حسناء بن نويوة - حيويَّة الشِّعر في مجموعة (غُودو يأكلُ أصابعهُ) للشَّاعرة الجزائريَّة: عنفوان فؤاد

اعتاد البعض في مجتمعنا العربي على زمِّ صوت الأنثى وكبتِ توهُّجها وصدِّ ميولها وتعلُّقها بموهبة ما، اعتقادًا منه بأنَّ صوتها عورة. فنلاحظ مبدعات كثيرات انسحبنَ خجلًا وأحيانًا ضعفًا منهنَّ لنظرة الآخر. ولكن بالمقابل نجد مبدعة خرجت للعالم ساخرة وغير آبهة بما يتلقَّفها من تأويل وقراءة تعسُّفيَّة لإبداعها. إنَّها الشَّاعرة الجزائريَّة "عنفوان فؤاد" صاحبة القلم المتبصِّر والمتدفِّق في الكينونة الأنثويَّة والذُّكوريَّة على حدٍّ سواء. "عنفوان" الشَّاعرة التي تكتب بأساليب ابتكاريَّة حصِيفة، متجاوزة النَّسق العادي، محاولة الوقوف على عتبة الجدال القائم بين ما هو منظور وبين ما هو غير مألوف ودخيل على القارئ البسيط. لأنَّ ما تكتبه "عنفوان" يحتاج إلى الإصغاء والتَّأمُّل والارتحال اليسير والمتأنِّي إزاء ما ضمَّتهُ نصوصها من توحُّد وانفصال، وتصدٍّ ومواجهة. فثمَّة نصوص تُقرأ بالعين، وثمَّة نصوص تُقرأ بالرُّوح، هذه الأخيرة تأتي سخيَّة، فتَّاكة، خارقة، ودافئة، ومتَّقدة في ذواتنا كاللَّهب.

وأنا أقرأ "غُودو يأكلُ أصابعهُ" دخلت في سلسلة مفارقات وإحالات غريبة. فـ"عنفوان" شاعرة تعرف جيِّدًا كيف تسلبُ قارئها، وكيف تجرحهُ وتشفيه في الآن ذاته. وكأنَّ اللُّغة تخرج من بين أناملها كما المصل الذي يغذِّي المريض، لو حدث وغاب عنه اصفرَّ وهزلت بنيَّته. هكذا تفعل بقارئها تغذِّيه من معناها العالي على جرعات متفاوتة، لاسعة، موخزة ومربكة.
مع أوَّل قصيدة لها يسافر بك المجاز والإيحاء المفتوح على الحياة والإسقاطات التي عاشتها بدءًا من آنَّاتها، ومحطَّاتها المختلفة. نزولًا إلى منعطفات ومسالك أخرى. مندفعة، مستمدَّة عطائها وعلوَّها من هيامها بالكتابة.
تقول في المدخل:
"الكتابة تكشف عن عذريَّة دواخلنا
الكتابة خارج حدود التَّفكير
في حدِّ ذاتها مغامرة
لا يهمُّ إن كانت بعمق قبر
أم بطول ناطحة سماء."
تتابعت الأغراض التي سعت الشَّاعرة بلوغها من الكتابة، وتحصيلها من حرفها المزوَّد بالتَّفاصيل الرَّاسخة، والمشبَّع بالصُّور الوجدانيَّة الأخَّاذة. ذاك الحرف الذي يهزُّ ريشتها داخل أقفاص الأبجديَّة، الحرف الذي يلبسها وتلبسه كشريك يجيء مرارًا ليخرجها من بوتقة العزلة والأرق:
"أعجبُ لنصٍّ به مفردة بحر لا يسبح فيه أحد
وقصيدة فيها كلمة قُنبلة
نخرج منها أحياء."
ولجت "عنفوان" عالمها الإبداعيِّ بين شوك وزهر لتتحدَّى العُقد، وتُوقظ رغبتها في إنجاب أكثر عدد ممكن من الأفكار، وسعت جاهدة لأن تحفر اسمها في الجزء الفارغ من المساحات الضَّيِّقة والوحيدة. ووفِّقت في ذلك، وهذا ليس بالصَّعب عليها وهي الفراشة الشَّاعرة التي اشتهت نار المجاز وخرجت من عنق الصُّخور:
"أصابعي قصيرة أطعمت بعضًا من طولها للكتابة."
*
العدالة أن أكتب بلا رقيب
أن أمزِّق الكلمات المشطوبة
من قواميس العادة."
اعترفت "عنفوان" بولعها بالشِّعر لأجل أن تُغيِّر نظرة العالم للمعاناة الإنسانيَّة، ولم تجد سوى الكلمات متَّكأً لذلك. وحلَّقت بنا مرَّة أخرى في سموات الصَّداقة بأجمل نصٍّ رفعته إلى الشَّاعر "رياض الصَّالح الحسين"، والذي تقرُّ فيه بأنَّ الشِّعر سماء خضراء تحرثها أرواح الشُّعراء الذين سبقونا. ثمَّ حدَّدت أهميَّة الكتابة في التَّعاطي وكأنَّها لحظتها الحاسمة التي تربطها بوهج البعث والميلاد:
"لولا الشِّعر لما كبرت؟"
من هنا تؤكِّد "عنفوان" أنَّ السَّبيل من الكتابة هو الامتداد، فالكاتب لا يكتب من فراغ بل من درجة ارتباطه بكوامنه، وحالاته الشُّعوريَّة والنَّفسيَّة والجسديَّة.
القارئ لـ"عنفوان فؤاد" يتملَّكهُ الغموض والتَّساؤل حول نمطيَّة الطَّرح والتَّكتيك المتناقض. ذلك أنَّ معظم قصائدها حداثيَّة تحمل شفرات تُرسِّخ نزعة الأنا ومزاجها الثَّائر، المستفز. كما وردَ في نصِّها؛ "مُستَوحِشة كذئبة" الذي تكرَّر فيه إحساسها بالقرف إشارة إلى ما تعانيه الذَّات الكاتبة نفسها:
"أنا اليد التي أيقظت جثَّتي!
ما أكتبه الآن طازج كعفن
حرَّكتهُ دودة المعنى."
*
"أن أحبَّك أن أكتب قصيدة رديئة كلَّ يوم."
*
"منزوية
متكوِّرة
كذيل كلب أجرب
لا جليس بالجوار
يُحرِّك له ذيل الفرح."
*
"في رأسي قلب غيري.
في قلبي رأس غيري.
أنا حرف جرٍّ
يجرُّني منِّي."
*
"روحي عمياء ورأسي جرس أخرس."
كانت "عنفوان" معطوبة وممتلئة بالفراغ، ودعتنا في أكثر من نصٍّ لأن نشاركها انقباضات روحها التي تعتصر بين ضوء وظلام، وبين صحو وشرود، وبين اندلاق وجفاف. فهي لا تقول تجربتها فحسب، بل تنقل بوعيها النَّقيض ومجازها المتعالي حيوات أخرى. وترغِّب القارئ أن يتابعها باهتمام فائق ويتحسَّس من خلالها فظاعة العالم.
شكرًا "عنفوان" على المتعة التي حقَّقتها لي مجموعتك الشِّعريَّة، وعلى مواطن الإبداع العميق، وعلى التَّأويلات الشَّاسعة، والآفاق الأنثويَّة الآثمة والمزهرة والمستفيضة كذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى