسعى كل واحدة سعيا متواصلا إلى السمو والارتفاع نحو الكمال لا ترضى به بديلا. فهي دائبة أبداً. لا تدخر وسعا لكي تحقق هذا الكمال الأسمى بانتقالها من مرتبة إلى مرتبة حتى تصل إلى هدفها المنشود، وليس من شك في أن ليبنتنز كان بذلك القول بشيرا بمذهب دارون الذي لا يعدو جوهره هذا التطور نحو السمو والكمال.
مجلة الرسالة - العدد 20
بتاريخ: 01 - 11 - 1933
2 - التآلف الأزلي
3 - نظرية المعرفة 4 - الله والعالم
لست أدري كم ندنو من الحق حين نقرر أن لكل أمة طابعا في التفكير يطبع إنتاجها الفكري بوجه عام، ولولا أن ما تبادله الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد لم يجف مداده بعد لزعمت هذا التقييم في يقين لا يعرف الشك. ألا تتميز إنجلترا بالنزعة الواقعية ألمانيا بالنزعة التفكيرية أليست إنجلترا مهدا للأفكار العملية التي تقف عند الواقع المحس (لا تعدوه) بل تكاد ألا تعترف بما وراءه. أليست ألمانيا منبتا خصبا للمجهود العقلي العميق، الذي يضرب فيما وراء الطبيعة، ويوشك ألا يعترف لهذا العالم المادي بحقيقة أو وجود، ثم أليست فرنسا موطنا للنزعة الرياضية؟ ألا يتميز الرجل الإنجليزي بالوضوح الذي أدى به إلى التمسك بالحقائق الواقعة، والفرنسي بالدقة التي طوحت به في بيداء اللاأدرية والشك، لأنه ينشد حقا يبلغ حد اليقين الرياضي فلا يجد. كما يتميز الألماني بالعمق في التفكير الذي انتهى به إلى اعتبار الفكر أصلا للوجود؟ عندي أن هذا كله حق يؤيده تاريخ الفلسفة.
ولم يكن ليبنتز فيلسوفا ألمانيا فحسب، انما كان أب الفلسفة الألمانية الحديثة غير منازع، أفتستطيع إذن أن تصور لنفسك عمق تفكيره وإمعانه في البحث عما وراء الطبيعة؟ وقد شاء له ربك أن يكون مهبطا تجتمع عنده أطراف النقائض، فيمثلها جميعا، ثم يخرجها للناس فلسفة متحدة متجانسة، فهاهو ذا قد تسلم ميراث ديكارت وسبينوزا من ناحية، وباكون ولوك من ناحية اخرى، فالتقت لديه بذلك سلسلتان متضاربتان من التفكير، إحداهما (ديكارت وسبينوزا) تنكر الحقائق الفردية وتؤكد قانونها الخالد: أي أن هذا الإنسان المعين أو تلك الشاة أو ذلك الطائر أو ما شئت من أفراد، ليست حقائق مقصودة لذاتها، انما هي مجرد تطبيق لقانون شامل، فأما هذه الافراد فذاهبة مع الموت، وأما ذلك القانون فخالد لا يعتريه الفناء. والأخرى (باكون ولوك) تسخر من كل هذا، ولا تعرف الا هذه الحقائق الفردية التي نراها ونلمسها. التقى هذا المذهبان في رأس ليبنتز فوقف منهما، موقفاً وسطا، وأخذ من كل منهما بمقدار، ففرض أن العالم يتكون من ذرات أولية لا تقبل التجزئة وليس لها امتداد، ثم زعم أن كل ذرة منها (يلاحظ إننا نستعمل كلمة ذرة هنا في شيء من التجوز لأن الذرة المادية تختلف عن الذرة التي فرضها ليبنتز في أن للأولى امتدادا وإنها تقبل التجزئة، واما الثانية فروحية تتألف من القوة لا من المادة) حقيقة متميزة مستقلة الا انها في الوقت نفسه تشمل صورة الكون بأسره في جوفها وتمثله أدق تمثيل. وبقدر دقتها في هذا التصوير والتمثيل يكون دنوها من الكمال، فهي فردية من ناحية وكونية من ناحية اخرى. ولابد لنا لكي نفهم ليبنتز على حقيقته أن نتناول بالشرح نظريته في الذرات ثم فكرته في إئتلافها، كما نلم برأيه في المعرفة وطريقة وصولها إلى الذهن. وسنرى أنها محاولة أخرى للتوفيق بين ديكارت ولوك، فقد مزج بين ما ارتآه الأول من وجود آراء فطرية تولد مع الطفل عند ولادته ولا تجيء عن طريق التحصيل، وما ذهب إليه الثاني من ان العقل يخرج إلى هذا العالم صحيفة بيضاء ثم تخط فيها التجارب ما تشاء.
1 - نظرية ذرات القوة
مم تتكون أجزاء هذا الوجود؟ مم يتكون هذا الرجل وذلك الماء وتلك القطعة من السكر؟ يجيب ديمقريطس أن هذا الوجود على تباين ظواهره إنما يتكون من ذرات اجتمع بعضها إلى بعض، فكونت هذا الشيء أو ذاك، وينكر ديكارت وسبينوزا هذا القول ويؤكدان أن اجزاء العالم على اختلافها إنما تتكون من مادة كونية متحدة لا تنقسم إلى أجزاء لأنها عنصر أولي واحد، ولكن ليبنتز يرد الفكرتين جميعا، فهذه المادة الكونية التي فرضها سبينوزا شاملة للوجود تبرز الكون حقيقة واحدة تتلاشى فيها كل الحقائق الفردية التي نصادفها في الحياة العملية، وتلك الجزئيات التي زعمها جماعة الذريين أصلا للأجسام، لابد ان تكون (نظريا على الأقل) قابلة للتقسيم إلى مالا نهاية، مادامت قطعا من المادة، لأن الذهن لا يستطيع أن يتصور جزءاً ماديا لا يقبل التجزئة، وإذن فهي مركبة ونحن إنما نقصد إلى أيجاد أبسط العناصر التي يمكن اعتبارها أصلا مطلقا للكون. فلابد لنا من الإمعان في البحث حتى ننتهي إلى عنصر لا يقبل التجزئة، ويكون له في الوقت نفسه وجود حقيقي ملموس. ولا تصلح النقطة الهندسية أن تكون هي العنصر المنشود. لانها تحقق شرطاً واحداً وهو عدم قابلية التقسيم، ولكن لا يتوفر فيها الوجود الحقيقي، كذلك لا يجوز أن نفرض جسما ماديا كائنا ما كان حجمه، لأنه وإن توفر فيه الوجود الحقيقي، لا يحقق شرط البساطة، إذ لا يسعنا الا أن نتصور إمكان تجزئته إلى مالا نهاية له من الأجزاء. يقدم ليبنز هذا الاعتراض، ثم يزعم أن ذرات القوة هي العنصر المنشود. لانها موجودة لا ريب في وجودها. وليست مادية حتى تتهم بإمكان التقسيم. وهي فضلا عن ذلك منبثة في الكون بأسره، هذه القوى الأولية هي التي تتكون منها حقيقة كل شيء، فهي العنصر الذي بنيت منه المادة والروح على السواء. وهي تختلف عن المادة التي فرضها سبينوزا في انها ذرات فردية لا نهائية في عددها وطبيعتها. أما مادة سبينوزا فهي كتلة متحدة متجانسة كما تباين ذرات ديمقريطس في أنها ليست مادة متينة بل مشحونة بالحياة والحركة. وهي ليست مجرد تكرار الصورة بعينها بل متباينة مختلفة إلى أقصى حدود التباين والاختلاف في الكيف والفاعلية. حتى إنك لا تجد في الكون كله ذرتين متشابهتين، لأنه لو كان ذلك لكان خلق إحداهما عبثا لا مبرر له. ولهذه الذرات القوية (نسبة إلى القوة) خاصتان: فهي في آن واحد شاملة للكون ومنعزلة عنه. هي من ناحية وحدات بسيطة مستقلة وليس لها نوافذ تطل منها على العالم الخارجي أو ينفذ لها شيء منه، لا يمكن أن توجد من عدم كما يستحيل أن تعدم بعد وجود الا بإرادة الله. كل واحدة منها عالم صغير يسير بمقتضى طائفة من القوانين كما لو لم يكن في الوجود غيرها سوى الله. وهي من ناحية اخرى شاملة للكون، لانها وإن تكن منعزلة بنفسها مستقلة في سيرها الا أن لها من القوة ما تستطيع به أن تمثل كل ما يحتوي الكون من ذرات قوية، أو بعبارة أخرى كل ذرة ينعكس فيها الكون كله، بحيث لو استطعنا أن نصل إلى فهم واحدة فقد فهمنا الكون بأسره. فكل واحدة تحمل في طياتها ماضي العالم ومستقبله. ويعزو ليبنتز إلى هذه الذرات نوعا من الإدراك يختلف عن إدراك الكائنات المفكرة، أي أن هناك درجات للإدراك لا نهاية لها، ومعنى ذلك أنه لا يعترف بوجود المادة الميتة، إنما أجزاء المادة جميعا ضروب من الأحياء تختلف في كمية الحيوية والتفكير. وبعبارة أخرى يقول: أن هناك درجة من الإدراك الصحيح الكامل، ثم يأخذ هذا الإدراك في النقص والغموض كلما نزلت في سلم الكائنات، وكلما كان إدراك الذرة واضحاً وتصويرها للكون دقيقاً، كانت أكثر حيوية وأحد نشاطا، والله تعالى هو وحده القادر على ان يكون له إدراكات واضحة لا يشوبها شيء من غموض أو ما يشبه الغموض، وإذن فهو وحده عبارة عن فاعلية خالصة ونشاط مطلق، وكل مخلوق سواه من الإنسان فنازلاً إلى أحط الكائنات، يكون فعالا من ناحية ومنفعلا من ناحية اخرى، وهذا الجانب المنفعل من الذرة، أي الجانب السلبي، هو ما يسمى بالعنصر المادي. أي أن وجود المادة السلبية في الذرة القوية هو الذي يحول دون وضوح إدراكها. وبعبارة واضحة. كلما رجحت في الكائن كفة الجانب الروحي الفعال على العنصر المادي السلبي كان اكثر وضوحا في إدراكه.
وانك لترى العالم مليئا بهذه الذرات المدركة، كل منها مستقل منعزل. ومع ذلك لن تجد بينها فواصل تباعد بينها، بل هي متداخلة بعضها في بعض، متصلة على أشد ما يكون الاتصال، وهذا ما يسميه ليبنتز بقانون الاستمرار. فليس ثمة تناقض أو اضطراب. أبدأ من المادة الجامدة إلى العقل المفكر تجده طريقا واحدة متصلة يتزايد فيها الإدراك شيئاً فشيئا في تدرج غير محسوس، وسر من النبات إلى الإنسان فسترى انك انما تسلك سبيلا ليس فيها حوائل أو عثرات. بل تعلو بك قليلا حتى تنتهي إلى قمة الجبل دون أن تشعر بالصعود!
ويشير ليبنتنز إلى مراحل ثلاث تجتازها في طريقك من الكائنات الدنيا إلى طبقاتها العليا. فذرات الطبقة السفلى. أي ذرات الجماد والنبات تدرك وكفى. فهي أشبه ما تكون بالأحياء الغافية أو النائمة التي لا يرتفع إدراكها إلى درجة الشعور. والمرتبة التالية لتلك هي ذرات الحيوان، ولها فوق الإدراك ذاكرة. ولكنها لا تسمو إلى درجة العقل، وإدراكها شبيه بالأحلام الغامضة، ثم تجيء الكائنات البشرية فوق تلك المرتبة، وهي التي وهبت عقلا وشعورا بالذات. ويذكر لينتنز ان الله تعالى هو أسمى هذه المراتب جميعا فبينما تراها تتفاوت في إدراكها غموضا ووضوحا، ترى إدراكاته سبحانه وتعالى واضحة كلها.
وليست هذه الذرات مطمئنة إلى مراتبها راضية بمقامها، بل تسعى كل واحدة سعيا متواصلا إلى السمو والارتفاع نحو الكمال لا ترضى به بديلا. فهي دائبة أبداً. لا تدخر وسعا لكي تحقق هذا الكمال الأسمى بانتقالها من مرتبة إلى مرتبة حتى تصل إلى هدفها المنشود، وليس من شك في أن ليبنتنز كان بذلك القول بشيرا بمذهب دارون الذي لا يعدو جوهره هذا التطور نحو السمو والكمال.
مجلة الرسالة - العدد 20
بتاريخ: 01 - 11 - 1933